حد الردة، والتجديد والاجتهاد
نزول المسيح وعودة المهدي
مقاصد القرآن العليا
الموقف من السنة
20/8/2013م
يمثل الدكتور طه جابر العلواني واحدًا من أهم الإصلاحيين العرب الذين أوقفوا حياتهم من أجل البحث عن أسباب لنهوض الأمَّة الإسلاميَّة من كبوتها المعاصرة، وأحد أهم أبرز من عملوا في المجال الفقهي تصحيحًا وتجديدًا. ولا شك أنَّ مؤلفات الدكتور طه جابر العلواني، خريج الأزهر ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أثارت جدلًا طويلًا في الساحة الشرعيَّة عربيًّا، خاصةً منذ صدور كتابه “لا إكراه في الدين” الذي أبطل فيه حد الردة، مما جرَّ عليه عددًا من المقالات، بل والكتب، التي ناقشت أطروحته تلك.
يأتي هذا الحوار في هذا الوقت نظرًا للغط الكثيرين، وجرأة الصغار على الكبار، استبيانًا واستوضاحًا من الدكتور طه العلواني، لمعرفة موقفه من قضايا عديدة أرَّقت المهتمين بفكره والمنتقدين له، ولمعرفة تطورات مشروعه المعرفي.
والحوار كما هو معلوم أقرب لتوصيل الأفكار من بريد الكتب، فالكتب يتجشم لها المرء عناء الكتابة العلميَّة، أمَّا الحوار فأقرب لليوميّ والعفوي والتوضيح.
*السؤال الأول: مثَّل حد الردة مستقرًّا فقهيًا في المدونة الفقهيَّة، وكان كتابكم “لا إكراه في الدين” انقلابًا فقهيًا أيضًا على حد الردة، فهل حد الردة من الإسلام؟ وما الإشكاليَّات التي تقع لو تم ثبوته؟
– حدود الله التي جاءت بها شريعته الإلهيَّة في كتابه سميت حدودًا لما في هذه الكلمة من معانٍ كثيرة، من بينها أنَّها أمور قطعيَّة ثابتة بمثابة الحد الفاصل بين أمرين، وهي في الوقت نفسه مانعة زاجرة من تكرار الجريمة أو الذنب الذي تعلق به الحد. ومن خصائص هذه الحدود أنَّها حين تتعلق باستئصال عضو أو قصاص فلابد أن يرد بها دليل قطعي، ذلك لأنَّ الأدلة التي جاءت باحترام الإنسان وتكريمه والمحافظة عليه بكليته وأعضائه هي أدلة قطعيَّة، جاء بها القرآن المجيد في مواضع كثيرة؛ ولذلك فإنَّ الأدلة الظنيَّة لا تصلح لإهدار قيمة عضو من الإنسان أو إهدار نفسه.
وقد كانت لديّ تساؤلات حول كثير من القضايا التي ذكرها فقهاؤنا باعتبارها عقوبات تبعية أو أصلية في التشريع الجنائي الإسلامي، وكنتُ أتوقف كثيرًا جدًّا عندما يتكلم الفقهاء فيما فيه إهدار دم أو عضو من أعضاء الإنسان، وابتليت وأنا في صدر شبابي بفتوى مما يندرج تحت فتاوى الأمَّة، وذلك حين قرر مجلس قيادة الثورة لحزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1963 إعدام الحزب الشيوعي العراقي بكامله، فهذا المجلس الذي كان يحكم العراق في تلك الفترة أراد أن يستبد بحكم العراق إلى أبد الآبدين لو استطاع؛ فقرر تصفية خصومه كلهم وفي مقدمتهم -آنذاك- الحزب الشيوعي؛ فاستغل فرصة محاولة بعض العسكرين الشيعويين القيام بانقلاب ضد نظامه في بغداد سنة 1963، وقرر إعدام الحزب كله، وكلف بذلك العميد الركن “عبد الغني الراوي” قائد الفرقة الرابعة في الجيش العراقي -آنذاك، وجمع له خمسة آلاف ومائتين وخمسين شيوعيًّا من أولئك الذين تمكن حزب البعث من القبض عليهم، ونقلهم في قطارات نقل البضائع في قيظ العراق الذي لا يُطاق إلى سجن “نُقرة السلمان” في جنوب العراق على الحدود السعوديَّة في صحراء قاتلة تصل درجة الحرارة فيها 50 فهرنهايت في الظل، فما بالك في الشمس! وقد استطاع الحزب أن يستصدر فتاوى من إمام الشيعة -آنذاك- السيد محسن الطبطبائي الحكيم والشيخ محمد الخالصي ومفتي السنة في العراق الذي كان يحمل لقب مفتي العراق الشيخ نجم الدين الواعظ، وقدم الفتاوى الثلاث إلى السيد عبد الغني الراوي ليطمئن قلبه ويقوم بإعدام تلك الآلاف في اثنتي عشرة ساعة، من الساعة السابعة صباحًا إلى السابعة مساءً، ووضع تحت تصرفه طائرة هليكوبتر، ومجموعة من الجند الرماة ومبالغ من المال لتوزيعها عليهم بعد انتهاء المهمة. وأمره بتنفيذ عمليَّة الإبادة هذه دون تردد ودون استثناء، وأنَّه يكفيه أن يسأل المتهم عن اسمه وتاريخ انتمائه للحزب الشيوعي أو أنصار السلام … أو أيَّة واجهة من واجهات الحزب -آنذاك. وطلب من السيد الراوي أن يعطي رئيس الجمهوريَّة وأعضاء مجلس قيادة الثورة كلمة التمام في السابعة مساءً ويعود إلى بغداد، وأكد عبد السلام عارف رئيس الجمهورية وأحمد حسن البكر رئيس الوزراء –آنذاك- وبقيَّة أعضاء مجلس قيادة الثورة، بأنَّ هؤلاء “مرتدون” أوجب الإسلام قتلهم!
والرجل كان يصلي خلفي في المسجد الصغير الذي كنت أخطب فيه الجمعة وأؤم المصلين فيه، فكان يعرفني ومن المعجبين بخطبي وطريقة تفكيري، وفوجئتُ في الساعة الثانية بعد منتصف الليل من إحدى ليالي الأسبوع الأول من تموز يوليو بسيارة عسكريَّة وحرس يأتون إلى منزلي، فظننتُ أنَّهم جاؤوا للقبض عليّ، ثم نظرتُ من سطح الدار فرأيت السيد الراوي وحرسه فنزلتُ مسرعًا ورحبتُ به وأدخلته المنزل، فقال: يفترض أن أذهب بعد ثلاث أو أربع ساعات إلى “نُقرة السلمان” لتنفيذ تلك المهمة، وأطلعني على فتاوى أولئك الأئمة فلفتَ نظري أنَّ الأئمة الثلاثة اجتمعت كلمتهم على إباحة إعدام الحزب الشيوعي لإلحاده، ولأنَّه يرى بأنَّ الدين “أفيون الشعوب”، وقال لي بأنَّ ضميره غير مستريح تمامًا؛ ولذلك، وثقةً منه بي رغم شبابي وبعدي عن المناصب والألقاب الدينيَّة العليا لكنَّه يثق بي ثقة تامَّة، فإن أيدتُ فتاوى هؤلاء العلماء فسيذهب لتنفيذ المهمة بصدر رحب منشرح، وإن خالفتهم وكان لي رأيٌ آخر فسيأخذ برأيي لا بآرائهم، فنهضتُ وأتيتُ بدستور حزب البعث قبل تعديله وأطلعته على المادة الأولى من دستور حزب البعث وفيه يقول دستور الحزب: يؤمن الحزب بالماركسيَّة اللينينيَّة بتطبيق عربي، وفي المادة التاسعة من الدستور ينص على أنَّ الحزب يؤمن بأنَّ الإرث والهبة كسب غير مشروع وأنَّ أيَّة حكومة يقيمها الحزب يجب أن تتصدى لهذه الأفكار والمبادئ وترفضها…
فقلتُ له: إنَّ زعم مجلس قيادة الثورة أنَّ الشيوعيين مرتدون لإيمانهم بالماركسيَّة اللينينيَّة، فكل الفَرْق بين الشيوعيين والبعثيين أنَّ الشيوعيين أمميون والبعثيون قومييون، فهذا شيوعي يلبس غطاء الرأس الروسي والبعثي شيوعي قد يلبس الغترة والعقال(!) وأنَّ المعركة هي معركة سياسيَّة بالدرجة الأولى يريدون استغلال الإسلام فيها، ولا أرضى لك أن تكون أداة في تصفيَّات سياسيَّة ولا أن يستغل الإسلام من سياسيين ملحدين ليكون سلاحًا بأيديهم ضد خصومهم؛ ولذلك فلا أرى إقحام الإسلام ولا المسلمين في هذا الأمر.
ثم قلت له: وإذا أردنا أن نحلل الأمر سياسيًّا، فإنَّ البعثيين يرون أنَّ الشيوعيين والإسلاميين معًا عقبة في طريق نظامهم، وأنَّهم سوف يصفُّون الشيوعيين بالإسلاميين ويقتلونهم بيد واحد مصلٍ مثلك، وقد يقتلونك قبل أن تعود من نُقرة السلمان ويقولون: إنَّ رجعيًّا مجنونًا ذهب بدون إذن الحكومة البعثيَّة لإبادة العناصر التقدميَّة، فيضربون الإسلاميين، ولن يعدموا أن يجدوا شيوعيًّا أو أكثر يقوم بمجزرة مماثلة للإسلاميين فيصفو لهم الجو ويستبدوا بحكم العراق كما يرغبون، وإذا كان عبد السلام عارف يريد أن يقنعك ويقنع نفسه بأنَّ المعركة إسلاميَّة فهناك الكثير من البعثيين الذين لا يخفون إلحادهم كأي شيوعي آخر مثل علي السعدي وعبد الكريم مصطفى نصرت وأمثالهم، فليعطوا لك بعض القيادات البعثيَّة الملحدة لتقوم بتصفيتهم مع ملحدي الشيوعيين، ويصدروا قرارًا بأنَّهم سيقومون بتطبيق العقوبات والحدود الإسلاميَّة في دولتهم –آنذاك- يكون لكل حادث حديث. وأخبرته أن تحليلي أنَّك حين تعتذر فلن ينفذوا الأمر؛ لأنَّهم لن يستطيعوا أن يجدوا إسلاميًّا مثلك يعلقون عليه هذا الموضوع وينجزون خطتهم للإجهاز على الإسلاميين والشيوعيين معًا.
وذهب الرجل من بيتي إلى القصر الجمهوري ليعتذر عن المهمة، وحين اعتذر عنها لم ينفذها البعثيون بل صدر مقال لميشل عفلق ليعلن أنَّ على الرفاق الشيوعيين الانضمام مع حزب البعث وتشكيل جبهة وطنيَّة موحدة تضم الحزبين لمقاومة الرجعيَّة العربيَّة، والانتصار عليها في معركة التقدم والتحديث والتحرير والاشتراكيَّة، وذكر أنَّ هناك مؤامرة رجعيَّة كانت تستهدف الحزب، وأنَّ رفاقهم البعثيين قد أنقذوهم في الساعات الأخيرة.
ولقد درستُ في تاريخنا الإسلامي كيف كان يستخدم الحكَّام المستبدون هذا الذي سموه بـ”حد الردة” ضد أطهار ومجاهدين ودعاة من معارضيهم ليقضوا عليهم باسم الإسلام وباسم الردة، بحيث يحرموا من تعاطف الجماهير معهم فيقتلون بدم بارد، ويحوقل العامَّة ويسترجعون وينتهي الأمر، فأعطيت لهذا الأمر 12 سنة من حياتي درسته من جميع جوانبه الفقهيَّة ودرست جميع آيات القرآن وجميع الآحاديث التي استدل الفقهاء بها، ووجدتُ أنَّ في القرآن مئتي آية تقرر الحريَّة وتحميها وتأمر بالمحافظة عليها وعدم المساس بها، وأنَّ الله قد أعطى للبشر حريَّة الإيمان وحريَّة الكفر وقال: ﴿… فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ …﴾ (الكهف:29)، وأنَّ هذه النصوص العديدة غير قابلة للنسخ ولا التغيير ولا التبديل، وأنَّ الأحاديث الواردة درست أسانيدها ومتنها وخرجت بتقييم لكل حديث وفقًا لمناهج المحدثين، ودرست أقوال الفقهاء وعصورهم والضغوط التي وجهت إليهم، وجمعتُ أسماء العديد من كبار علماء الأمَّة ودعاتها الذين عارضوا حكّام أزمنتهم فحكم عليهم أولئك الحكَّام بالردة، أنقذ الله بعضهم بالفرار أو بتوسط علماء آخرين لهم وقُتل بعضهم فعلًا.
وحين أعددت كتابي “لا إكراه في الدين” أعددته لوجه الله -جل شأنه-، ولتنقية تراث هذه الأمَّة من أمر ما كان ينبغي أن يعتبر من القضايا المجمع عليها، وقد خالف فيه أمير المؤمنين عمر وكان لا يرى قتل المرتد، وكذلك إبراهيم النخعي وسفيان الثوري، وكثير من العلماء الذين حوصرت أقوالهم وفتاويهم ولم يسمح لها بالانتشار انتصارًا للفتاوى التي تبناها علماء السلطة وحكَّام أزمنتهم. فمن له اعتراض على ما قدمتُ فليرد عليّ ردًّا علميًّا موضوعيًّا، وليناقش ما عرضته بمنهج علماء أصول الفقه وعلماء الحديث ومن إليهم…، أمَّا أن يرفض كل ما توصلت إليه لمجرد أنَّه لم يألفه ولم يأتِ على ألسنة مشاهير أو العلماء الذين حولهم جماهير، فذلك أمر آخر لا يتسم بعلميَّة ولا موضعيَّة. فليقرأ هؤلاء المشككون دراستي تلك وأنا مستعدٌ لتقبل أي نقد أو اعتراض بشروطه. والله من وراء القصد.
*السؤال الثاني: ينعت الكثير الدكتور طه جابر العلواني بوسم “التنويري” ولابد أن تُفهم آراؤه ومواقفه داخل هذه المقولة، فهل كان موقفكم من حد الردة هو موقف عصراني تنويري للتوفيق بين الإسلام والغرب؟ أم هو موقف فقهي بالأساس لا علاقة له بالواقع المعيش؟
– التنويري نسبة إلى التنويريين من الأوروبيين والفرنسيين بالذات الذين أسَّسوا لحركة الأنوار التي انطلقت من فرنسا ثم عمَّت أوروبا وتعم العالم اليوم. وصار اللقب لقبًا تشريفيًّا يُطلق على كل من يُعنى بالإصلاح والتجديد، فإذا أرادوا امتداحه أو عزله عن آخرين يُطلقون عليهم أنَّهم ظلاميُّون أو رجعيُّون قالوا فيه إنَّه تنويري. وبهذا المعنى لا أميل إلى أن ألقَّب بتنويري؛ فالقرآن الكريم وإن كان كتابًا أخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن يحملونه يحملون إلى الناس نورًا ويخرجون الناس من الظلمات -أيًّا كانت- إلى النور، لكنَّني أميل إلى أن أكون مسلمًا فحسب، دون أيَّة ألقاب إضافيَّة: ﴿… هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا …﴾ (الحج:78)، فيكفيني أنَّني مسلم موحدٌ من أمَّة الشهادة على الناس وواحدٌ من الأمَّة التي وصفت بالخيريَّة والوسطيَّة، ولستُ بحاجة إلى لقب مستورد مترجم له إيحاءاته وظلاله وينبه إلى فلسفة لأمم أخرى كان لها أثرها في تلك الأمم والشعوب.
وما كتبته في الردة هو إبراز لشيء موجود في تراثنا كان ممن تبناه من السابقين الصحابي الجليل عمر ابن الخطاب الذي حين ذكروا له أنَّهم قتلوا مرتدًّا قال: أما أنا فلو رفع أمره إليَّ لأمرتُ أن يحبس وأن يطعم في كل يوم رغيفًا حتى يتوب أو يموت؛ أمَّا حبسه فلئلا ينشر أفكاره بين الناس ويثير البلبلة في صفوفهم. فالذي قلته في كتابي “إشكاليَّة الردة” ينسجم مع مذهب هذا الإمام الجليل والخليفة العظيم وكذلك مع مذاهب بعض الفقهاء الذين تأثروا بمذهب عمر -رضي الله عنه- وقالوا به.
ولم أكتب ما كتبت تحت ضغط حضارة غربيَّة أو سواها، وإن كان السؤال واردًا على ألسنة الغرب في الوقت الحاضر حين يتحدثون عن حقوق الإنسان وعن حريَّة التعبير.. وما إلى ذلك.
لكن موقفي هو موقف إسلامي قائم على مبدأ المراجعة للتراث والتاريخ، وما قمتُ به في هذا الكتاب، وفيما سأصدره بعد ذلك، يندرج تحت إطار “المراجعات” التي سنَّها لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والأئمة من بعده.
*السؤال الثالث: معلوم اشتغالكم بأصول الفقه، فقد رأستم عمادة تدريسه في أكثر من جامعة، ومعلوم كذلك أنَّ هذا العصر هو عصر التجديد الفقهي والدعوة لتجديد أصول الفقه، ما تقييمكم لحركة التصحيح الفقهي الحديثة؟
– قبل دخول نابليون مصر، كانت حركات الإصلاح كلها تنشأ وتنمو وتتسع في الداخل الإسلامي، بحيث تكون بمثابة مذاهب أو مقولات كلها إسلاميَّة ناشئة في الساحة الإسلاميَّة، تنمو فيها وتعيش ما شاء الله لها أن تعيش ثم تنتهي في داخل هذه الساحة. أمَّا بعد دخول نابليون مصر، فقد بدأت حركات الإصلاح تأخذ أشكالًا أخرى، حيث كان لصدمة الاتصال بالغرب أثرًا على الحركة الإصلاحيَّة بعد أن اكتشف البارود وطُرق المواصلات واكتشف رأس الرجاء الصالح بصورة خاصة والطريق إلى الهند…، بعد ذلك، أصبحت الأفكار الإصلاحيَّة والتجديديَّة في العالم الإسلامي يدخل فيها عنصر الفكر الخارجي ليمتزج بأفكار الإصلاح والتجديد النامية في داخل المحيط الإسلامي.
هذا التداخل والاحتكاك أدى إلى بروز اتجاه خطير لدى حركات الإصلاح والتجديد في المحيط الإسلامي، أفرز فكرًا جديدًا يمكن تسميته “بفكر المقاربات”؛ أي: يحاول أن يوفق بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، ويوجدون نوعًا من التماثل بين معطياته وبين فكر المسلمين. وذلك يعني؛ أنَّ المفكرين المسلمين قد وجدوا مقياسًا جديدًا يقيسون الفكر إليه ليتقرر ما هو إصلاحي تجديدي وما ليس كذلك، ألا وهو الأفكار والاتجاهات الغربيَّة؛ لأنَّ المقاربة تعني أن تعتمد مقياسًا أو أصلًا أو مرجعيةً تقيس إليها وبها ما هو صالح أو إصلاحي وما ليس كذلك.
ثم تطور فكر المقاربات إلى فكر المقارنات، فصار الكُتَّاب المسلمون يقارنون بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، فإذا قيل إنَّ الفكر الغربي قد أقام الديمقراطيَّة على انتخاب الشعوب لقيادتها في مختلف المستويات وشكَّل مجالس مثل البرلمانات والشيوخ ليعينوه في تدبير أموره العامَّة وتصريف شؤونها؛ فالكاتب المسلم يستطيع أن يقول لك: إنَّ لدينا في الإسلام “الشورى” وهي تؤدي من الأغراض ما تؤديه الديمقراطيَّة. وفي هذه الحالة، لا يخرج المفكر عن اتخاذ الغرب مرجعيَّة ومقياسًا يقيس به فكره واجتهاداته وتراثه، وكل ذلك دليل هزيمة ولا يمكن أن يؤدي إلى إصلاح حقيقي. بالنسبة لنا، حاولنا في إسلاميَّة المعرفة أو حركتها والاتجاهات الفكريَّة التي أدت إليها وتفرعت عنها أن نقدم بدائل عن الفكر الغربي، فلا نهمله بل نستوعبه ونتجاوزه، نقدّم بديلًا إسلاميًّا عنه، فكانت خطوة تجاوزت فكر المقاربات والمقارنات، لتعتمد الفكر الإسلامي مرجعًا وبديلًا عما تقدمه المدارس الغربيَّة على اختلافها.
فإن كنت منتميًا لتيار، فإنَّني أنتمي إلى تيار يؤمن: بأنَّ الإسلام ليس بحاجة إلى الاستيراد أو تسول الأفكار والمقترحات إذا التزم المسلمون بالقرآن المجيد واتخذوه مرجعًا لصناعة رؤيتهم الكليَّة وعقيدتهم الإيمانيَّة، وبدأوا يولِّدون الأفكار التي يواجهون بها تحديات العصر من كتاب ربهم وهدي وسنَّة نبيهم وسيرته -صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّهم بذلك سوف يستغنون عن عمليَّات الرجوع إلى مرجعيَّات مغايرة لها وعليها.
*السؤال الرابع: تمثلون يا دكتور في عالمنا العربي وغير العربي كذلك أحد الأوجه الهامَّة في التجديد الشرعي، هل لكم أن تحدثونا عن أبرز ملامح تياركم التجديدي؟
أولًا: الملمح الأول أنَّني منذ وقت طويل استخدم المناهج التراثيَّة نفسها في نقد التراث إيمانًا مني بأن ليس من العدل مع أي مشروع تراثي أن نقايسه أو نحاكمه إلى غير مناهجه التي نشأ بها وقام عليها، بل لابد من استخدام ذات المناهج التي نشأ ذلك التراث بها؛ ولذلك، فإنَّني حين أؤكد أنَّنا بحاجة إلى تجديد في علم الكلام فإنَّني استخدم المناهج التي قام بها علم الكلام في البيئة المسلمة وتطور داخلها، وذلك يعود على نقدي بفوائد عديدة أهمها: أنَّني أكون أقدر على فهم أزمات ذلك التراث وأسبابها من داخلها.
ثانيًا: إنَّني مؤمن بأنَّ القرآن المجيد قد جرت عمليَّة تهميش متعمَّد لدوره في بناء معرفتنا، وأنَّه كثيرًا ما استعمل باعتباره شاهدًا أو معضدًا لأمور أخرى عقليَّة أو منطقيَّة أو معرفيَّة أو منبثقة من تقاليد شائعة. فلذلك، فإنَّني أحاول أن أعيد القرآن إلى مركز الدائرة حين أنقد ذلك التراث وأحكم عليه من مداخل التصديق والهيمنة والاستيعاب والتجاوز، وهي كلها مداخل قرآنيَّة.
ثالثًا: إنَّني أعتمد على نقد أئمة التراث بعضهم للبعض وأصطفي من أقوالهم وأختار وأنا أعاير أو أزِن أيَّة أطروحة مما طرحه أهل العلم.
رابعًا: تراثنا عرف المذاهب والفرق في وقت مبكر؛ ولذلك فإنَّك دائمًا تجد مستدلًا ومعترضًا، وللمستدلين تراث وللمعترضين تراث، ومعرفة مدارك ومآخذ المستدلين والمعترضين تعين الناقد بشكل جاد على تفكيك أيَّة أطروحة وإعادة تركيبها بأدوات ومناهج مستنبطة من المحيط المعرفي الإسلامي.
السؤال الخامس: ادعى الكثير أنَّكم تنكرون نزول المسيح –عليه السلام- وعودة المهدي المـُنتظر، فما موقفكم الفقهي والمعرفي من هذه القضيَّة المثيرة؟
-هذا سؤال عُرض علينا كثيرًا، وأجبنا عنه، لكن يبدو أنَّ الكثير مازال يستنكر ذلك نظرًا لغلبة التقليد عليهم، فلو أنَّهم تحرروا من التقليد قليلًا ونظروا في الأمر بدءًا من موقف القرآن المجيد من هذه المسألة وجعلوا كل ما عدا القرآن تابعًا له يدور حوله حيث دار، يفتقر إلى تصديق القرآن عليه وهيمنته لما صعب عليهم الوصول إلى ما وصلنا إليه ولعرفوا موقفنا جيِّدًا. ونحن هنا نبينه بصورة سريعة غير مخلة، فنقول: هناك قاعدة أساسيَّة لا نظن أنَّ أحدًا يختلف عليها من المسلمين، ألا وهي: خاتميَّة الرسالة المحمديَّة وختم الوحي بالقرآن الكريم، وأنَّ الله –سبحانه- لن يرسل أحدًا إلى العالمين مرَّةً أخرى، كما قال الله –جل شأنه-: ﴿… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا …﴾ (المائدة:3)، وكما قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ …﴾ (الأحزاب:40) . وبناءً على هذه القاعدة الأساسيَّة، ينتفي نزول أحد للعالمين بعده –صلى الله عليه وآله وسلم- وعدم نزول أيِّ وحيٍ بعد القرآن المجيد الحافظ لكل شيء والمهيمن والخاتم، فلو كان هناك حاجة للبشر في مجيئ نبيّ آخر بعد الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم- لأخبر بذلك الله -جل شأنه- في كتابه العزيز، ولو أنَّ السيد المسيح أرسل مرتين مرة قبل بعثة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- ومرة بعدها لأخبر القرآن بذلك، والسيد المسيح حين أمر بالتبشير بسيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ﴿… وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ …﴾ (الصف:6)، ولو أنَّه قادم بعد أحمد مرة أخرى لقال: “ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وسآتيكم بعده كما جئتكم قبله، لأعالج خلافاتكم ومشاكلكم” وما كان ربك نسيان، كما أنَّ الله –جل شأنه- قد قال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (البقرة:253)، ولم ترد أيَّة إشارة في هذه إلى أنَّه سيأتي ثانية ليحقق ما لم يحققه في رسالته الأولى، وقال -جل شأنه- فيه: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ …﴾ (آل عمران:49)، فرسالته خاصَّة ببني إسرائيل، وليست عالميَّة، ومن الإضلال للناس أن تنفى عالميَّة رسالة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- المنصوص عليها وتصادر لتنسب إلى رسول خصه الله ببني إسرائيل وخصهم به، وقال في رسوله محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- في معرض عموم رسالته: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل:63-64) أي لبني إسرائيل من يهود وأهل كتاب؛ فالمسئول عن بيان المختلف فيه للبشريَّة ليس السيد المسيح مع إيماننا به وحبنا له ولأمه الصديقة، ولكن محمدًا –صلى الله عليه وآله وسلم- هو المكلف بحكم عالميَّة رسالته ببيان الذي اختلف فيه على الرسل السابقين.
وأمَّا ما استدل بعض المفسرين به من أنَّ السيد المسيح –عليه السلام- قد رفع وما دام قد رفع إذًا لابد أن ينزل، فهو كلام لا يستحق أن يناقش؛ لأنَّ الرفع يقال تارة في الأجسام والمحسوسات: ﴿… وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ …﴾ (البقرة:63) و(البقرة: 93)، وفي المعنويَّات قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ (الشرح:4)، ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ …﴾ (غافر:15)، وفي قوله -جل شأنه : ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ …﴾ (النساء:158)، يريد أن يرد على يهود وأعداء السيد المسيح الذين زعموا أنَّهم قد تمكنوا منه وأهانوه بتكليفه بحمل الصليب والسير به إلى الموضع الذي أرادوا صلبه فيه، فهم بذلك قد أرادوا إذلاله وتحقير شأنه، والتقليل من شأنه، فقال –جل شأنه- مبينًا ضعفهم وخذلانهم : ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ (النساء:157-159) فاليقين أنَّه لم يقتل بأيديهم؛ لأنَّهم قد بلغ بهم الغرور حد توهم أنَّهم تمكنوا من قتل رسول الله إليهم وصلبه، فنزهه الله عن ذلك، وبيَّن خذلانهم، وضعف تدبيرهم، وأنَّ الله –تعالى- قد رفعه، (بل رفعه الله إليه) رفعًا معنويًّا، وشرَّفه ونصره وهو الفرد على يهود وعلى الحاكم الروماني، وعلى كل أولئك الذين أرادوا به سوءًا، وما يزال أهل الكتاب سواء الذين كذبوه من يهود، أو الذين آمنوا به من النصارى في شك والتباس من قضية صلبه، ورفعه –عليه السلام.
ولا يلزم من إثبات الرفع حسيًّا كان أو معنويًّا أو كليهما ونفي الصلب يقينًا أنَّ الله –جل شأنه- لم يتوفاه بانتظار إعادته إلى الأرض ثانية، ذلك لأنَّ الله -جل شأنه- قد قال: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (آل عمران:55).
وسيدنا عيسى حينما أورد الله –جل شأنه- الحوار معه في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة:116-118) ولو كان هناك مجيئ ثاني له بعد الوفاة بوصفه رسولًا لربما قال لربه سوف أصحح ذلك وأبيِّن لهم أنَّهم مخطئون لكنَّه –عليه السلام- أكد أنَّ مهمته قد انتهت بوفاته ورفعه، ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
وقد استدل بعض المفسرين والقصاصين بآيات الزخرف: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ (الزخرف:57-65)، وآية (57) ضربه الله سبحانه وتعالى مثلًا بقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران:59)، فالقادر على أن يخلق آدم من طين ومن دون أبوين قادر على أن يخلق المسيح من أم بدون أب، ومع ذلك فقد أنكر العرب ذلك، وزعموا كثيرًا من الأباطيل التي كان يرددها اليهود وغيرهم حول السيد المسيح ليقنعوا أنفسهم بعدم الإيمان به، والصد عنه، والزعم أنَّ آلهتهم خير منه؛ لأنَّ آلهتهم معرفون لديهم في حين أنَّهم لا يعرفون للسيد المسيح أبًا، تؤكد هذه الآية: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الزخرف:59) أنَّه رسول إلى بني إسرائيل برسالة خاصَّة ببني إسرائيل، ليست بعالميَّة، ولا شاملة، ولا عامَّة، بل هي رسالة خاصة ببني إسرائيل، فكيف استطاعوا أن يجعلوا من صاحب الرسالة العالميَّة محمد بن عبد الله العامَّة الشاملة –صلى الله عليه وآله وسلم- رسولًا حصريًّا بالعرب ويستدلون بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ …﴾ (إبراهيم:4)، وهي رد عليهم، فلسان السيد المسيح قيل الآرامية وقيل السريانية، وقيل العبرية.
وكان من أهم ما استدلوا به قوله -جل شأنه: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ (الزخرف:61) فاعتبروا أنَّ السيد المسيح يأتي قبل القيامة بقليل علامة على قيام الساعة، على اعتبار أن الضمير في (إنَّه) يعود إلى السيد المسيح، والحق أنَّ بقيَّة الآية تنفي عود الضمير إلى السيد المسيح إلا إذا قلنا بأنَّ السيد المسيح باعتباره آخر الأنبياء المبشرين ببعثة محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وآله وسلم- الذي هو علم للساعة فقد بعث والساعة كهاتين، مشيرًا إلى السبابة والوسطى، فهو الذي قال بعد ذلك: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي فلا تشكن في الساعة واتبعون، ولا يمكن لأحد أن يقول: بأنَّ الأمر بالاتباع صادر من السيد المسيح –عليه السلام، بل هو صادر من محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وآله وسلم- والإشارة في (هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) في نهاية الآية تشير إلى الإسلام وإلى الوحي النازل على محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- لأنَّ السورة كلها عمودها الأساس هو الوحي إلى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- فالسورة من أولها إلى آخرها تتحدث إلى الوحي على رسول الله ورسالته العامَّة الشاملة الخاتمة العالميَّة، فالضمير يعود إلى محمد بن عبد الله الذي يعتبر عمود هذه الصورة، ومحورها الأساس الوحي النازل عليه. والذين يعرفون عادات القرآن الكريم يستطيعون أن يدركوا ذلك من خلال السياق، وبتدبر الآية الفاصلة بين ضرب السيد المسيح مثلًا وقوله: ﴿وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ (الزخرف:60) فهذه أنهت ما سبق وبدأت بأمر جديد، والمناقشة حول الوحي، فما تقولونه عن السيد المسيح وغيره نحن لسنا عاجزين عن أن نرسل ملائكة لكنَّنا رحمناكم بجعل الرسل والأنبياء من البشر لا من الملائكة لتتمكنوا من التواصل معهم والفهم عنهم واختبار معجزاتهم والتأسي والاقتداء بهم، فكأنَّه يريد أن ينذرهم بأنَّ رسالة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- هي الرسالة الأخيرة والخاتمة، وهي الإنذار الأخير لهم، فلا ينبغي لهم أن يفرطوا باتباعها والالتزام بها وطاعة رسول الله واتباعه، ثم تأتي الآية: ﴿وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (الزخرف:62) فلا يصدنكم الشيطان عن هذه الآية كأنَّها مكملة لتحذير البشر من إضاعة الفرصة على أنفسهم باتباع محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وقبول رسالته، والتمسك بها، وعدم إضاعتها، ثم ينتقل السياق ليبيِّن أنَّ ما جاء به السيد المسيح هو آيات بينات ليس فيها كل ذلك الذي ألحقه الناس بها من أوهام وتخيلات وأكاذيب، فهي آية منفصلة لا علاقة لها بما يظن أنَّه المجيئ الثاني للسيد المسيح: ﴿وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ (الزخرف:63-64)، ومع هذا البيان الصريح الواضح ودعوته -عليه السلام- لبني إسرائيل أن يؤمنوا بربه وربهم ورب العالمين جميعًا لكنَّهم مع ذلك اختلفوا ونسبوا إليه ما لم يقله، وتقولوا على الله ما شاؤوا، وذلك كأنَّه تحقيق للسنَّة الاجتماعيَّة بأن يختلف الناس بعد مجيئ العلم والوحي إليهم، ولكن هذا الاختلاف اختلاف على أمور بيِّنة واضحة تشي بأنَّ دوافع المخالفين هي دوافع أخرى مغرضة غير دوافع طلب البيان وطلب المعرفة وطلب العلم أو الدوافع الموضوعيَّة.
أمَّا الأحاديث التي رويت فإنَّها أحاديث آحاد لا يمكن أن تقاوم ما أوردناه من كتاب الله ولابد من تقديم الكتاب على ما يرويه الرواة، ونحن في ذلك لا نُكذِّب السنن، فإنَّ السنن الصحيحة لا تخالف ما جاء في كتاب الله ولا تتعارض معه ولا تتناقض بأي حال من الأحوال، وقد رأينا أنَّ هذه المسألة بالذات كيف استغلها منصِّرة العصر ليخدعوا الناس بأنَّ محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- قد يكون رسولًا وقد لا يكون، وأنَّهم -أي المنصرون- لا مانع لديهم من أن يكون رسولًا ولكنَّه رسول خاص بالعرب، فانظر إلى مكرهم ودهائهم كيف جعلوا ممن أرسله الله للعالمين كافَّة وجعله رحمة للعالمين كلهم رسولًا حصريًّا تنحصر رسالته في قبائل العرب في عصره، وجعلوا من رسول وردت كل النصوص تؤكد أنَّ رسالته منحصرة في بني إسرائيل وأكدت أقواله المنسوبة إليه ذلك ليجعلوا منه من خلال القول بما سمي بالمجيئ الثاني حامل رسالة عالميَّة وعامَّة وشاملة للبشريَّة كلها.
ونحن من موجب نظرتنا التي تنطلق من القرآن بدايةً وغايةً، نرى أنَّ نزول عيسى وما يسمونه بـ”المهدي المنتظر” هو دخيل على الإسلام، أدخله بعض المسيحين في القرون الأولى لتمرير عقائد نصرانيَّة عبر الإسلام، وتلقفته بعض الفرق مثل الشيعة وجعلت هذا أصلًا من أصولها! والقرآن الكريم قد كفانا مؤونة ذلك فختم لنا الوحي بكتاب وصف نفسه بأنَّه “الكتاب الخاتم”، وبرسول هو خاتم النبيين –عليه الصلاة والسلام، فعلى الذي يؤمن بنزول عيسى وهذه الأفكار أن يسأل نفسه: ماذا يفعل بنزوله وقد ختم الوحي؟ وماذا سيأخذ منه الناس؟ ألم يتعهد الله –جل شأنه- بحفظ القرآن الكريم هاديًا للبشريَّة ودليلًا لها إلى يوم الدين، وقد قال جل شأنه فيه: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ …﴾ (العنكبوت:51) ؟ ألم يختم لنا الرسالة بالنبي محمد بن عبد الله –عليه الصلاة والسلام- الذي هو تنزيل للقرآن على الواقع، فكأنَّه قرآن يمشي على الأرض كما وصفته أمنا عائشة –رضي الله عنها-؟!
وقد يحتج علينا أحدهم على نزول عيسى بالآية الكريمة التي يقول الله فيها: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً …﴾ (آل عمران:46). فنقول بأنَّهم لو قرأوا القرآن قراءة تكامليَّة منهجيَّة صحيحة، فلن يقعوا في هذه القراءة التجزيئيَّة لآياته مثلما يفعلون. ولو عرفوا اللسان العربي واللغة العربيَّة لما استدلوا بهذا الاستدلال؛ فنبي الله عيسى –عليه السلام- بُعث إلى بني إسراءيل في الثلاثين من عمره، وهو بداية سن الكهولة الذي يبدأ مما فوق الثلاثين حتى الأربعين، وقد بقي سنتين أو أكثر في بني إسرائيل يدعوهم إلى الاعتراف به، وإلى تصحيح مسارهم، وهناك من يرى أنَّه قضى ست سنوات أو أكثر، مما يعني أنَّه كان كهلًا: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)، وقد تكلم في الكهولة.
فخلاصة موقفنا أنَّ القرآن كتاب خاتم لن تنزل بعده كتب، وأنَّ نبينا محمدًا –عليه الصلاة والسلام- خاتم الأنبياء والمرسلين، والدين الإسلامي هو الدين الخاتم، فلا نزول لنبي أو عودة لمهدي.
*السؤال السادس: تتحدثون دائمًا عن “مقاصد القرآن الكريم” وأنَّ القرآن يدور حولها، فهي بمثابة كليَّات أساسيَّة يمكن ردّ الآيات لها، فما هي؟ وكيف نستخرجها؟
حينما نريد أن نستخرج من القرآن المجيد محاوره الأساسيَّة التي جعل منها مقاصده العليا التي دارت آياته الكريمة وسوره وأحزابه حولها نجدها منحصرة في ثلاثة مقاصد:
المقصد الأول، والمحور الأساسيّ: هو التوحيد، جاء هذا القرآن المجيد ليعلِّم البشريَّة كيف توحِّد الله -تبارك وتعالى- وتؤمن به وحده ربًا وإلهًا متفردًا في ذاته وصفاته وفي أعماله متفردًا في ألوهيَّته متفردًا في ربوبيَّته.
الأمر الثاني أو المقصد الثاني: هُوَ «التزكية» لهذا الإنسان وتعليمه كيف يجعل نفسه مزكاة، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس:9-10). فهناك تزكية وهناك تدسية، وتجعل منه ذلك الإنسان الَّذِي يستطيع أن يفي بعهده مع الله -تبارك وتعالى- ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف:172)، ولا يكن ممن يقولوا: ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف:173). والأمر الثاني في التزكية أنَّها المؤهل الأساسيّ للقيام بمهمة الاستخلاف بعد الوفاء بعهد الله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾ (البقرة:30-31)، فمهمة الاستخلاف لا يستطيع القيام بها على وجهها إلّا إنسان قد تحلى بالتزكية بكل مواصفاتها والوفاء بالأمانة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾ (الإسراء:72). هذه الأمانة لا يمكن أن يقوم بها إلّا إنسان قد تزكى، وهناك في المرحلة الرابعة اختبار الابتلاء: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ (الملك:2)، والنجاح في اختبار الابتلاء لا يمكن أن يتحقق إلّا لذلك الَّذِي قد تزكى، للإنسان الَّذِي قام بتزكية نفسه. والمرحلة الأخيرة مرحلة الجزاء ليكون الناس فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير -نعوذ بالله-، وفي هذه المرحلة أيضًا لن ينقذ الإنسان في الصيرورة إلى جهنم -نعوذ بالله- إلّا التزكية، من هنا كانت هذه التزكية مقصدًا قرآنيًّا لا جدال فيه ولا نقاش، فإذا كان التوحيد حق الله تعالى على العبيد فإنَّ التزكية هِيَ المؤهل للإنسان للقيام بكل المهام التي ذكرنا.
والمقصد الثالث: هُوَ «العمران»: الله -تبارك وتعالى- قد سخّر لنا كل هذا الكون ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم:33-34)، سخّر لنا كل شيء؛ لماذا؟ من أجل أن نقوم بمهمة «العمران» ونحقق هذا المقصد؛ فأي شيء في الوجود لا يتم استخدامه بالشكل الَّذِي وجه الباري -تبارك وتعالى- لحسن استخدامه هُوَ إهمال له بل إماتة. فلذلك فإنَّ ربنا -تبارك وتعالى- ينبّه إلى أنَّ الأرض تكون ميتة فاقدة للحياة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، إن الَّذِي أحياها لمحي الموتى، الأرض حين لا تستغل في زراعة في بناء في صناعة يسميها علماؤنا الأرض الموات، وإحياء الموات يكون بإعمارها بشكل يحقق الغاية من التسخير الإلهيّ لها لتكون تحت يدك. فأنت إذًا مطالب بتحقيق العمران وبناء حضارة، ولكنَّها حضارة عمرانيَّة ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:61)، حضارة بالقيم التي أمر الله -تبارك وتعالى- بمراعاتها في هذا العمران، فلا يكون الإنسان في إعمار الأرض يريد علوًا في الأرض أو فسادًا أو يعثوا في الأرض مفسدًا، وإنَّما يريد أن يعمل على استصلاحها وتسخيرها.
ويمكن أيضًا أن نضيف مقصدين آخرين، هما: الأمَّة والدعوة، ولا أريد أن أستفيض فيهما هنا، والمقاصد القرآنيَّة على كل حال هي مشروعي القادم، الذي سيرى النور -بإذن الله- قريبًا، في خمسة كتب تناقش: مقصد التوحيد، والتزكية، والعمران، والأمَّة، والدعوة.
*السؤال الثامن: كل من يتخذ موقفًا منهجبًا من السنة النبوية يتهم في الساحة الشرعية بأنه منكر للسنة، وأنه قرآني غير مؤمن بالأحاديث، ولا شك أنكم يا دكتور قد اتهمتم بذلك كثيرًا، فنرجو التوضيح؟
معالم منهجنا:
أولًا: إنَّني أنطلق في مراجعاتي وملاحظاتي على تراثنا -الَّذِي جُمع في عصر التدوين- من إيماني بأنَّ القرآن المجيد قد تضمَّن «المنهجيَّة المعرفيَّة» واشتمل عليها، وأساسها الأوَّل أنَّ القرآن المجيد مصدّق على كل مَا عداه، ومهيمن على كل مَا سواه، ومستوعب لسائر الأنساق الدينيَّة والحضاريَّة والثقافيَّة السابقة والّلاحقة؛ ما فرَّط الله فيه من شيء، وهو «تبيان لكل شيء»، وآياته مبيِّنات بيِّنات، وهو كتاب مبين، ورسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- كان قد تمثَّل ذلك المنهج القرآنيَّ حتى صار -عليه الصلاة والسلام- «المنهج القرآنيّ» نفسه، فهو خلقه وسلوكه وقوله وفعله وتصرفاته وحربه وسلمه وحكمه وقضاؤه وفتواه.
ثانيًا: «الجمع بين القرائتين» قراءة الكتاب وكل ما ثبت صدوره عن رسول الله وسنَّته وسيرته، ثم جمعَ ذلك مع الكون لينضبط المنهج، ويضبط الحياة بمنهج الله ورسوله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم.
ثالثًا: القرآن المجيد هُوَ المصدر الذِي أناط الله -تعالى- به إنشاء الأحكام والكشف عنها استقلالًا؛ بذلك نزل القرآن المجيد: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُون﴾ (آل عمران:23)، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ﴾ (الأنعام:57)، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة:48)، ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة:49)، واتل من سورة يوسف الآية (40) والآية (67)، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة.
رابعًا: إنَّ السنَّة الصحيحة الثابتة عنه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- سنَّة معصوم، أصلها قرآنيٌّ ولا بد، على الإجمال وعلى التفصيل؛ ومن القرآن الكريم تستمد حجيَّتها وإلزامها، وأفهم قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ*بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ﴾؛ أي: به، والضمير عائد إلى الذكر. ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ الضمير في (إليهم) عائد إلى الرجال السابق ذكرهم في قوله (إلا رجالا)، ﴿مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:43-44)، وأؤيّد فهمي هذا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النمل:76)؛ ولذلك فإنَّ المراد بـ«ـالتبيين» هنا تبيين مرادات القرآن المجيد ومعانيه، وأتوقف في استدلال بعض الأصوليِّين بالآية على جواز تخصيص الكتاب الكريم بالسنَّة، فهذه الآية لا تدل على هذا المذهب، وعلى القائلين به أن يبحثوا ليستدلوا بدليل غيره إن كانوا مصرِّين على القول بذلك، وفيه نظر. و«أهل الذكر» -الذين أُحيل مشركو العرب عليهم ليسألوهم- هم أهل الكتاب، وبعد نزول القرآن فينا صار اللفظ يصدق علينا أيضًا، وصرنا والشعوب الأمِّيَّة -التي تلقَّت القرآن المجيد- من أهل الذكر: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ (الأنبياء:10)، ﴿ص وَالْقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ﴾ (ص:1).
ولا أريد أن أطيل، لكن استعمال بعض البرامج لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ (الأنبياء:7) كشعار لبرامجهم أمر لا أراه مقبولًا، والله أعلم.
وقد كُلِّف رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- بتلاوة الكتاب الكريم على الناس، وتعليمهم إيَّاه، وتعليمهم الحكمة في تعلُّمه وتعليمه، والحكمة في تحويل مَا جاء فيه إلى سلوك وواقع يعيش الناس به؛ فيتزكّون ويؤهَّلون للوفاء بعهد الله -تبارك وتعالى- والقيام بمهام الاستخلاف وأداء الأمانة الإلهيَّة، والنجاح في اختبار الابتلاء، والعودة إلى الجنَّة التي أخرج الشيطان أبويهم منها، فبعد أن ضنَّ اليهود وبخلوا على الأميِّين بإيصال مَا أُنزل إليهم وقالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (آل عمران:75) بعث الله -تبارك وتعالى- في أولئك الأميِّين رسولاً منهم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة:2). واستغنى الله -تعالى- عن يهود وأغنى الأميِّين عنهم.
واتل الآية (164) من سورة آل عمران، وقد بلَّغ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد الناس بالقرآن الكريم جهادًا كبيرًا كما أمره الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان:52).
***
استقلال السنَّة بالتشريع:
ما أثاره البعض -وما كان ينبغي له أن يُثار- من «استقلال السنَّة بالتشريع»، أو أنَّ «السنَّة قاضية على الكتاب»، هي أقوال فرضها الجدال والسجال؛ وقد رفضها البعض وقبلها البعض وأوَّلها الآخرون بهذه الأقوال، وفي سائر الأحوال؛ فإنَّ هذه المقولة تُعد من الأقوال الخلافيَّة التي قيلت بناءً على الظنّ بوجود أحكام لم ترد في الكتاب ووردت في السنَّة، ونحن لا نقبل هذه الفرضية، فهم يرون أحكامًا مثل: «المنع من الجمع بين المرأة وعمتها» و«تحريم أكل لحوم الحمر الأهليَّة» قد استقلّت السنَّة في بيانها عن الكتاب، وقد حملهم على ذلك عدم عثورهم على الحكم الأول في محرَّمات النساء نصًّا في آيات «محرَّمات النساء»، وعدم عثورهم على الحكم الثاني نصًّا في «محرَّمات الأطعمة» كذلك. وفي القرآن الكريم كليَّات تتناول آلاف أو بلايين الجزئيَّات، وقد جاء عن الإمام الشافعيّ فيما نقله عنه الزنجاني: “… أنَّ الشافعيّ كان يرى جواز التمسّك بالمصالح المستندة إلى كليَّات الشرع ولو لم تشهد لها أدلة جزئية خاصَّة».
وللقرآن الكريم عادات في التعبير، وفي أسلوب القرآن المجيد حذف، وفي القرآن مكنون، فما لم يذكر ذكرًا مباشرًا قد يكون مدرجًا تحت دليل كليّ، وما لم يذكر بخصوصه قد يندرج تحت عموم عام من العمومات؛ لأنَّ القرآن المجيد قال فيه مُنْـِزلُه جلَّ شأنه: ﴿نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:89)، واشتمل على «جوامع الكلم» وقد أحسن الإمام الشاطبيُّ حين نصَّ على اندراج «السنَّة» تحت عموم شيء، وأنَّها شيء يُبيِّنه الكتاب([1])، ولعله أراد أنَّها مما يُبيّن أصلَه الكتابُ. أمَّا تحريم «الجمع بين المرأة وعمتها» فيمكن أن يُقال فيه أنَّ العرب درجت على اعتبار العم أبًا والعمَّة بمثابته والخالات أمَّهات، فذكر تحريم أمَّهات النساء فيه تنبيه إلى ذلك، فتكون الدلالة نصًّا في الأمّهات وتنبيهًا أو إشارة أو فحوى في العمَّات والخالات، ولا يصعب على المجتهد الوصول إلى ذلك، فما بالك بالمتلقي الأول -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- فيكون ذلك -في إطار المنهج النبويِّ- مدْرجًا في التأويل والتفعيل في الواقع. وأمّا تحريم «أكل لحوم الحمر الأهليَّة» فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد جعل بهيمة الأنعام للأكل؛ وهي الإبل والبقر ومنه الجاموس والغنم والماعز، وامتنَّ على العباد بذلك، وأمَّا الخيل والبغال والحمير فالأصل فيها الركوب: ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ (النحل:8)، وإذا خرج الناس عن الأصل نتيجة أيَّة ظروف طارئة؛ كالمجاعات وما إليها، فإنَّ المسارعة إلى منع أكلها، والعودة بها إلى الأصل «لتركبوها وزينة» عودة إلى الأصل الَّذِي خصّصها القرآن له: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ (مريم:64)، فنهى رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- عن أكلها؛ للإبقاء عليها وسيلة للمواصلات العمليَّة السهلة في تلك العصور اتباعًا للقرآن المجيد وإعادة لها إلى الأصل الَّذِي نزل القرآن الكريم به: ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ (النحل:8)، وليس إنشاءً لتشريع لم يكن، فجاء الخبر بإنشائها استقلالًا عن القرآن المجيد كما يرى البعض، فالقرآن يُنشئ الأحكام ويوجدها ويكشف عنها، والسنَّة -بمفهومها الحقيقيِّ المنضبط- تؤوِّل مَا ينـزل في الواقع، وتعلِّم الناس كيف يجعلون واقعهم واقعًا قرآنيًّا كما قالت أم المؤمنين عائشة وقد سُئلت عن خلق رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم: “كان خلقه القرآن”([2]).
ثم قال الزنجانيّ: “… واحتج -أي الإمام الشافعيّ- في ذلك بأنّ الوقائع الجزئيَّة لا نهاية لها، والأصول الجزئيّة لا نهاية لها، والأصول الجزئيّة التي نقتبس منها المعاني والعلل محصورة متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، فلا بد إذن من طرق أخرى يتوصّل بها إلى الأحكام الجزئيّة، وهي التمسك بالمصالح المستندة إلى أوضاع الشرع ومقاصده على نحو كليّ، وإن لم يستند إلى أصل جزئيّ»([3]).
لقد شاع بين العلماء قولهم: “النصوص متناهية، والحوادث لا متناهية، والمتناهي لا يحيط بغير المتناهي «اللامتناهي»([4]) وقد ردّدت هذا القول وناقشته في أكثر من دراسة؛ لأنَّ القرآن مطلق ووقائع الحياة نسبيَّة، والمطلق -وإن قلّ- يُحيط بالنسبيّ، ولم ألجأ إلى تأويل هذا القول لهم؛ لأنّني كنت وما أزال أرفض منطلقات قد تؤدي إلى الوقوع في وهم أنَّ القرآن -وحده- لا يكفي البشريَّة، والله -سبحانه- قال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت:51)، وقوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ (الأنعام:38)، وقوله: ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل:89)، مع علمي بأنَّ قصد الأكثرين منهم بـ(النصوص المتناهية) النصوص الجزئيَّة المباشرة االتفصيليَّة الصريحة في دلالتها على الجزئيّ.
ويقول ابن تيمية: “…إنَّ الله –تعالى- بعث محمدًا –صلى الله عليه وآله وسلَّم- بجوامع الكلم (أي القرآن) فتكلّم بالكلمة الجامعة العامّة التي هي قضيّة كليّة وقاعدة عامّة تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تُحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد… “([5]).
وهذا الذي نقوله ليس فيه أيّ انتقاص من حجيَّة السنَّة، أو تقليل من شأنها، بل هو دعوة إلى الإيمان بالتضافر وبالتكامل بين الكتاب وهدي النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- في مجال التشريع، وعدم جواز الفصل بين «النظريَّة» و«التطبيق»، وتحوُّط في غلق ذريعة ادعاء أي تناقض بين ما جاء به القرآن المجيد واتباع النبي -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- له، وتفعيله في الواقع.
وإذا كان الإمام الشافعي قد نفى «وقوع النسخ» بينهما لدرء أيّة مفسدة قد تترتَّب على القول بذلك، فقد يتوسَّل الملاحدة والزنادقة به لأجل إطلاق دعوى وقوع تناقض بين ما أوحى الله -تعالى- إلى رسوله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وما سنَّه الرسول -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- فإنَّ مذهبنا وقولنا بعدم استقلال السنَّة في التشريع عن الكتاب مخرّج على مذهب الإمام الشافعيّ ومتفق معه، فلا بد من الإيمان بالتوافق التام بين كتاب الله -تعالى- وسنَّة نبيِّه صلّى الله عليه وآله وسلَّم([6]).
خامسًا: ومما نتباه في منهجنا هذا منهج المحدثين من مقاييس أطلقوا عليها «مقاييس نقد المتون»، فنذكرها ملخَّصة محرَّرة، وهي:
- إنَّ كل خبر رُوي على خلاف صريح القرآن الكريم باطل، وعلى ذلك جماهير المحدِّثين، بقطع النظر عمَّن أخرجه أو رواه.
- إنَّ كل خبر جاء مخالفًا لما هُوَ معلوم من الدين بالضرورة فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة العلماء.
- إنَّ كل خبر جاء على مخالفة الحس والمشاهدة فهو باطل، وعلى ذلك سائر العلماء.
- إنَّ كل حديث يخالف بدهيَّات العقول أو أحكامًا عقليَّة ثابتة فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة العلماء.
- إنَّ كل خبر يُنافي دليلًا قطعيًّا أو تجربة ثابتة فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة أهل العلم.
- إنَّ كل حديث يُنافي علومًا تجريبيَّة ثابتة؛ مثل الطب والصيدلة وغيرها من علوم لا يختلف أهل العلم في علميَّتها، فهو باطل.
- إنَّ كل خبر أو حديث يُنافي مَا هُوَ علميٌّ ثابت من قوانين الطبيعة وسننها في الخلق والكون والإنسان فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة العلماء.
- إنَّ كل خبر ركيك اللفظ لا يرتقي إلى مستوى فصاحة وبلاغة لسان رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أو يشتمل على ألفاظ لم تكن موجودة أو متداولة في عصره، أو نابية أو سخيفة لا يليق أن تصدر عنه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة أهل العلم.
- كل خبر يشتمل على إقرار لرذيلة أو سخف أو سفاسف أو دعوة لما ينافي الثوابت الشرعيَّة فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة أهل العلم.
- كل حديث يشتمل على دعوة أو ترويج لمذهب أو فرقة أو قبيلة أو طائفة فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة العلماء.
- كل خبر أو حديث يخالف الوقائع التاريخيَّة الثابتة بالتواتر المعتبر، أو تثبتها ظواهر يقر أهل الاختصاص بعلاقتها وارتباطها بتلك الوقائع وقت حدوثها، فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة العلماء.
- كل خبر عن أمور عظيمة هامَّة، مما يُفترض أن يشهده الكافَّة أو الأكثرون في أقل تقدير، وينفرد فيه راو أو اثنان، فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة أهل العلم وعمل الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
- كل خبر يرد على مخالفة المعقول المقبول في أصول العقيدة من صفات الله -تبارك وتعالى- وما يجب في حقه، وما يستحيل، وما يجوز، أو يرد بنحو ذلك في حق الرسل والأنبياء، منافيًا لما اتفق العلماء على وجوبه في حقهم أو استحالته أو جوازه فهو باطل، وعلى ذلك عامَّة أهل العلم.
- كل خبر اشتمل على الدعوة للإيمان بموروثات عقائديَّة أو فلسفيَّة مأخوذة من أديان أو حضارات غابرة تتنافى مع صحيح العقيدة الإسلاميَّة -كلًّا أو جزءًا- فهو حديث باطل، وعلى ذلك كافَّة العلماء.
- كل حديث اشتمل على مَا اعتبره العلماء شذوذًا أو علّة قادحة فيه فهو باطل، وعلى ذلك الكافة، مع تفاوت بينهم في تفسير الشذوذ والعلّة القادحة.
- مصطلح «الصحة» -عند المحدّثين- يعني الصحة في ظاهر الحال، ولا يعني موافقة ذلك الظاهر للواقع، ونفس الأمر مع حقيقة الحال؛ ولذلك فإنَّ حكم عالم أو محدِّث -أيًّا كان- بصحة حديث لا يعفي أهل العلم من استمرار البحث فيه، بقطع النظر عمَّن رواه أو أخرجه أو صحّحه، حتى يغلب على الظن خلوّه مما تقدم، ويغلب على الظن موافقته لحقيقة الحال، لا يُستثنى من ذلك البخاري ومسلم ولا الكافي ولا مسند جابر ولا سواها.
- لا نسخ في القرآن الكريم، ولا يُخصَّص عموم القرآن الكريم، ولا يُقيَّد مطلقه بأيِّ دليل دون القرآن الكريم ذاته؛ لأنَّ التخصيص -عند الأصوليِّين- نسخ لما عدا مَا خُصِّص من العموم، والتقييد نسخ لما عدا مَا قُيِّد من الإطلاق، وللعلماء في كل جزئيَّة من هذه الجزئيَّات أقوال تبنَّينا منها ما رجَّحه الدليل عندنا، وهو ما ذكرناه.
- محض تواتر الخبر -إن صحّ وجود ذلك- إنَّما يفيد غلبة الظن، ولا يبلغ درجة اليقين، ولا يوجد متواتر قوليٌّ عنه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- يبلغ قوة ثبوت أيِّ نص قرآنيٍّ؛ لأنَّ القرآن الكريم لم تعتمد يقينيًّته على محض «الرواية»؛ بل على النّظم والأسلوب والتحدي والإعجاز والحفظ الإلهيِّ. «والرواية» لا تعدو أن تكون عاملًا مساعدًا بالنِّسبة للقرآن المجيد، وليست هي مصدر اليقين، لأنَّ مصادر اليقين في القرآن المجيد ما ذكرنا، لا الرواية وحدها؛ لأنّها مجرد طريق نقل وتداول.
- لا تُقبل روايات المجهولين من الرُّواة للأخبار -عندنا- وعلى ذلك جماهير العلماء، ولا تنتفي الجهالة إلا بالمعرفة بشروطها.
- لا نأخذ بالخبر المرسل ولا الخبر الذِي في إسناده تدليس، وعلى ذلك جمهور العلماء، ولا نستثني من ذلك مراسيل سعيد بن المسيب، ولا تدليس الحسن البصريّ.
- لا يكفي لتوثيق مَنْ هُوَ معدود في الصحابة مجرد المعاصرة أو لُقيا رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- لساعة أو دونها، بل لا بد من تحقّق الصحبة بمعناها العرفيِّ، وعلى ذلك عدد كبير من سلف هذه الأمَّة.
- لا نأخذ برواية من دلَّس ولو لمرَّة واحدة، وذلك مذهب الشافعيِّ والخطيب البغدادي، ونحن نتبنَّى هذا المذهب، ونلتزم به.
- نرفض التوثيق المطلق للراوي بـ«ـالسبر الجزئيِّ لمرويَّاته»، ونعتبر روايته باطلة إذا لم تصح بخصوصها؛ وهذه من القضايا الخلافيَّة، ونحن مع الفريق الرافض لذلك النوع من التوثيق بالسبر؛ لأنَّ أصول الدين تُقام على الأحوط في مثل هذه المسائل.
- إنَّنا نعتمد على أقوال مَنْ سبق، وفي بعضها قصور في تحديد الأصول، وتقصير في تحقيق بعض الفروع، والتقليد عندنا ممنوع دون النظر في الدليل لـمَنْ يستطيعه؛ ولذلك فإنَّ المراجعات والتأصيل يأخذان موقع الضرورة الحتميَّة؛ ولأن نخطئ في الاجتهاد أسلم لنا -عند الله تبارك وتعالى- من الخطأ في التقليد، ومشابهة أهل الشرك في التقليد الأعمى والمتابعة دون وعي، والله أعلم.
هذه بعض معالم المنهج الَّذِي أتَّبعه في مراجعاتي لتراث أمَّتي العزيزة عليَّ، ولا يقلل ذلك من حبي له واحترامي لـمَنْ أنتجوه، وتعلُّقي وارتباطي به وبهم، ولا تنال هذه المراجعات منه ولا منهم، بل هِيَ تزكية له ومراجعة تعتمد على آليَّاته ووسائله.
وَمَنْ ذا الَّذِي تُرضى سجاياه كلها | كفى المرءَ نبلًا أن تُعدَّ معايبه |
وأود أن أذكّر بصعوبة أخذ الأحاديث بطريق التقليد لأيّ طالب علم جاد، سواء اشتغل بالفتوى أو الدعوة أو التعليم، ولا ينشرح الصدر للتقليد فيها دون بحث وتنقيب، يقول المحدث المعلميّ: “ثبوت القول عن الصحابيِّ يتوقّف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقف على توثيق أئمة الجرح والتعديل لكل منهم؛ والاعتداد بتوثيق الموثق يتوقف على العلم بثقته في نفسه وأهليَّته، ثم على صحة سند التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثقه ثقة عارف، وصحّة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والثقة لرجاله»([7]).
وهكذا نجد أنفسنا -إن تحرينا الدقة- مطالبين بمتابعة سلسلة هائلة من الإجراءات قد يُنفق فيها الباحث سنوات للوصول إلى تصحيح خبر واحد، في حين يصدق القرآن الكريم ويهيمن على ذلك بيسر وسهولة، خاصَّة بالنّسبة للسنن التي جاءت اتِّباعًا وتأويلًا لشريعة القرآن المجيد، أو ما يُطلق عليه البعض «السنَّة التشريعيَّة».
لعلي بهذا الشرح المستفيض قد أوضحت منهجي وهو منهج لم أبتدعه بل هو بناء استكملته على مناهج أئمة كبار في مقدمتهم الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي ومالك وغيرهم، ولقد قدمت شذرات من أقوالهم تبين العلاقة الوثيقة بين هذا الذي أقوله وأذهب إليه وأدين الله به وبين ما كان عليه أولئك الأئمة الكبار قبل فشو الجهل وشيوع التقليد وانتشار التعصب للأفكار بناء على ذلك، فمن وجد في هذا المنهج خيرا فإنّني أحمد الله وأرجو أن ينتفع طلبة العلم به ومن وجد فيه ما يلاحظه ويرغب بإهداء النصيحة لي فيه كلا أو بعضا فسيجدني دائمًا عبدًا أوابًا رجَّاعًا للصواب مهيئًا لقبول الحق والالتزام به ومستعدًا لترك رأيه واجتهاده عندما يقام الدليل وتذكر الحجة، سائلًا العلي القدير أن يهديني وإياكم وسائر طلبة العلم والحقيقة إلى ما يحبه ويرضاه ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويريننا الباطل باطل ويرزقنا اجتنابه.
موقفنا من إشكاليَّة العلاقة بين الكتاب والسنّة:
إنَّ قضيَّة «العلاقة بين الكتاب والسنَّة» قضيَّة منهجيَّة عندي، وأعني بذلك أولًا ضرورة اليقين من استحالة وقوع تناقض أو تعارض أو تنافٍ بين الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ قاعدة العلاقة بينهما أنَّها علاقة اتفاق منهجيٍّ في المصدر والغاية، والاتفاق المنهجيُّ والغائيُّ يفرض الاتِّفاق في الضوابط المنهجيَّة لدلالات الآيات الكريمة، ومتون كل الأحاديث والسنن التي تُرفع بأسانيد صحيحة إليه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وتُروى بألفاظه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- ذاتها، لا بالمعاني التي فهمها الرواة، فيستحيل أن يأتي رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- بما يناقض وحيًا إلهيًّا قرآنيًّا أو يبطله بشكل مطلق، أو ينسخه، ولو حصل لاستدرك القرآن على رسول الله ذلك كما حدث في مناسبات عديدة، وعلماء أصول الفقه شركوا بين الكتاب والسنَّة في مباحث اللُّغات لإدراكهم لهذه الحقيقة المسلَّمة، لكنَّهم لم يذهبوا بها إلى مداها ليحدِّدوا لنا الضوابط المنهجيَّة للدلالات المشتركة؛ ليتضح أنَّ السنَّة هِيَ التبيين العمليّ للقرآن والتأويل والتفعيل له في الواقع.
وماذا عن «حجيَّة السنة»؟
إنَّ «السنَّة النبويّة المطهّرة» ليست حجّة فحسب، بل هِيَ ضرورة دينيَّة وحتميَّة منهجيّة؛ أيُّ نيل من حقيقتها يُعدّ نيلًا من المرجعيَّة القرآنيَّة والمرجعيَّة النبويَّة معًا، ولم يُعط القرآن الكريم لأحد حق تجاوزها أو تجاهلها أو النيل منها بحال، و«مرجعيَّة السنَّة» ضمانة لا غنى عنها لبناء الأمَّة ووحدتها، وضمانة للمنهج القرآنيِّ، وضمانة لضبط عمليَّات الاجتهاد والتجديد واستمرارها، ومقاومة تأثيرات قسوة القلوب وطول الأمد، وبيان مناهج النبي -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- والحكمة في التطبيق والتفعيل.
ولتوضيح ذلك أكثر لنقرأ -معًا- قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف:157)، فيستحيل منهجيًّا أن يأتي في السنَّة -أقوالًا وأفعالًا وتقريرات- مَا يناقض شيئًا من ذلك، فلو صحّح أحد إسناد حديث يؤدِّي تصحيحه والتسليم بمقتضاه إلى نوع من التنافي بين مفاهيم القرآن للطيِّبات والخبائث والمعروف والمنكر والإصر والأغلال والتخفيف والرحمة وما إليها من مفاهيم القرآن أردُّه إلى ضوابط المنهج القرآنيِّ في دلالات مفاهيم هذه الألفاظ، وأوحِّد دلالاتها بذلك، وليس لأحد -كائنًا مَنْ كان- أن يقول: إنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أراد معنى أو مدلولًا غير مَا دلَّ عليه القرآن، بحيث يقع التعارض بين مَا أُنزل إلى رسول الله وأُوحي إليه وبين ما يبلِّغه للناس ويعلِّمهم إياه، كيف وقد أمر -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- باتّباعه مرات عديدة في كل ما نزل فيه؟! ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام:106) ولذلك فقد رفضنا قبول حديث: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله”([8]) فهذا الحديث بالرغم من كثرة الطرق التي رووه بها وما من طريق واحد منها سلم سلامة تامة لا يمكن قبوله وهو يناقض وينافي مئتي آية في كتاب الله تعالى- من المحكمات التي تنص على حرية الاعتقاد وحرية التدين وأن لا إكراه في الدين منها: قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة:256) التي تجرأ بعضهم على القول بنسخها رغم أنَّها مخرجة مخرج الأخبار في صيغتها ولا نسخ في الأخبار حتى على مذاهبهم في النسخ رغم رفضنا لها، وقوله تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99) وقوله تعالى: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28) وقوله: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22) وقوله ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق:45) كل هذه الآيات تجرأوا على القول بنسخ بعضها وتأويل البعض الآخر لإعلائهم شأن حديث “أمرت أن أقاتل الناس” عليها جميعًا، فنحن لا نقبل هذا ولا نحب أن نلقى الله به، وكذلك ما اعتبروه تعزيزًا لحديث “أمرت” وهو ما نسبوه إليه –عليه الصلاة والسلام- من قول مفاده: “من بدل دينه فاقتلوه”([9]) الذي اقتطعوه من سياقه، ليتصرفوا بمعناه ولينزلوه على مذاهبهم غير ملتفتين إلى آي الكتاب الكريم، فنحن وفقًا لمنهجنا لا نقبل أن يدّعى تناقض بين الكتاب والسنَّة بحيث يلجأ من يلجأ إلى الترجيح بينهما والتأويل وما إلى ذلك لأنَّ منهجنا يعصمنا من التفريق بين الله ورسوله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- وكتاب الله وتعليم رسوله الناس إياه، ونرى أنَّ لتلك الأقوال الغثيثة ظروفًا سياسيَّة واجتماعيَّة أملتها في فترات انحراف أرادت أن تقول لما تصف السنَّة الحاكمين من كذب هذا حلال وهذا حرام.
وحين يقول الله -جلَّ شأنه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج:78) فلا يمكن أن تأتي سنَّة تجعل على الناس حرجًا في الدين وتصح، وحين يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النساء:26) فيستحيل القول بأنَّ القرآن الكريم غير بيِّن أو مبيِّن، بل يمكن أن يُقال: «إنَّ لله أن يبيِّن لنا بأيِّ طريق يختاره، فقد يبيِّن مَا يبيِّن في الكتاب، وقد يبيِّن لنا بطريق رسوله الكريم -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وسننه، ولكن دون أن يكون هناك تناقض أو تعارض»، والقول بخلاف ذلك افتئات على الله -تعالى- وتحكُّم.
وإنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- حين يحكم أو يسن فإنَّما يفعل ذلك اتِّباعًا لما أُنزل إليه من ربِّه؛ فرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- إن حكم فإنَّما يحكم بما أراه الله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء:105)، وإذا علَّم الناس شيئًا فإنَّما يعلِّمهم مما علَّمه الله جلَّ شأنه: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء:113)، وحين يقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء:28)، فإنَّ وحدة المنهج بين الكتاب والسنَّة تجعل مراد رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- تبعًا لمراد الله تعالى فيكون مخفّفًا ميسرًا على أمته: «ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما مَا لم يكن إثمًا».
وهكذا يضبط المنهج الدلالات والمضامين والمعاني والغايات، ولا يسمح بمرور أيَّة دعاوى للتناقض بين ما جاء به رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- من كتاب وما يفعله أو يقوله اتّباعًا له وتأويلًا وتفعيلًا لآياته في الواقع، فالمتن الذي يرفع إليه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- لا بد من تحليله في ضوء ذلك المنهج، بعد أخذ الإسناد مَا ينبغي أن يأخذه من الفحص الدقيق وفق القواعد المنهجيَّة المعهودة، ودون أيِّ تساهل في أيَّة جزئيَّة من جزئيَّات المنهج، أو التسليم بالتعارض واللجوء إلى التأويل بمعنى التفسير، فذلك مخالف للمنهج وطبيعته، ودقّته وصرامته.
خطورة التفريق بين دلالات الكتاب والسنّة:
وأودُّ التنبيه على أنَّ في هذا الَّذِي نقوله -لمعالجة إشكاليَّة العلاقة بين الكتاب والسنّة- ملحظًا آخر شديد الأهميَّة قد يغيب عن أذهان بعض طلبة العلم، وهو أنَّ التسليم بأيِّ اختلاف بين دلالات القرآن الكريم ودلالات المرفوع إليه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- بالَّلفظ أو بالمعنى يستدعي كثيرًا من التصوّرات الخاطئة التي تناقض وتنافي -دون شعور- دقة الارتباط بين «الوحي» و«الرسالة» و«التبليغ»، فالرسل والأنبياء يستحيل عليهم أن يخالفوا مَا أرسلهم الله -تعالى- به: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة:117)، أو ينهون الناس عن شيء ويخالفونهم إليه: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ (هود:88 )، وقيمة السنَّة لا تظهر فقط فيما قاله أو فعله أو أقرّه الرسول -صلّى الله عليه وآله وسلَّم، بل تظهر كذلك فيما سكت عنه، فالمسكوت عنه نبويًّا لا يقل أهميَّة عن المنطوق في سائر النواحي المنهجيَّة، فالمنهج يقدم لنا تفسيرًا أو أكثر لأسباب السكوت عن المسكوت عنه.
فلعلَّ هذا الإيضاح يجعل هذا الأمر منتهيًا «فلا يقعقع لي أحد بالشنان»، ولا يحاول أحد أن يسوِّي بيني وبين آخرين، سواء مَنْ سمّوهم قرآنيِّين أو مَنْ أطلقوا عليهم آثاريِّين، فيحرم نفسه وقد يحرم غيره من الاستفادة بما أقول أو أكتب أو أراجع، فيفوّت على نفسه وغيره خيرًا كثيرًا بجهله أو بسوء ظنِّه أو بوسوسة الشيطان له أو قصور فهمه وبغيه.
[1] راجع: الشاطبي، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي. الموافقات. مباحث الكتاب من مباحث الأدلّة.
[2] صحيح المعنى باطل الأسانيد. أمّا صحة المعنى فلأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- كان متّبعًا للقرآن؛ أي: كان خلقه القرآن. وأمّا بطلان الأسانيد فلأنّها يدور بعضها على قتادة بن دعامة، وبعضها على الحسن البصريّ وكلاهما مدلس معنعن. وبعضها يدور على الحسن بن يحيى الخشني وليس بثقة، وبعضها على يزيد بن بابنوس وهو مجهول هذا فضلًا عن عورات أخرى بالأسانيد. قال محقق مسند أحمد ورواه ابن زنجويه رقم (619) عن خالد بن معدان عن المقدام به فلينظر هل صرح خالد المدلس بالتحديث ؟
[3] راجع: أبو المناقب، محمود بن أحمد الزنجاني. تخريج الفروع على الأصول. تحقيق محمد أديب صالح. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1398ﻫ، ط2، ص 322.
[4] راجع: أبوحامد، محمد بن محمد الغزالي. المستصفى. بيروت: دار الكتب العلمية،1413ﻫ.
[5] انظر: ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم. مجموع الفتاوى. تحقيق: أنور الباز، وعامر الجزار. المنصورة: دار الوفاء، 1426ﻫ/2005م، ط3، ج19/280.
[6] وراجع: الرازي، محمد بن عمر بن الحسين. المحصول في علم أصول الفقه. تحقيق: طه جابر العلواني. القاهرة: دار السلام 1432ﻫ/ 2011م، وتعليقنا المستفيض على موقف الإمام الشافعي بهامشه.
[7] راجع: اليماني، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل. تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. الرياض: المعارف. مرجع سابق. ج1/4.
[8] من خلال موسوعة خاصة على حاسوب به نحو 265000 طريق فضلا عن المستقى من أمهات مطبوعة تم استخلاص بحث، ومن هذا البحث، ومن قواعدِ تحقق من صحة الأسانيد مبيَّنةٍ في مقدمته تم استخلاص 234 طريقا لهذا الحديث:
- منها 40 تدور كلها على/ الزهري، و 24 على/ الأعمش، و 20 على/ حميد الطويل، و 16 على/ شعيب بن أبي حمزة، و 12 على/ سفيان الثوري و 6 على/ الحسن البصري، و 4 على/ شريك النخعي.
- وكل من هؤلاء مدلس، ولم يصرح هنا بسماعه؛ فالمدارات كلها مظلمة؛ فباطلة؛ فلا اعتبار بها.
- هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد.
- ومنها 23 تدور كلها على/ سماك بن حرب عمن فوقه عمن فوقه و 8 على/ كثير بن عبيـــــــــــــد و 4 على/ سفيان بن عامر الترمذي، و 3 على/ زياد بن قيس و 1 على/ حاتم بن يوسف الجلاب عن عبد المؤمن بن خالد، و 1 على / عبد الرحمن بن عبيد الله، و 1 على / عجلان مولى فاطمة، و 1 على / أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة و 2 مرسلتان.
- وسماك ضعيف وسائر هؤلاء مجهولون؛ فالمدارات كلها مظلمة؛ فباطلة؛ فلا اعتبار بها.
- هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد.
- ومنها 7 تدور على/ العلاء بن عبد الرحمن، و 2 على/ سليمان بن أبـي داود و 1 على/ عمرَ بن أبي بكر الموصلي عن زكريا بن عيسى، و 1 على/ يحيى بن أيوب الغافقي، و 1 على/ سليمان بن أحمد الواسطي، و 1 على/ أبي عبد الرحمن الوكيعي عن إبراهيم بن عيينة.
- وكل من هؤلاء ليس بمحل للحجة مطلقا، لا مفردا ولا مقرونا بغيره؛ فالمدارات كلها مظلمة؛ فباطلة فلا اعتبار بها ● هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد.
- ومنها 8 تدور على/ يونس بن يزيد الأيلي، و 5 على / ابن المذهب عن القطيعـي و5 على / عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، و 3 على / سهيل بن أبي صالح، و 3 على / عبد العزيز الدراوري عن محمد بن عمرو بن علقمة، و 1 على / أبي بكر بن عياش عن عاصم بن بهدلة، و 1 على/ مصعب بن ثابت.
- وكل من هؤلاء ضعيف ● هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد تحيل اعتبار بعضها ببعض.
- ومنها 3 على / يحيى بن بكيـر عن الليث بن سعد ويحيى ضعيف والليث مدلس ولم يصرح بالسماع.
- ومنها 11 على / قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد والليث مدلس ولم يصرح بالسمـاع، وهنا شذوذ لعله مما أدخله خالد المدائني على الليث.
- ومنها 10 على/ شعبة عن واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر، وهنا شذوذ وجهالة متنًا وإسنادًا.
- ومنها 2 على / أحمد بن عمرو البزار عمن فوقه عن القاسم بن مالك عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق بن أشيم عن أبيه. والبزار ضعيف يخطئ في المتن والإسناد، والقاسم ضعيف وفي سعد ريبة، وفي دعوى صحبة أبيه ريبة أيضا؛ فالإسناد مظلم؛ فباطل؛ فلا اعتبار به.
- ومنها 1 على / نعيم بن حماد عمن فوقه عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن أبيه. ونعيم ليس بثقة، وفي سعد ريبة، وفي دعوى صحبة أبيه ريبة أيضا، فالإسناد مظلم؛ فباطل؛ فلا اعتبار به.
- ومنها 1 على/أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق مدلس ولم يصرح بسماعه وقد اختلط بأخرةٍ، ولا يدرى أسمع السلمي منه قبل اختلاطه أم بعده؛ فالإسناد مظلم؛ فباطل؛ فلا اعتبار به.
- ومنها 1 على/ إسحاقَ بن إبراهيمََ الدبري عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق مدلس ولم يصرح بسماعه وقد اختلط بأخرةٍ، ومات وعمْر الدبري ستٌّ أو سبعُ سنوات فاستصغر فيه، فالإسناد مظلم فباطل فلا اعتبار به
- هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد تحيل اعتبار بعضها ببعض وتقوية بعضها بعضا.
ولا اعتبار بين المجروحين في عدالتهم بل بين الضعفاء في حفظهم ضعفا خفيفا لا شديدا، ولا اعتبار في جهالة لأن الجهالة مظنة جرح، ولا في تدليس لأن التدليس مظنة جهالة، ولا في ضعف شديد.
[9] اخرجه النيسابوري، محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم. في المستدرك على الصحيحين. الرياض: دار الحديث، 1968م، ج3/538-539، وقال: صحيح على شرطه، وأنّه لم يخرجه، فأغرب. أفاده ابن الملقن في: تحفة المحتاج. دمشق: دار البشائر، 1991م، ج2/469.