د. طه جابر العلواني
كان الأمل كبيرًا أن يتولَّى الأزهر ومؤسسات المجتمع المدنيّ وقادة الرأي في الوطن وضع مسودَّة مشروع حضاريّ للنهوض بمصر سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وتربويًّا وتعليميًّا، ومن المؤسف أنَّنا بعد مرور كل هذه الشهور لم يستطع قادة الرأي والفكر فينا أن يقدموا للشعب “مشروعًا حضاريًّا كاملاً” يحمي شعبنا من سائر المخاطر التي تهدده ويسمح بتجنيد طاقات سائر أبناء الأمَّة بإعادة بناء البلاد التي أوصلها الفاسدون والمفسدون إلى خطوط الفوضى سياسيًّا، والفقر اقتصاديًّا، والجهل تربويًّا وتعليميًّا، والهبوط فنيًّا، وزرعوا الانقسامات الطائفيَّة لوضع المواطنين بمواجهة أهلهم وإخوانهم وذويهم.
إنَّنا نوجه النداء إلى جميع الغيارى على هذا الوطن والحريصين على حمايته والمحافظة عليه أن يبادروا إلى تناسي خلافاتهم وتنافسهم، وأن يجمعوا المواطنين والوطن على كلمة سواء ينبثق عنها “مشروع نهضة وإحياء وبعث وتجديد حضاريّ” قبل فوات الأوان.
ها هو عمقنا الاستراتيجي، وسلَّة غذائنا وغذاء الإقليم – كلّه – السودان الذي كان منذ عهد محمد علي جزءًا من مصر قد انفصل عن مصر بعد يوليو فخسر وخسرنا، وها هو يخسر جنوبه ونخسره معه، ومن يدري فقد يلحق بجنوبه أجزاءً أخرى في الانفصال عنه. وقد حمَّل رئيس السودان التجاهل المصري في العهد السابق للسودان وشعبه مسؤليَّة انفصال الجنوب وإقامة دولة مستقلة فيها. نرجو الله أن لا تكون قاعدة لأعدائنا وأعداء الإسلام والعروبة وإفريقيا، وأن لا تكون سببًا فى التأثير على مصالح مصر الحيويَّة والثورة وفى مقدمة المصالح الحيويَّة المهدَّدة “قضية المياه” وما قد يترتب عليها من خراب. إنَّ كلّ الدلائل تؤكِّد أنَّ معركة المياه ستكون هى معركة العقود القادمة، وها هو العراق بدأ يتفتت إلى مستوى المحافظات وأخذت كل محافظة تعلن عن نفسها أنها ستدير شئونها كلها بنفسها حتى لولم تأخذ في الوقت الحاضر صفة الدولة أو الحكومة المستقلة. فلنتق الله فى بلادنا وفي أنفسنا ولنبادر إلى العمل الجاد الذى يحتاج إلى الهدوء والتعقّل وإلى جهود كلّ قادة الرأى والعلم والخبرة وأبناء الوطن ليضعوا لنا ذلك المشروع الحضاريّ الذى طال انتظارنا له، والمشروع المطلوب هو ذلك الذي ينبغي أن يجسِّد كلُّ منَّا لنفسه دورًا فيه بحسب موقعه وطاقاته وقدراته فيه. لئلَّا يتقاعس أيّ واحد من أبناء الشعب عن القيام بواجبه وأداء دوره، أو يشعر بالإهمال والتهميش.
إنَّنا في حاجة إلى “مشروع حضاريّ قوميّ” يفجِّر طاقات جميع أبناء الشعب فلا تبقى في أحد من أبناء الشعب طاقة معطَّلة أو مهملة يبحث صاحبها عن وسائل لتبديدها في البلطجة أو المسكرات أو المخدرات أو المفتِّرات أو أي لون من ألوان الانحرافات.
لقد أقنعونا بأنَّ ثورتنا البشريَّة عبء علينا وأنَّ علينا أن نتخلَّص من هذه الثورة “بالوأد الخفي” ومشاريع تنظيم الأسرة التي سبقتنا فيها شعوب لا تؤمن بالله العليّ العظيم، ولا تؤمن بأنَّ الله – تعالى – خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها، وأنَّ ما من مولود يولد إلَّا ويكون رزقه معه في دورة حياة دبَّرها العزيز العليم. وأنَّ هذا الإنسان المكرَّم المستخلف لابدّ لمجتمعه من تربيته وتعليمه وتدريبه ليكون إنسانًا موحّدًا مزكّي عمرانيًّا قادرًا على القيام بمهام الاستخلاف والعمران، جديرًا بحمل الأمانة الإلهية. فإذا لم يكن بذلك المستوى فإنَّ المجتمع باعتباره شخصيَّة معنويَّة يعد مسئولاً عنه.