أ.د/ طه جابر العلواني
فقه الخلافيَّات كما كان يسمى في تراثنا الفقهي الإسلامي، أو الفقه المقارن كما يسمى في الوقت الحاضر: فقه عرف في عصر الاختلاف الفقهي، حين تعددت المذاهب الفقهيَّة، وتنوعت، واختلفت في كثير من القضايا، بناءً على أسباب للاختلاف، لخصها علماء الخلافيَّات في ثمانية أسباب، يزيد بعضهم فيها قليلًا وينقص البعض منها قليلًا، لكنَّها على الجملة ليست بكثيرة.
وحين نصح الأئمة أمثال الشافعي وأحمد وابن مهدي وغيرهم بالابتعاد عن التجادل في أمور العقيدة والإيمان لكيلا يؤدي اختلافهم فيها إلى الجرأة على تكفير بعضهم للبعض وجه بعضهم إلى التناظر في القضايا الفقهيَّة، فالقضايا الفقهيَّة إذا خطَّأ بعضهم بعضًا فيها فإنَّ تلك التخطئة لا تبلغ مستوى التكفير، بل تنحصر في دوائر التخطئة، مما شجع على أن ينصرف كثير من الفقهاء إلى الكتابة فيما عرف ب”خلافيَّات الفقه”، فكتب في ذلك البيهقي “خلافيَّات البيهقي”، وكتب آخرون في الاتجاه نفسه، يقارنون بين مواقف الفقهاء في بعض المسائل، ويوازنون بين تلك المذاهب، ويناقشون أدلتها؛ فينصرون مذهب على آخر لقوة دليله، أو لانسجامه مع اللغة، وكونه الأقرب إلى أن يكون المراد من لغة الشارع الحكيم، أو ما يماثل ذلك من أسباب أوردوها في تلك الخلافيَّات.
ودراسة هذا النوع من الفقه، وتدريب طلبة الفقه عليه دراسة مهمة، تؤدي إلى أن يتصف طالب الفقه بالمرونة وسعة الأفق، والبعد عن التعصب، وإدراك الفروق الدقيقة بين الشريعة والفقه، فالفقه: فهم إنساني في الشريعة. والشريعة: وضع إلاهي، يستنبط منه ويتعلمه الفقيه بدراسته لنصوص الشارع الحكيم، وإدراكه لأساليب وسياقات التشريع في الكتاب الكريم وفيما ورد من سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد حاول الفقهاء وهم يؤسسون؛ ويؤصلون لعلم الخلافيَّات؛ أن ينبهوا إلى أنَّ هذه الاختلافات الفقهيَّة رحمة من الله (جل شأنه) في الأمَّة. فهي لا تحصر الحقيقة في مذهب، وتحجبها عن مذاهب أخرى، بحيث يمكن أن يقال: المذهب الفلاني حق، والمذاهب الأخرى باطلة، بل يتسع الأمر بحيث تظلله مظلة: “كل مجتهد مصيب”. منهم من يصيب الحقيقة، ومنهم من يعد مصيبًا لاجتهاده في البحث عنها، ولما بذله من جهد لبلوغها؛ ولذلك فإنَّ للمجتهد المصيب أجرين، على اجتهاده وعلى وصوله للصواب، وللمجتهد المخطئ أجر واحد؛ لأنَّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وما دام قد أحسن العمل، وبذل جهده كله في دراسة النصوص، واستقرائها، والاستنباط منها، ومعرفة دلالاتها، وما تفيده أو تشير إليه؛ فذلك أمر كاف لأن يجعل هذا المجتهد وإن أخطأ مستحقًا لثواب الاجتهاد الذي بذل فيه جهده وصدر من أهله.
لكنَّ هناك من يعيب كثرة الاختلافات بأنَّها قد تؤدي إلى ميوعة في السلوك؛ لأنَّها لا تقدم أحكامها على الأفعال والأشياء بشكل دقيق، وحَدِّي، لا يسمح بالتجاوز، وأن من يريد الحكم قد لا يدري بقول أي فقيه يأخذ أو بأيَّة رؤية إذا تعددت الآراء والأقوال يعمل، وهي دائمة التعدد، وتعددها كثير كما هو معروف.
وهنا نستطيع القول بأنَّ الحكومات والجهات المعنية بالأخذ بأقوال أئمة الفقه في وقائع الأمور وأفعال الناس يمكنها التبني أي: تتبنى الدولة مذهب أو رأيا، فتعتبر أنَّ آراء الفقهاء كلهم آراء سائغة للحكومة أن تأخذ بأيها شاءت، ولكن إذا تبنت مذهب أو رأيا فلها أن تلزم الناس به، وتبقى الآراء الأخرى بمثابة رصيد واحتياط، فإذا أثبت المذهب الأول نجاحه في معالجة الواقعة أو المشكلة فلله الحمد والمنة، أمَّا إذا فشل؛ فهناك أقوال أخرى، لفقهاء آخرين، يمكن أن ينتقل إليها، وفي ذلك كثير من التخفيف على الناس والرأفة بهم، والله أعلم.
إنَّ التفريق بين الشريعة والفقه أمر يعطي الناس سعة ومرونة. فالشريعة: وضع إلهي سائغ لذوي العقول ملزم لهم، وهو في الوقت نفسه حين ينتقل إلى الفقه، فالفقه: فهم بشري في الشريعة وليس شريعة. ولذلك فإنَّ في الشريعة من السعة والمرونة ما يعطيها القدرة الدائمة المستمرة على استيعاب مشكلات الناس ومواقفهم، والقدرة على تجاوز ذلك بعد الاستيعاب والترقية، والجدل الذي يدور في مختلف أنحاء العالم ناجم غالبا عن خلط بين الشريعة والفقه، فالشريعة ملزمة، وأمَّا الفقه فلا يلزم أحدا إلا أهله، والمجتهدين الذين وصلوا إليه، وبالتالي فللناس أن تأخذ من الفقه ما قوي دليله، وحقق لهم مصالحهم، وأحسن في معالجة مشكلاتهم، وليست الشريعة كذلك؛ ولذلك كانت الشريعة عبارة عن مجموعة من الأمور الأساسيَّة التي تشبه القواعد الدستوريَّة المحصورة المعدودة التي لا ترهق كاهل الناس، ولا تدخل الحرج عليهم في حياتهم، فالله تعالى ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ …﴾ (البقرة:286)، ﴿.. لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ..﴾ (الطلاق:7)، ﴿..وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..﴾ (الحج:78)، والشريعة: تنزع إضافة إلى القلة والحصر في نصوصها إلى الاختصار والوضوح والآيات البينات، وحصر صلاحية التشريع بالله (جل شأنه) ﴿.. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40)، أمَّا الفقه، فإنَّه لا ينحصر بأي أحد من الناس أو فئة أو مؤسسة أو هيئة، فلكل عاقل منه نصيب.
لقد حفلت العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، بمحاولات عديدة لتقنين الشريعة، أي وضعها في أشكال قانونيَّة، فقامت مؤسسات وأفراد نبهاء بتوجيه من بعض الحكومات والهيئات بإعداد وكتابة مجلات للأحكام الفقهيَّة؛ فصدرت في أواخر القرن التاسع عشر مجلة الأحكام العدليَّة عن وزارة الحقانيَّة في استنبول، وصدرت مجلة لأحكام الفقه الحنبلي في السعوديَّة، ثم في الإمارات، وصدرت مجلة أخرى في أحكام الفقه المالكي وأحكام الفقه الشافعي؛ لتكون مطروحة بشكل مواد قانونيَّة تتناول ما تتناوله القوانين الحديثة من قضايا، مثل: القانون المدني، والتجاري، وقانون العقوبات وما إلى ذلك، وأكثر ما أقبل الناس عليه وعنوا به ما يشكل بديلا للقانون المدني؛ لذلك فإنَّ الذين يستفيدون من مثل هذا المقرر الحقوقيون، والذين قد يتولون مناصب قضائيَّة، وقد يعملون بالنيابة العامَّة، ولا يعدم المشتغلون بالوظائف الفقهيَّة من فتوى وإمامة ودعوة، بعض ما فيه من فوائد، والله أعلم.
إنَّ منهجي الشخصي في تدريس هذا النوع من الفقه يعتمد أولًا: على العمل على إعادة الارتباط بين الفقه والشريعة، وبين الفقه والقرآن المجيد. فلقد لاحظت أنَّ بعض الفقهاء قد ضعف ارتباط فقهه بالقرآن المجيد، بحيث أخذوا ببعض الآيات ليجعلوا منها مجرد شواهد أو أدلة معضدة بدلًا من أن يربطوا الأحكام بها، ويستنبطوا منها ويجعلوا الفقه نابعًا من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة الشريفة، والسنن الفعلية الثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجعلونها ميدان نظرهم واجتهادهم، عنها يصدرون وإليها يردون، فذلك بالنسبة لنا هدف أساس؛ لأنَّ في الفقه كثيرا من الأمور التي تحتاج إلى مراجعة في نور كتاب الله وهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثانيًا: سنحاول أن يكون نقدنا لأي فقه انطلاقا من علاقته بالدليل وقوتها وضعفها لا انطلاقا من مكانة الإمام وشهرته، وما إلى ذلك مما أحاط بقضايا الفقه الخلافي.
ثالثًا: سوف نعمل على إبراز ما التزم الفقيه المجتهد به من قواعد ونحاكم فقهه إليها؛ لنتبين إلى أي مدى التزم هذا الإمام أو ذاك بالقواعد التي أصل لها، وبنى فقهه عليها.
رابعًا: سوف نعمل على الاقتصار على بعض المسائل التي نختارها من كل باب من أبواب الفقه، إذ إنَّ المعروف أنَّ أبواب الفقه سبعة، وأنَّ المسائل الفقهيَّة من الكثرة بحيث تستغرق من المتفرغين سنين ذوات عدد؛ لذلك فإنَّنا نفضل أن نقتصر من أبواب الفقه على أبواب منتقاة، من شأنها أن يتعلم الباحثون منها أهم ما هم بحاجة إليه، ويتمكنوا بعد ذلك أن يقرأوا ما شاؤوا في ضوء ما تعلموه، وبذلك سوف ينقسم المقرر إلى مقروء ومقرر، فالمقرر شامل لكل أبواب الفقه، لكن المقروء خاص بتلك المسائل وحدها، ونرجوا أن يتفهم الطلاب ذلك، ويبذلوا الجهد بأن يقرأوا بأنفسهم ما سوف يكون ضمن المقرر لا جزءًا من المقروء، وأرجو أن يكون هذا المنهج منهجا مقبولا سليما، مؤديا للغرض.
والله أعلم.