Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الدليل على صدق نبوة سيدنا محمد

وردت إليّ هذه الرسالة ونصها كالآتي:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فضيلة الشيخ الرجاء أن تجيب صديقي المتشكك عن أسئلته المحيرة والتي بعث بها إلى أكثر من جهة ولم يلق ردًا شافيًا وهي كما يلي:

سماحة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: تراودني شكوك وتحدثني نفسي بكثير من الشبهات في العقيدة، أرجو أن أجد إجاباتها عند فضيلتكم وهي كما يلي:

  • لا إشكال لديّ في الإيمان بالله واتصافه بصفات الجلال والكمال وذلك لأدلة الكون المنظور.
  • فالإشكال عندي في النبوة، فالعدالة الإلهية تقتضي أن يكون لدى كل إنسان وفي كل عصر دليل على صدق نبوّة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- حتى يحاسب ويجازى على تصديقه أو تكذيبه.
  • الإعجاز اللغوي لا يوجد اليوم من يفهمه أو يتذوقه من العرب فضلا عن العجم –إلا من رحم ربك- وقبل ذلك هو ليس في متناول الجميع.
  • الإعجاز العلمي فيه اختلاف شديد وتأويل بعيد وتحفظ كبير من قبل كثير من العلماء المسلمين.
  • أليس من العدل الإلهي أن يكون لكل عصر نبيه الذي يخاطب الناس على قدر عقولهم وثقافتهم لم يختص الله –عز وجل- أهل القرن الهجري الأول بهذا الحق أو الشرف أليس الله قادرًا على تمكين كل إنسان من التعرف عليه وعبادته دون الحاجة إلى نبيّ حتى تقام عليه الحجة منفردًا.
  • لماذا يتعبدنا الله (تعالى) بدين يعتمد أساسا على أخبار آحاد ظنية الثبوت والدلالة (أكثر من 100 ألف حديث).
  • إن المتتبع لكثير من تفاصيل السيرة النبوية يجد الكثير من اللامنطق كإصطفائه –صلى الله عليه وسلم- وقومه دون سائر البشر (الأحاديث الواردة في النسب الشريف) تبرك الصحابه ببوله وعرقه ونخامته ودمه…
  • الأحرف السبع والخلاف فيها وفي القراءات المختلفة يثير لديّ الكثير من الشكوك كتأليفه –صلى الله عليه وآله وسلم- للقرآن وعدم قدرته على حفظه.
  • الاختلاف الكثير في الفروع الفقهية لا يساعد على المبادرة إلى العمل.
  • لماذا هذه الوسائط المتعددة بين العبد وخالقه: ملائكته، رسل، أنبياء، صحابة، أسانيد، جرح وتعديل .. إلخ.
  • أعطني دليلا يقينيا على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وادعو الله (تعالى) لي أن يزيل من قلبي هذه الشبهات.

أخوكم: م. الحائر من الجزائر.

 

الجواب:

إلى ولدنا: م الحائر من الجزائر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أولا حسنا فعلت بأن طرحت كل ما دار أو يدور في ذهنك من تساؤلات، هي في حقيقتها خواطر طبيعية تخطر لملايين الناس فلست منفردًا في شيء منها، لكنَّ الفارق بينك وبين غيرك –والله أعلم- أنك قد حولت تلك الخواطر إلى ما يقرب من درجة الأفكار، فصرت قادرًا على التعبير عنها وكأنها أفكار لا مجرد خواطر، وهي في حقيقتها خواطر استوقفتها وأخذت تقلب فكرك فيها ولمـَّا لم تجد لها جوابا شافيا اشتد عودها وأصبحت مؤثرة فيك شديدة الإلحاح عليك في طلب الجواب، ولو أنّك تركتها منذ البداية على أنّها مجرد خواطر تمر بالإنسان الملايين منها في اليوم والليلة لربما مرت كما يمر سواها ولم تتوقف عندها كثيرًا، وأصحاب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- حين نزل قوله (تعالى): ﴿ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:29) استبدّ بهم خوف شديد أن يحاسبوا على كل ما يخطر على بالهم، حتى إن بعضهم قال: يارسول الله إن كنَّا محاسبين عن كل ما يخطر على البال فإننا هالكون لا محالة فنزل قول الله (جلّ شأنه): ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..﴾ (البقرة:286)، فاطمأنت نفوسهم واستقرت قلوبهم. وقال بعضهم: والله إنني لتخطر على ذهني خواطر أتمنى لو أنني سقطت من شاهق أو مت قبل ذلك، ولم يخطر على بالي ما خطر. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطمئن هؤلاء الخائفين بعدل الله (جلّ شأنه) وعدم مؤاخذته للناس على خواطرهم المجردة التي هي أمور طبيعية داخلة في تكوينهم الذاتي.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ التساؤل الأول سؤال وجيه فأنت مؤمن بالله (تبارك وتعالى) قادك إلى الإيمان به وبعظمته كون منثور أمامك، ووحي مسطور في كتاب الله (جل شأنه) أما النبوة فقد أُشكلت عليك، وذلك لأن النبي غير موجود أمامك بجسمه وخطابه المباشر ولم يقدم لك الدليل على صدقه الذي يسمونه بالمعجزة، والنبوة قد أشكلت على البشرية منذ وقت مبكر، وما من نبيّ ولا رسول جاء قومه برسالته إلا وطالبوه بما يثبت تلك الرسالة ويعززها؛ لأنّ عملية الاتصال بين عالميّ الغيب والشهادة عملية غيبية نادرة لها ضوابط وشروط، يريد الإنسان وهو من عالم الشهادة أن يتأكد باستمرار أنّ الرسول القادم إليه وهو من البشر مثله لا يختلف عنه في شيء كيف يصدق في دعواه النبوة، والمعجزات الحسية تكون قد انتهت، فلابد من سبل أخرى لإثبات نبوّة من عُرفوا بأنهم أنبياء ورسل بعد وفاتهم ومرور القرون على ظهورهم وظهور أقوامهم وظهور المعجزات على أيديهم، وهنا تبقى الآثار التي تركوها والتراث الذي خلفوه، والآثار أنواع وأشياء وأشخاص وأفكار، فيكون بين أيدي الأجيال التالية تلك الآثار التي قد تكون حسية مثل سور الصين وأهرامات الفراعنة وقد تكون آثارًا فكريّة مثل منطق أرسطو وكتابة الأورجانون، وروما وآثارها وبيزنطة وفارس وما إليها، فكل تلك آثار تدل على وجود أشخاص وأقوام بنو حضارات وخلفوا ما يدل على أنهم كانوا موجودين في فترة من فترات التاريخ، والبشرية اليوم تعلم أن هناك قادة تاريخيين قدموا للبشرية دساتير وقوانين واخترعوا مخترعات، فهناك قوانين حمورابي التي تمتد إلى آلاف سابقة من السنين سواء منها ما كتب على مسلة أو ما ترك في برديات وما إليها، ولا أحد يشكك أو يشك في أن الأهرام بناها الفراعنة، والجناين المعلقة بناها البابليون والقلاع الرومانية بناها الرومان، فإن هناك طرقا لتناقل المعرفة بين البشر غير المشاهدة واللمس بحواس اللمس اعتادت البشرية أن تتقبل بها ومن خلالها المعارف وتتداولها، وهناك الكعبة المشرفة كان العرب يعرفون أنها بيت الله ويعظمونه وأنه البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل قبل بعثة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بآلاف السنين، فتصور أنّ الرؤية والحس هي مصادر المعرفة لما مضى تصور يحتاج إلى مراجعة فالسمع والتناقل ووجود آثار تعتبر من وسائل المعرفة التي تدل على وجود الموضوعات التي تناولتها في أزمان سابقة، وبتلك الطرق عرفت البشرية وجود السومريين والأكاديين والآشوريين والفراعنة والفينيقيين والهكسوس، وقبائل الغالة الذين تحولوا إلى فرنسا، والسكسون الذين تحولوا إلى بريطانيا، والجرمان الذين أصبحوا ألمانيا الحديثة.

وهكذا، فإذن هناك طرق ووسائل ومناهج تخضع لها قضايا المعرفة، فهناك أمور لا تدرك إلا بالسمع وهناك أمور لابد من إدراكها بطرق المشاهدة وهناك أمور تدرك بالعقل والحجج والأدلة على كل شيء من ذلك بحسبه، فما لا يمكن إدراكه إلا بالسمع لا يمكن أن تشترط لصدق السمع في إدراكه أن يعزز بالبصر أو اللمس، وما يدرك بالعقل لا يطالب العاقل بأن يقيم الدليل عليه من الحس؛ لأنّ وسائل إقامة الحجة عليه وسائل منطقية فلسفية يكتفي العقلاء عادة بها عن طلب غيرها، والنبوة إخبار عن غيب وتعليم في شهادة حينما تقرأ في القرآن الكريم حوار الأمم مع أنبيائها وإلحاحهم على أولئك الأنبياء بالتكذيب ودعوى بعضهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (الفرقان:21)  وقال (تعالى): ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً * قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (الإسراء94:96)  فهنا تجد أن أسباب رفض بعض الأمم لتصديق أنبيائها لا علاقة لها بمعايير الصدق والكذب بل هي عائدة إلى أن تلك الأمم لم تكن تؤمن بلقاء الله في الآخرة، وكانت تتسم بالغرور والكبرياء، ولا ترى أن لله حق الاختيار ليصطفي من الملائكة ومن البشر لنفسه رسلا يرسلهم إلى الآخرين، فكانوا يرون أن هؤلاء الرسل بشر مثلهم لا يفضلون بشيء من الأشياء فلِمَ يفضّلهم الله عليهم ويختارهم ويصطفيهم لرسالته، وهذا كما ترى غرور وتحكم، فالنبوة بعد وفاة النبي تعرف بآثار تركها ذلك النبي من أشخاص وأشياء وأفكار، وأمتنا بالذات منحت العقل والاجتهاد، وفيها فرصة أداء أدوار لم يمنح العقل الإنساني فرصة أداء مثله فيما مضى، فلم يكن الاجتهاد وسيلة من وسائل المعرفة الدينية، أمَّا في هذه الأمة فإن الاجتهاد مصدر من مصادر التدين لا مراء فيه، وبذلك نستطيع القول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر هذه الأمة إلا بعد اكتمال الدين، وإيجاد أمة آمنت به وحملته، وإيجاد تراث تداوله الأجيال، وإيجاد عقل برهاني له صلاحية القبول والرفض، والأخذ والرد لما يعرض عليه من أمور، فالآثار التي تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذه الأمة الممتدة بملايينها الكثيرة والمنتشرة في الأرض كلها، وهي تدل بمجموعها على أن هناك رسولا نبيا جاء في مرحلة من مراحل التاريخ يحمل رسالة للبشرية صدّقه بعضهم وكذبه البعض الآخر، وهؤلاء الذين آمنوا به وصدقوا هم من يسمون بالمسلمين اليوم، تناقلوا ذلك جيلا بعد جيل، حاملين الكتاب الذي أوحي إليه وتلاه عليهم وعلّمهم إياه وزكاهم به، وبالإيمان به صاروا مؤمنين مسلمين، ولهم أن يقرأوا هذا الكتاب ويفهموه بقراءة بشرية، وإذا تمسكوا به فلن يضلوا؛ لأنه بمثابة النبي المقيم بينهم، وما يزال هذا الكتاب متفوقا متميزًا قادرًا على تقديم كل ما قدمه فيما مضى من هداية وصلاح، والبشرية اليوم بلغت رشدها ولديها من الإمكانات العقلية والعملية ما تستطيع أن تقرر ما إذا كان هذا الكتاب ما يزال قادرًا على تقديم الهداية والإرشاد والنصح لها والتأكيد على القيم العليا من العدل والحرية والمساواة وحقوق الإنسان وتآخي البشر وكونهم من نفس واحدة وجعل الفوارق كلها فوارق تعريف وتعاون لا فوارق تضاد وتعارض أم لا، وهذه الأمور كلّها تستطيع البشريّة أن تحكم فيها دون حاجة إلى الإعجاز اللغوي أو البلاغي أو العلمي إذ يكفي للبشرية أن تجعل هذا القرآن مصدرًا من مصادر هدايتها، فكما تبنّى بعض البشر في أوروبا وأمريكا علوم اليونان والرومان يمكنها أن تنظر في القرآن الكريم وتقارن بين ما جاء به وما جاء في غيره لتحكم له أو عليه، ولتتبين ما إذا كان هو الأهدى سبيلا والأحسن تفسيرًا والداعي للتي هي أقوم أو أن هذه الصفات قد زايلته بمرور الزمن.

إن القرآن يحتاج منَّا إلى أن نحسن فهمه والتعامل معه على مستوى عصرنا وثقافتنا المعرفية، وتقديمه إلى البشرية باعتباره كتابًا يصلح أن يكون مصدرًا إن لم يكن أهم مصادرها فليكن من بين أهمها، وآنذاك يحكم أهل العلم والعقل والمنطق عليه بالقبول أو الرفض، وإذا حكموا له فقد انحازوا للدين كله، فكأنهم حكموا بصدق وجود إبراهيم في التاريخ وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد –عليهم الصلاة والسلام-، وليس من حق البشر أن يرفضوا القرآن قبل النظر فيه. لعلي بهذا وضعت بين يديك شيئًا مما يمكن أن يساعدك في طريقة التفكير ولا أقول أن يجيبك على تساؤلك.

أمّا قولك إن من العدل أن يكون لكل عصر نبي فلا شك في ذلك، وكل عصر بعد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ترك فيه نبي ألا وهو القرآن الكريم، فكأن النبوة تحولت من النبي الذي يتلو الآيات إلى الآيات يتلوها عباد الله بقدراتهم البشرية، ويفهمونها وتتكشف لهم عن مكنوناتها في كل عصر وفي كل مصر؛ ولذلك فقد نص الله (تبارك وتعالى) على أنّ في هذا الكتاب الكريم مكنونا –والمكنون هو المخبأ الذي يتكشف بحسب حاجة الناس وسقوفهم المعرفية وتطور أحوالهم-فالقرآن المجيد بقراءة بشرية هو النبي المقيم لكل العصور، والفرق بين عصورنا هذه وعصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عصر رسول الله مثل عصر جيل التلقي فكان واقع الناس يصوغ إشكاليّاتهم وأسئلتهم، ويتنزل القرآن لمعاجة تلك الإشكاليات، أما في عصرنا هذا والعصور التي تأتي بعدنا فإننا مطالبون أن نصوغ إشكاليَّاتنا ونحوّلها إلى أسئلة نطرحها على القرآن المجيد ونقرأها بأنفسنا ونتعمق في فهم معانيه؛ لنحصل منه على إجابات في إطار الكليات والعمومات والمقاصد، تنير لنا السبيل لمعالجة قضايانا بأنوار القرآن وهدايته، وإذا كان جيل التلقي قد حظى بشرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتلقي المباشر عنه فإن الأجيال التالية قد حظيت بصحبة القرآن وبالإضافة إلى ما ورثته من معاني آياته عن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لها الحق في تدبر القرآن واستنباط معانيه وفقا لسقوفها المعرفية المتطورة المتغيرة، والحكم بكلياته وعموماته على الوقائع بفهمها الذي أوتيته ولا تثريب عليها، فإن هي أصابت كان لها أجران أجر الاجتهاد وأجر بلوغ الصواب، وإذا أخطأت بعد الاجتهاد فإنّ لها أجرًا واحدًا هو أجر الاجتهاد وإن أخطات سبيل الوصول إلى الحقيقة المطلقة. وهذا الشرف شرف دائم مستمر؛ ولذلك أمرت البشرية كلّها بتدبر القرآن الكريم والغوص على معانيه: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(محمد:24).

أما عن قولك إن الله يتعبدنا بدين يعتمد أساسا على أخبار آحاد ظنية الثبوت والدلالاة (أكثر من 100 ألف حديث)؟ فهذا غير صحيح، فالله (تبارك وتعالى) قد ذم الظن وقرنه بما تهوى الأنفس وقال: ﴿ .. إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (النجم:23) وقال: ﴿.. وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (النجم:28) ولذلك فإننا متعبدون أصلا بما استيقنته قلوبنا من كتاب الله (تبارك وتعالى)، وكتاب الله تبيان لكل شيء، وقد ذكر بعد هذه الآية أمره (جل شانه) بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي، قال (تعالى): ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل:89-90)، وذلك كله يدل دلالة ظاهرة على أن الله (تبارك وتعالى) قد تعبدنا بالقرآن نصًا واستدلالا، والسنة النبوية إما أن تأتي مما يوافق القرآن نصًا أو بما يتفق معه استدلالا، وكل سنة صحيحة ثابتة لابد ان يكون لها في القرآن أصل، يعلمه من يعلمه ويجهله من يجهله، والخلط في مجال السنة والسيرة بين الطلبة والدعاة كثير ويحتاج إلى تجلية وتصفية، وقد كتبنا في مواضع كثيرة مقالات وبحوث في هذا المجال نحيلك عليها وهي موجود معظمها على موقع العلواني يمكنك الإطلاع عليها.

وسؤالك عن الأحرف السبعة فحديث الأحرف السبعة حديث مختلف فيه، وهو غير ما يتعلق بالقراءات السبعة أو العشرة، والقراءات السبع أو العشر كانت رخصة وتيسير من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قبائل العرب الذين لم تكن ألسنة بعضهم ميسرة لقراءة القرآن بسهولة، فكان يرخص لهم بأن يقرأوا كما يستطيعون، وقد انتهى ذلك الترخيص بتمام القرآن وكماله ومعارضته بين رسول الله وجبريل مرتين قبل واحد وثمانين يوما من وفاته –عليه الصلاة والسلام- وكان يفترض أن لا يعود أحد للقراءة بتلك القراءات بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة بعد كتابة المصحف الإمام، ولكن الرغبة في التعالم وإظهار المعرفة وما ثار ضد عثمان من مشكلات سياسية أدت إلى التقليل من شأن أعماله رضي الله عنه وفي مقدمتها جمع القرآن في مصحف، كله أدى إلى استمرار تداول تلك القراءات وتعزيزها أحيانا بذلك الحديث، حديث الأحرف السبعة الذي إذا صح من رواياته شيء فإنما يصح على المرحلة الأولى، مرحلة الترخيص والتيسير النبوي على الناس لا على المراحل التي تلت ذلك. وهناك أمور يفترض ألا تثار خارج إطار بحثي في أكاديميات ودور علم متخصصة مثل قضية القراءات والأحرف السبعة وما إليها، ولكن شيوع الأمية الدينية جعل كثيرًا من الناس يرددون أحاديث وجدوها في كتب طبعت دون تحقيق أوتدقيق أو نظر فيما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة، ودون نظر فيما إذا كانت قد رويت بالمعنى فدخل فيها رأي الراوي مع روايته ودون تفكير في المناسبة التي وردت فيها.

وهذا شيء كتبته عن علاقة السنة بالقرآن: اللهم إنّا نبرأ إليك من جميع أولئك الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، أمّا نحن فنؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرسل منه ومبلغ عنه، تلا علينا كتابه حق التلاوة، وعلّمنا ما فيه، ويبين لنا آياته، ومناهج اتباعه، واتبعه في كل ما جاء به أمرا ونهيا واختيارا، وأن من أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث ورد في القرآن مثلها نصا، وأخرى ورد مثلها في القرآن جملة، وهناك أحاديث ثابتة أو صحيحة، وهناك أحاديث بينت منهج اتباع النبي للقرآن، فزاد بعضها لأنّ فيها تعليما. وهناك أحاديث قد يهم البعض فلا يرى أصلها في القرآن لأنها ترجع إلى كليات القرآن وعموماته مثل: ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (النساء:80)، قال الشافعي: كل ما سن رسول الله مع كتاب الله من سُنة فهي موافقة لكتاب الله في النص بمثله، وفي الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون اكثر تفسيرًا من الجملة؛ وذلك من الصلوات والمناسك. وقال الشافعي: وما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس في نص كتاب فبفرض الله طاعته عامة في أمره تبعناه” ثم قال: ورسول الله عربي اللسان والدار، فقد يقول القول عاما يريد به العام، وعاما يريد به الخاص، ويسأل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة، ويؤدي عنه المخبر الخبر متقضى والخبر مختصرًا، والخبر يأتي ببعضه معناه دون بعض، ويسن في الشيء سنة وفيما يخالفه أخرى، ويُسن سنة في نص معناه، فيحفظها حافظ ويسن في معنى يخالفه سنة غيرها، فإذا أدى كل ما حفظ رءاه بعض السامعين اختلافا، وكل ما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه إلا طاعة الله باتباعه القرآن وطاعتنا باتباع القرآن؛ ولذلك فإن أهل العلم يرجحون الحديث المتفق عليه مع الكتاب على غيره، فالقرآن مصدق على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومهيمن عليها، فلا يسن رسول الله سنة لازمة لا أصل لها في الكتاب ولا يصدق الكتاب عليها، ولم تكن السنة لتخالف كتاب الله، ولا تكون السنة إلا تبعا لكتاب الله بمثل تنزيله أو مبينة معنى ما أراد الله، فهي بكل حال متبعة كتاب الله”. ولقد كان الشاطبي –يرحمه الله- دقيقا حين قال تعقيبا على قوله (تعالى): ﴿.. تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:89): ومن الأشياء التي بينها القرآن السنة النبوية، فالقرآن هو الذي يبين حجية السنة ويبين أصلها، وضرورة طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وينفي عنها تأويلات الجاهلين وانتحالات المبطلين، وأكاذيب ووضع الكذابين والوضاعين،  والله أعلم[1] .

وعن الفقه فيفترض في المكلف العاقل الواعي إمّا أن يكون قادرًا على الاجتهاد فواجبه في هذه الحالة هو الاجتهاد، وإذا لم يكن قادرًا على ممارسة الاجتهاد فليجتهد في تبني ما يكون دليله أقوى من أقوال المجتهدين، أو يكون أقرب إلى تحصيل المصالح إذا كانت المسألة مما يندرج تحت تحقيق المصالح، أو الأقرب إلى المقاصد الشرعية، ومقاصد القرآن العليا الحاكمة من توحيد وتزكية وعمران، وليس للمكلف أن يتوقع مثل ما كان كثير من بني إسرائيل يريدون بأن يخاطب الله كل منهم بخطاب يخصه، فالله (سبحانه وتعالى) يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، والبشر غير متساويين في قدراتهم وقابلياتهم، ولو تساوو لما اتخذ بعضهم بعضًا سخريًا ولما قام نظام الحياة. فحدد دورك يا أخي الذي تتطلع إليه وحاول أن تؤهل نفسك له ولتعلم أن النبوة والرسالة، اصطفاء من الله واختيار وليست وظيفة واكتسابا يكتسبه الإنسان بمؤهلات تخصه، والاجتهاد مشاع بين البشر ولكل منهم فيه نصيب؛ ولذلك فقد عده بعض علمائنا فريضة على كل مسلم ومسلمة، فمن لم يستطع الاجتهاد بنفسه فليجتهد في تبني أدق أقوال المجتهدين وما يمكن أن يقون الدليل عليه من تلك الأقوال.

يا بني إن الشيطان حين ينفرد بإنسان فياويل ذلك الإنسان من عداوته وما يثيره، والشيطان قد يدفع الإنسان الذي تفرد به لغفلته عن ذكر الله إلى التساؤل عن الله ذاته (جل شانه) فيستدرجه من سؤال إلى آخر، ويأتيه من طرق تبدو أنها سليمة كأن يقول له علمنا أن الله خلقنا فمن الذي خلق الله، لكن الإنسان الذي يريد الله به الخير يبادر إلى الاحتماء من الشيطان –الذي أمرنا الله (جل شأنه) أن نتخذه عدو- إلى ذكر الله، فذكر الله أحسن حماية للإنسان من وساوس الشيطان، وأعلى أنواع الذكر قراءة القرآن بقلب مخبت متدبر، قد لا يدعه الشيطان عند القراءة الأولى بل قد يزداد كلبا في محاولة حرفة وصرفة، ولكن عليه أن يسأل الله (جلّ شأنه) وأن يتضرع إليه بأن يجعل بينه وبين الشيطان وأعوان الشيطان بالقرآن حجابا مستورًا، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: 98-100).

والله يقول في سورة الزخرف: ﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (الزخرف: 36-37).

فلتكن معركتك يا بني مع الشيطان معركة ننتصر بها –إن شاء الله- عليه، وتباعد بين نفسك وبينه، وتسد منافذة إلى قلبك، واستعن بالله على ذلك، وأكثر من قراءة القرآن بتدبر وتأمل وإنابة وخشوع، وتخلّص بكل ما تستطيع من خصال الكبر والغرور فإن ابن آدم مخلوق ضعيف أوله نضفة مذرة وآخره جيفة قذرة وهو بينهما يحمل العذرة، ولولا تكريم الله له لما كان شيئا مذكورًا، لكن الله كرّمه ومنّ عليه بهذا النبيّ العظيم والكتاب الكريم، وعرّفه بنفسه وبذاته العليّة، وليكن لك ورد قرآني يومي لا تغفل عنه ولو كان يسيرًا لا يتجاوز آيات معدودات تقرأها في الصباح والمساء، إضافة إلى ما تقرأه في صلواتك.

وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وهدانا وإياك إلى سواء السبيل، ولا حرمنا وإياك من اتباع سيد المرسلين، والاهتداء بكتاب رب العالمين إنه سميع مجيب.

 

 

 

[1]راجع الرسالة للإمام الشافعي، باب العلل في الأحاديث، بشيء من الاختصار. والموافقات للشاطبي مباحث الكتاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *