أ.د/ طه جابر العلواني
قبل سبع وثلاثين سنة دعيت لحضور مؤتمر مصغر في مكة المكرمة، سمي بمؤتمر “الاستطاعة في الحج”، حضره علماء المملكة السعوديَّة –آنذاك- ونخبة من كبار المفتين، وضمني الله (جل شأنه) إليهم، كان العدد قليلًا لا يجاوز العشرين، تداول رئاسة الجلسات رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشيخ “عبد الله بن حميد” والشيخ “عبد العزيز بن باز” -يرحمهما الله تعالى، وحضر مفتون مع شيخ الأزهر –آنذاك- وبعض كبار العلماء، كان توجيه الدعوة إليَّ في مؤتمر كهذا بحد ذاته اختبار بالنسبة لي، فما كنت إلا أستاذ شاب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة أدرِّس الفقة وأصوله في نفس الجامعة، ولم أكن مشهور –آنذاك- لكن شاء الله (جل شأنه) أن يضعني أمام مسئوليَّة ما كنت أتطلع إلى تحملها، فالمؤتمر دعت إليه رابطة العالم الإسلامي بتوجيه من اللجنة العليا للحج التي كانت يرأسها –آنذاك- وزير داخليَّة المملكة الأسبق “نايف بن عبد العزيز” -يرحمه الله.
حضرنا اللقاء، وفي الاجتماع الأول أظهر الشيخ “عبد الله بن حميد” قصاصة جريدة قديمة من جرائد المملكة أم القرى، وأمر مرافقه أن يقرأ الخبر الذي ورد في تلك الجريدة في ثلاثينيَّات القرن الماضي، وكان الخبر يقول” لقد بلغ عدد الحجيج رقم لم يبلغه من قبل، وهو خمس وخمسون ألف حاج، والأعداد في تزايد، ولا ندري كيف ستستوعب المشاعر الأعداد الإضافيَّة في المستقبل. ثم عقب الشيخ ابن حميد بقوله: ولذلك فقد اجتمعنا هنا لنبيِّن الحكم الشرعي في تحديد أعداد الحجاج الذين يسمح لهم بالمشاركة في الحج؛ لئلا تزدحم المشاعر ازدحام لا تحتمله الطاقات الخدميَّة المتوافرة فيها فيتضرر الحجاج وتتضرر المملكة، فهل ترون أنَّه يكفي أن يأتي من كل بلد واحد من ألف أو خمسة أو عشرة أو أي رقم تلافيًا للأضرار التي تنجم عن الزحام في المشاعر، هذا هو الأمر الذي تنتظره منا لجنة الحج لتأخذ به، وتحدد لكل بلد “كوتة” بحيث لا تسمح للحجاج القادمين منها بأن يزيدوا على ذلك العدد، ثم أعطى الكلمة للشيخ عبد العزيز بن باز؛ فنبه الشيخ بأدب جم إلى أنَّ من فرض فريضة الحج يعلم من خلق ويعلم أنَّ الناس في تزايد، ولولا أنَّ هذه المشاعر تستوعب كل من يقصدها للحج لما فرض الحج على كل من استطاع إليه سبيلاً، وعلماء الأمَّة لم يضعوا في حسبانهم مساحة المشاعر وطاقتها، فكأنَّ المراد منا أن نجعل طاقة المشاعر على الاستيعاب جزء من معنى الاستطاعة يندرج تحت مفهومها، فهل لأهل العلم أن يتوسعوا في هذا المفهوم ويجعلوا جزء من الاستطاعة استيعاب المشاعر والعدد الذي تستوعبه، فيصرح لذلك العدد ويغلق عمن عداهم.
المسألة في غاية الأهميَّة ولها ما بعدها، ونحن مطالبون بأن نجد لهذه المسألة مخرج شرعيًا يعين الدولة السعوديَّة بالتعاون مع بقيَّة الدول المسلمة على تنظيم آداء هذه الفريضة بشكل يرضي الله (عز وجل) ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبدأ المشاركون يدلون بدلائهم، واتجهت الغالبيَّة العظمى إلى ضرورة إيجاد كوتة لكل بلد مسلم، وعلى حكومات تلك البلدان أن تتعاون مع الحكومة السعوديَّة عن أن لا يزيد حجاج تلك البلدان عن الكوتة، وجاء دوري في الكلام وأعطيت الكلمة فقلت: أنتم علماء الأمَّة والله (جل شأنه) سميع عليم، يسمع تحاورنا الآن، ويعلم نوايانا، ومنه وحده نستمد العون على أن نصل إلى قرار مناسب، وأحب أن أقدم لهذا بأنَّ سعت المشاعر تعود إلى التنظيم، فلو تم تنظيم هذه المشاعر بشكل ملائم فإنَّها ستستوعب كل من استطاع إلى الحج سبيلًا، دون حاجة إلى أن نثقل شروط الاستطاعة وضوابطها بهذا الشرط الذي لم يقل به أحد ممن سبقنا، والسبب في الزحام الذي نراه سبب كسبي إنساني لابد من معالجته بالطرق العلميَّة، وكانت الألعاب الأولمبيَّة قد عقدت ذلك العام في ميونخ، فقلت لهم: إنَّ المساحة المخصصة للرياضيين والمشجعين والزوار أقل بكثير من مساحة المشاعر، والحجاج أقل من الذين يحضرون عادة هذا النوع من الأنشطة، كما أنَّ الذين يحضرون هذه الأنشطة يغلب عليهم عدم التقيُّد بأي قيود أو ضوابط شرعيَّة، فهم يسكرون ويزنون ويعربدون ومع ذلك تتسع لهم تلك المساحات التي تنظم الوصول إلى أماكن الألعاب، وتجعلهم قادرين على مشاهدة ما يريدون، مع توافر جميع الخدمات من مطاعم وحانات ومقاهي وغيرها، ولا يحدث أي شئ، والناس تنضبط وتنتظم وفقًا لتوجيهات المنظمين، وأعتقد أنَّ لدينا كثير من المهندسين المسلمين لو فوض إليهم الأمر لاستطاعوا أن يجعلوا المشاعر تستوعب بدل من مليوني حاج إلى عشرة ملايين أو عشرين بحسب الحاجة، ثم قلت: إنَّ الله وعدنا بظهور الدين وانتشاره في الأرض كلَّها، فماذا لو أنَّ الصين دخلت الإسلام كلّها، وكذلك الهند وبلدان آخرى، إنَّك مهما حاولت أن تقلص وتحدد فستبقى بحاجة إلى أن تجعل المشاعر قادرة على استيعاب ما لا يقل عن عشرة ملايين حتى نهاية القرن، وبعد ذلك قد تجد نفسك مضطر لاستقبال عشرة ملايين آخرى بحسب انتشار الإسلام على وجه الأرض، وأنتم تعلمون أنَّ الوعد الإلهي لا يكذب، وبالتالي فلابد لنا من البحث عن وسائل لتنظيم الشعائر، وجعلها قادرة على استيعاب عشرة ملايين حاج إلى عشرين خلال فترة قد لا تتجاوز الخمسين عامًا، فإذا كانت أم القرى في عشرينيَّات القرن الماضي استكثرت أن يتجاوز عدد الحجاج خمسين ألف فماذا حين يصبح هذا العدد عشرة ملايين، والإسلام ينتشر بفضل الله، والصادق (عليه السلام) أخبر بأنَّه: “لا يبقى على الأرضِ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخَله اللهُ الإسلامَ بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ”[1] فأنا أرجو أن نتجه لا لتقليص عدد الحجاج بل لتنظيم المشاعر، وإذا كان المهندسون المسلمون ليسوا مؤهلين في نظر البعض فليستعينوا بما يشاؤون من مهندسي العالم لينظموا لنا مشاعرنا بحيث تستوعب أعدادنا، ولا ينبغي أن نلجأ دائمًا إلى الحلول السهلة التي تظهر بعض الأحكام وكأنَّها أحكام فوق مستوى الطاقة البشريَّة، فربنا لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها ولا يكلف نفسًا إلا ما آتاها. وبمجرد أن فرغت بدأ الشيخ عبد الله بن حميد بتوجيه اتهام لي بأنِّي ممن يقللون من قيمة الخدمات التي تأديها المملكة للحجاج وما أكثرها، وأنَّه ما ينبغي أن تتهم المملكة بأي تقصير في تنظيم المشاعر، فهي بمجرد أن ينتهي الموسم تبدأ بالعمل على الإعداد للموسم القادم، وتنفق إنفاق ما لا يخشى الفقر على المشاعر والحجاج، ثم التفت إلى من حوله يسألهم من هذا الرجل فانبرى له الشيخ عبد العزيز بن بار، فقال له: يا شيخ عبدالله، هذا أحد إخواننا العراقيين من أهل العلم والجهاد، ومن أفضل الدعاة الذين نعرفهم، وهو من محبي المملكة ولا نعرف عنه إلا الإخلاص ولا نزكي على الله أحد، فالرجل من أهل الخير، فهدأ الشيخ قليلًا، ثم دعاني الشيخ ابن باز للجلوس إلى جانبه وأمرني أن أسلم على الشيخ ابن حميد وأصافحه، وقد فعلت، لكن الشيخ لم يكن غضبه قد زال بعد، وأكملنا الجلسات الثلاث أو الأربع التي كانت تمثِّل وقت المؤتمر كلَّه، وفي حينها اتخذ قرار بدراسة الأمرين معًا، أمر التحسين والتنظيم في المشاعر وإعدادها بحيث تستوعب الأعداد المتزايدة من المسلمين القادمين للحج، نتيجة نظم المواصلات في العالم وتطورها وانتشار الإسلام في مختلف أنحاء الأرض، وتوجيه الشكر للمملكة على خدمتها للحجيج ودعوتها لبذل المزيد، وبين عمل كوتة لكل بلد لتنظيم الأعداد.
إنَّ قوله (جل شأنه): ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة:197) يفيد أنَّ هذه الأشهر المعلومات هي الموسم الذي يحرم به من أراد الحج بالحج، أمَّا الأشهر الأخرى فلا يحرم به الإنسان بالحج، لكن له أن يعتمر وليس لها علاقة بتغيير يوم الوقوف بعرفة أو الإفاضة منها والوقوف في المشعر الحرام وتوقيت يوم النحر وتوقيت أيام التشريع، فتلك كلّها أمور لها أوقاتها ولا يقبل اجتهاد أحد في تغيير الأوقات، وإذا كان هناك زحام فلنعد إلى التنظيم كذلك، ولا شك أنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة تحمل العبء الكبير في التوسيعات المستمرة للحرمين، وإعدادها على الدوام لاستقبال الطائفين والعاكفين والركع السجود، فجزاها الله خيرًا، لكن التنظيم بحيث تستوعب هذه المشاعر ملايين يزدادون كل عام نتيجة الموصلات وسهولة الانتقال وعمليَّات انتشار الإسلام والتطورات الاقتصاديَّة، كل تلك الأمور تجعل الزيادات متوقعة في كل عام، فليس العلاج في أن نغيِّر التشريع ونغيِّر التوقيت، فالتوقيت جزء من التشريع، وفيه حكم لا تحصى، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث ليضع ضوابط، ويعلم البشريَّة فيما يعلم كيفيَّة تنظيم الزمن كما ورد، فليس في مقدور أحد أن يقدم اجتهادات تؤدي إلى إلغاء تشريعات ثابتة، وتوقيتات لازمة، فتلك التوقيتات جزء مما شرع الله.
[1] الراوي: المقداد بن الأسود، المحدث: ابن حبان، المصدر: صحيح ابن حبان، الصفحة أو الرقم: 6699، خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه.