أ.د/ طه جابر العلواني
كان الكثيرون من طلبة العلم والدعاة والمنضوين تحت رايات الحركات السياسيَّة والأحزاب والهيئات الدعويَّة يرون أنَّ الناس مسلمون في سائر بلاد المسلمين، ويفترضون فيهم حب الشريعة والتطلع إلى تطبيق أحكامها كاملة، وأنَّ كل ما ينقصهم أن يوجد قادة سياسيّون أو حكَّام يقررون تطبيقها، وذلك في إطار الموجات التي مرت بها بلاد المسلمين بعد تحررها من الاستعمار، حيث كان الكثيرون يرون أنَّ الاستعمار التشريعي ركن الأساس من أركان الاستعمار الثقافي والغزو الفكري، وأنَّ تحرير بلاد المسلمين وتحررهم لن يتم ولن يكتمل إلا بتطبيق الشريعة، وطرحت أراء عديدة في هذا المجال، فبعض البلدان المسلمة غيَّرت قوانينها المدنيَّة واستبدلتها بقوانين وتشريعات صيغة موادها من الفقة الإسلاميّ، وبذلك اعتبروا أنَّهم قد حققوا إنجاز كبير يضاف إلى الإنجازات السائدة في مجال النظام العائليّ، النكاح والطلاق والنفقة والحضانة وما إلى ذلك، وذلك قد يكون صحيح من جانب ولكن الشريعة هي الإسلام كلّه، فالله (تبارك وتعالى) شرع لأمم الأنبياء من الدين شرائع تتناول تنظيم سائر شئون وشجون الحياة، وشرع لنا من الدين ما وصى به نوح: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ (الشورى:13)، وجعلنا على شريعة من الأمر وأمرنا باتباعها ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية:18)، لكن الهجمة الأوروبيَّة الاستعماريَّة على بلداننا منذ دخل نابليون مصر ومنذ أن بدأت الدولة العثمانيَّة بتغيير نظمها وقوانينها الفقهيَّة التي استمدت عامَّة موادها من فقه الإمام أبي حنيفة وبنيت على أصوله، ونحن نبتعد يوم بعد آخر عن فقهنا والشريعة التي قام عليها واستمد منها، حتى لم يبق لبعض البلدان المسلمة من الشريعة إلا الإسم، والاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، وتعطيل يوم الجمعة، والاحتفال برمضان دخولًا وخروجًا، وبعض المظاهر البسيطة الأخرى، ولما بدأ المسلمون يستيقظون؛ شعر الكثيرون أنَّ نظم حياتهم لم تعد إسلاميَّة، وأنَّها في حاجة إلى مراجعة وتعديلات لتحكيم الإسلام من جديد، والشريعة الإسلاميَّة في تنظيم شئون الحياة وتفاصيلها، ولما انطلقت الصحوة في بلاد المسلمين باعتبارها جزء من الصحوة العالميَّة غمرت العالم كلّه، أدرك المسلمون الفجوة الكبيرة بين عقيدتهم وشرائعهم وشريعتهم وفقههم، وبين المعمول به في تنظيم حياتهم من نظم وقوانين، فتعالت الأصوات في كل مكان تطالب بضرورة العودة إلى تطبيق الشريعة وتحكيمها.
انتشر ذلك بين المسلمين في الهند، واستعمله من يلقبه إخواننا الباكستانيّون بالقائد الأعظم محمد علي جناح، الذي استعمل الدعوة إلى تطبيق الشريعة استقلال المسلمين الهنود عن الهند في دولة خاصَّة بهم؛ ليتمكنوا من تطبيق الشريعة وممارسة حياة إسلاميَّة في ظلالها بدل مما تتبناه الأكثريَّة في الهند من نظم وقوانين، وقامت باكستان بعد ذلك لتكون الدولة المنشودة التي تطبق فيها الشريعة الإسلاميَّة، وتقام فيها الحدود، وسخر المسلمون كل إمكاناتهم ودخلوا حروب مع مواطنيهم لتحقيق هذا الهدف، وإقامة دولة إسلاميَّة في باكستان، وقامت باكستان ثم أخفقت في ما سمته تطبيق الشريعة، وجاءت بعد قيام الباكستان تجارب أخرى في بلدان مختلفة، كل منها أخذ من الفقة الإسلاميّ جانب قام بتقنينه، وعمل على بيان أنَّه قد بدأ يطبق الشريعة، ولأسباب كثيرة آلت الدعوة إلى تطبيق الشريعة والمشاريع التي تبنت ذلك إلى أن تجعل من الدعوة إلى تطبيق الشريعة دعوة إلى تطبيق النظام العقابيّ أو التشريع الجنائيّ كما هو في الفقة الإسلاميّ، واعتبرته العنوان الرئيس لتطبيق الشريعة، فوجدت الشريعة بهذا المفهوم رفضًا في كثير من بلاد المسلمين وبدأ النظام العقابيّ الإسلاميّ يناقش باعتباره نظامًا وحشيًّا خاليًا من الرحمة، يتجاوز حقوق الإنسان ويسلب كرامته، وما إلى ذلك من افتراءات افتراها أولئك المعارضون لتطبيق الشريعة، وبدأت تتكون نفرة من حواجز نفسيَّة بين المسلمين وبين تطبيق الشريعة بذلك المفهوم الضيق، بل صار الخوف يستبد بكثير من أبناء المسلمين، فيستخدمون سائر الاعتراضات والشبهات وسائر المجادلات التي وضع أسسها مشتشرقون خصوم للشريعة وخصوم لأهلها، فإذا قال الدعاة نريد تطبيق الشريعة ينسى هؤلاء أو يتناسون أنَّ الشريعة هى الدين كلّه، وأنَّها نظام الحياة بمجموعه، وبدأوا يطرحون اعتراضهم على قطع يد السارق الذي سيحرمه من الكسب المشروع، وأنَّه عقوبة قاسية لا تتناسب الجريمة التي لابد أن يكون وراءها دوافع، ينبغى أن تأخذ بنظر الاعتبار، وقد يدَّعي بعضهم أنَّه أرحم للعباد من ربهم وخالقهم -والعياذ بالله، أو أنَّه أقدر على وضع التشريعات المناسبة لهم، وكان هؤلاء يتهافتون في السقوط فيما لا ينبغى لمسلم أن يسقط فيه، للفصام النكد الذي وقع بينهم وبين الشريعة لقرونٍ عديدة، والذين سقطوا فريسة اختلاط المفاهيم واضطرابها والخلطط بينها، وتعضية قضايا الشريعة وتمزيقها، بحيث صارت تغمض على فهم أهلها وتستعصي عن مدركاته، وفتن الناس بهذا الأمر، وفي النصف الثاني من القرن الماضي برزت تيارات الإسلام السياسي، فكانت قضيَّة تطبيق الشريعة تطرح بشدة من فصائل البعث الإسلاميّ والصحوة؛ لإحراج الحكَّام المسلمين أمام جماهيرهم، وإشعار تلك الجماهير بأنَّ هؤلاء الحكَّام لم يعد لهم من الإسلام إلا الرسم والإسم، فهم لا يطبقون الشريعة وإذا طبقوا شيء منها فإنَّهم يأخذونه مجزأ لدعم حكمهم وسلطانهم لا لخدمة شرع الله، ولا لإعلاء كلمته، وطرحت مشاريع وبرامج سياسيَّة استندت إلى المرجعيَّة الإسلاميَّة، وتبادلت الاتهام مع مخالفيها من الحاكمين ومن أصحاب المشاريع السياسيَّة الأخرى، فالآخرون يصفونهم بالرجعيَّة والغياب عن العصر والعيش في الماضي، وهم يرمون الآخرين بالكفر والبدعة والزندقة والفسق وما إلى ذلك، وقد اضطهد أصحاب المناداة بتطبيق الشريعة والعودة إليها، ودفعوا أثمان باهظة من حريَّاتهم، بل دفع بعضهم حياته ثمن لتمسكه بضرورة تطبيق الشريعة، وزلزلوا زلزالًا شديد في كل بلد من بلاد المسلمين، فما زادهم إلا إصرارًا، وما زاد خصومهم إلا استكبارًا ونفورًا، وبقيت الفجوة تتسع بين الفريقين والناس تتمايز، وبرزت ظاهرة ازداوجيَّة عجيبة، بحيث صار المسلم والمسلمة يحيون حياتهم كما يحياها الإنسان الغربي أو من له دين آخر، ولا يجدون في ذلك غضاضة، في حين ينظر إليهم المنادون لتطبيق الشريعة على أنَّهم قد خرجوا من الملة، وابتعدوا عن الدين الحق، ولم يعد لديهم ما يربطهم بالإسلام.
والصراع بين الفريقين يشتد ويعلو ويرتفع وينخفض في بعض الأحيان، لكنَّه لم يحسم لصالح إى من الفريقين، ولما جاء بعض الإسلاميين إلى السلطة في بعض البلدان جوبهوا برفض ومحاصرة، فأمريكا وحلفاؤها دخلوا في حرب مع أفغانستان لم تنته حتى اليوم، تحت شعار أنَّ طالبان حطمت تماثيل قيمة تاريخيَّة لبوذة، ورجمت زانية أو اثنتين، وقطعت أيدي بعض السارقين، فعدوا بذلك حكومة وحشية ترتكب جرائم ضد الإنسانيَّة باسم الدين، تستحق أن تقاتل، وهناك بلدان كانت تطبق النظام العقابي الإسلاميّ فاضطرت للتوقف خوف من أن تفرض عليها الدول الغربيَّة أنواع من الحصار والعزل السياسي لو استمرت في تطبيق التشريع الجنائيّ الإسلاميّ الذي اعتبره الأمريكان وحلفاؤهم ضد حقوق الإنسان ومناقضًا للبيان العالمي للأمم المتحدة الذي اشتمل على بيان حقوق الإنسان، وقامت قيامة الغرب على نيجريا لأنَّ محكمة من محاكمها الإسلاميَّة حكمت على زانية بالرجم، فقدمت ألمانيا الجنسيَّة الألمانيَّة فورًا لهذه السيدة، ومنحتها لجوء، واحتضنتها مؤسساتها، واستخدمت قضيَّتها بشكل واسع، واسُتغلت للتنديد بالشريعة الإسلاميَّة وبيان مدى وحشيَّة المسلمين وأثارة روح الكراهية لدى المسلمين .
وحدث مثل ذلك في السودان والصومال وغيرها.
ولما جاءت موجات الربيع العربي وحملت إسلاميين في بعض البلدان إلى السلطة بدأت عمليَّات تحريض شديد استخدمت فيه كل الوسائل ضد الإسلاميين لإبعادهم عن السلطة أو لإسقاط من وصل لديهم فعلًا ورفض شعارهم المعروف “الإسلام هو الحل”.
ولقد كنت أتابع كثير من المناقشات التي تدار من الإعلاميين مع بعض المفكرين والمفكرات، بل مع رجال ونساء من عامَّة الناس، وهم يسألونهم عن الشريعة وتطبيق الشريعة، فكنت أحزن لردود أفعالهم، ويصيبني كثير من الأسى حين أستمع لإنسان رجل أو امرأة يعلن على الملأ أنَّه مسلم وأنَّه لا تفوته صلاة من صلوات اليوم والليلة ولا فريضة من الفرائض، ومع ذلك أنَّه يرى أو هي ترى أنَّ تطبيق الشريعة أمر غير مناسب، وأدركت لما رفض رسول الله عرض قريش عليه أن يتسلم السلطة في مكة، وأن يعينوه ملك عليها ويقدمون له من الأموال ما يجعله أغنى رجالها، ومن نساء قريش أجملهن؛ ليستمتع بالمال والجاه والسلطان كما يشاء، وأنَّه لن يقطعوا أمرًا دونه، رفض رسول الله ذلك لأنَّ الرسالة لا تأتي من فوق، ولا يخضع الناس لها بأعناقهم، فرسالات الله (جل شأنه) تحتاج أول ما تحتاج لتزكية النفوس وطهارتها، وإيمان القلوب وقنوتها، وإخباتها لله (جل شأنه) وفهمها ومعرفة مقاصدها وغاياتها والإيمان بأنَّها الأصلح والأجدى والأقوم سبيلًا، فإذا خالطت بشاشتها القلوب ولانت لها النفوس -آنذاك- سوف لن يرضوا بها بديلًا، ولن يحولهم أحد عنها تحويلًا، وسوف يتشبثون بها، ولن يتخلوا عنها، بل قد يتخلون عن نفوسهم فداء لها؛ لإيمانهم أنَّهم أمام شريعة الله العليم الخبير، ولإيمانهم أنَّه حق كلّها وأحسن تفسيرًا، وليقينهم بأنَّه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها فإنَّهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل شيء منها في عدله وإنصافه وصلاحه للناس والحياة.
فقلت في غير مقالة أنَّ الصراع بين المسلمين في ديار المسلمين هو صراع بين مرجعيتين، مرة تأخذ شكل الصراع بين الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة أو جيل التلقي وجيل ما بعد الحداثة، وأنَّه لابد من وعي الفريقين بأنَّ صراعهما ليس صراع حق وباطل ولا خطأ وصواب، بل صراع بين مرجعيَّة الذات ومرجعيَّة المسيطر والغازي الذي جعل من الذات مجرد موضوع يبحث فيه ويدقق في أطرافه؛ ولذلك فلن يكون الحل بمن يحكم ومن يكون في السلطة، ومن يكون جمهور لها، بل هي معركة بين مرجعيتين وحضارتين وثقافتين وغايتين ونظامين، لا تحسم بالصراع الدموي، ولا تحسم من فوق بقرارات سلطويَّة، بل تحسمها الحوارات الفكريَّة، وحسم معارك الأفكار، فإذا استطاع المسلمون أن يستعيدوا شخصيَّاتهم ويستردوا ذاتهم من الاستلاب، وينفضوا الغبار عن مرجعيّتهم، ويدركوا أنَّها كافية وافية، ويقنعوا فصائلهم التي شردت ونفرت وأخذت اتجاهًا آخر وطرق مغايرة، فلن تحسم هذه المعركة، وسيظل الصراع قائمًا في بلاد المسلمين، وسوف يجدون أنَّهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وإذا تداول السلطة إنَّما يتداولونها بشكل دموي قصري لا بتدوال سلميّ ولا حضاريّ، إنَّه لابد من الحوار ولابد من الوعي ولابد من مناقشة الأفكار على اختلافها وتنوعها والاهتداء بهداية الله، يقول الإمام الغزالي: إنَّ الله (جل شأنه) قد أعان بني البشر برسولين رسول من خارج يتمثل بأولئك الأنبياء والمرسلين الذين هداهم الله، ورسول من داخل ألا وهو فطرة الإنسان المهتدية، وعقله المسدد المرشد، فاذا تضافر الرسولان الخارجي والداخلي فإنَّ الإنسان يصل إلى الهداية والسبيل السوي .
إذن يا قومنا أقيموا الإسلام في صدوركم، يقم في أرضكم، وطبقوا الشريعة في عقولكم وقلوبكم، وثبتوا إيمانكم بها؛ لتطبق على أرضكم، ويرى الناس عدلها، وحكمتها، وصلاحها، لا لكم وحدكم، بل للبشريَّة كافَّة، ولا تستعجلوا تطبيقها مبتورتًا، ولا تحولوها إلى مجرد شعار، فما أعظم عند الله من ذلك، وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّها المؤمنون لعلكم تفلحون.
والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والقادر عليه.