بناء المفاهيم في إطار الرؤية الكونية القرآنية
قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 36)
ظهور الإسلام على الدين كله ظهور منهج، وليس بالضرورة ظهور شرعة إلا في إطارها الإيماني الأممي، والمنهجية هي تقنين للفكر، ودون هذا التقنين يتحول الفكر إلى تأملات وخطرات انتقائية قد تكون مجدية في وقت ما، ولكن ينقصها الضابط المنهاجي لتفادي التلفيق والذي ليس من سمات المنهج، والمنهجية القرآنية المعرفية هي المصدر المؤطر للشرعة ولإعادة فهم أصول الأحكام، وملامح هذه المنهجية المعرفية القرآنية بدأت من خطاب حصري اصطفائي إلى خطاب عالمي في إطار تجربة عصر التنزيل، ثم إلى خطاب عالمي بنسق مفتوح للبشرية جمعاء، والهدف من إعادة بناء المفاهيم القرآنية هو تأصيل الرؤية الكونية القرآنية ومنهجية القرآن المعرفية، لتقديم القرآن للبشرية كمصدر حيوي وأزلي مطلق للحكمة الإلهية بمفهوم بشري يقود الإنسانية نحو وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة المعرفة الإنسانية، فيعيد بناء العلوم الطبيعية والاجتماعية على أساس نظرة للكون تجمع بين الإيمان بالغيب والشهادة، وتهتم بالإنسان في كليته، ولا تقتصر على تجديد الرؤية العلمية والقيمية انطلاقا من نموذج معرفي قائم على رؤية توحيدية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى تجديد النموذج الجمالي الذي كان القرآن ذاته أعظم آياته، حيث تنطلق من رؤية جمالية تتجاوز الرؤية الغربية القائمة على مركزية الطبيعة ومحاكاتها، إلى رؤية تنظر فيما وراء الطبيعة، من الشهادة إلى الغيب، ومن المتناهي إلى اللامتناهي، وتعتبر الإنسان لا مركزا للكون فحسب حر التصرف، بل خليفة لله، لا فردا خارج كل سياق، بل تنتبه لكون علاقته بالله وبغيره هي أحد أبعاد تكوينه، لا مجرد سلوكيات قابلة للحساب الكمي، بل كإنسان يجمع في تركيبه عالمي الغيب والشهادة وينطلق من أهداف وقيم ومعايير وليس من الدوافع المادية الغريزية، وهناك منهج ناظم لهذا القرآن المعادل للكون، واكتشاف هذا المنهج المعرفي للقرآن الكريم وبلورته من أهم ما يمكن أن نقوم به في وقتنا الراهن من أجل إعادة بناء المفاهيم في إطار الرؤية الكونية القرآنية.