أ.د/ طه جابر العلواني
كلمة “حد” تعني في لسان القرآن الشرع والأحكام ولا تعني العقوبة”
جاءت كلمة “حدود” في القرآن الكريم (14) مرة. وكلها تعني أحكام الله وتشريعاته، ولا تعني العقوبة كما يدل مصطلح “الحدود” كما في كتب الفقه.
فقد جاءت مرتين بمعنى شرع الله وأوامره في قوله (تعالى): ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:97).
وفي قوله (تعالى): ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:112).
وجاءت مرة في تشريع الصيام بمعنى الأحكام في آية: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ …﴾ وفي نهايتها يقول (تعالى): ﴿… الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (البقرة:187).
وجاءت مرتين في تشريع الميراث، يقول تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (النساء:13-14).
وجاءت تسع مرات في تشريعات الله (تعالى) في الزواج والطلاق ..، منها مرة في موضوع الظهار، أي إذا ظاهر الرجل على امرأته وحرمها على نفسه، فلا يرجع إليها إلا بعد تقديم الكفارة، ويقول (تعالى) بعدها: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المجادلة:3-4).
ومنها أربع مرات في آية واحدة تتحدث عن الطلاق الأول للزوجة والطلاق الثاني يقول (تعالى) فيها: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة:229).
ومنها مرتان في الآية التي تتحدث عن الطلاق للمرة الثالثة وحتمية أن تتزوج شخصا آخر: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:230)
ومنها مرتان في تحريم إخراج المطلقة من بيتها قبل العدة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ (الطلاق:1).
هذه هي المواضع التي جاء فيها لفظ “الحدود” وكلّها –كما رأينا- تعني ما شرعه الله وأمر به أو ما نهى عنه، في مواضع محددة وهي الصيام والطلاق والمواريث وما أشبه، وليس فيها أي إشارة تتعلق بالعقوبات المقدرة عليها في القرآن.
ويبدو أنَّ ما استقر في الأذهان وسلك سبيله إلى النفوس حتى تغلغل في أعماقها من أنَّ الحدود هي العقوبات المقدّرة يرجع إلى المرويات، ومنها الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: “أنَّ قريشًا أهمَّهم شأنُ المرأةِ المَخزومِيَّةِ التي سرقَتْ، فقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فيها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يَجتَرِئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ، حِبُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّمه أسامةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أتَشفَعُ في حَدٍّ من حُدودِ اللهِ). ثم قام فاختَطَب ثم قال: (إنما أَهلَك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرَق فيهمُ الشريفُ ترَكوه، وإذا سرَق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وأيمُ اللهِ لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرقَتْ لقطَعتُ يدَها”[1]، وهناك أحاديث أخرى استعملت لفظ “الحد” في سياق الحديث عن العقوبة مما يشعر بأنَّ الثقافة السائدة والعرف جعل الأذهان تصرف كلمة “الحد” أنَّى وجدت إلى العقوبة؛ لأنَّ العقوبة يتوقع منها أن تكون زاجرة لمن يفكر بارتكاب جريمة تستلزمها أن يقف عند حده.
وهو مثال يوضح لنا أنَّ العقل المسلم لم يعن كثيرًا ببناء المفاهيم قرآنيًّا وانطلاقًا من لسان القرآن ونظمه وسياقه، فالمفاهيم الشرعيَّة يفترض أن ينفرد القرآن بتأسيس وصياغتها بلسانه ونظمه وسياقه وأسلوبه وبيانه وعاداته في التعبير؛ لذلك فإنَّ من أولويَّات التحديد والمراجعة إعادة صياغة المصطلحات والمفاهيم الشرعيَّة وإعطائها الأبعاد التي يمنحها القرآن لها، لتأخذ مكانها الملائم في صياغة التصورات وتشكيل مفردات الفهم النظري والتطبيق العملي في حياتنا المعرفيَّة والمنهاجيَّة.
لقد كانت النتيجة الطبيعيَّة لعدم الاعتماد على مفهوم “الحدود” كما استعمله القرآن وليس كما استعمله الناس هي أنَّ أغلب المسلمين يساوون في المعنى بين ثلاثة مفاهيم متباينة وهي العقوبات والحدود والشريعة. فلما فُهمت الحدود على أنَّها عقوبات فهمت الشريعة -أيضًا- على أنَّها عقوبات، وبالتالي أصاب المفهوم الحقيقي للشريعة وموقع منها لبس وغبش الحدود، وبقي معنى العقوبات ماثلًا في الأذهان نستدعيه كلما طرح موضوع “تطبيق الشريعة” برزت الحدود وكأنَّها الشريعة كلّها. وسوء القصد لدى البعض في تكريس هذا الفهم الخاطيء ظاهر بيِّن.
العقوبات كفارات:
فالعقوبات –في شريعة القرآن- زواجر ومطهِّرات تندرج في وسائل التربية والتهذيب وتقويم السلوك. وليس الأمر كذلك في الشرائع السابقة –التي اتخذت العقوبات فيها صفة “النكال والتعذيب” فكانت من قبيل الإصر والأغلال. وذلك لاختلاف الخصائص التشريعيَّة، فشريعة القرآن شريعة تخفيف ورحمة، وهي شريعة عالميَّة، انبثقت عن حاكميَّة القرآن، لا عن حاكميَّة إلهيَّة مباشرة، أنزلت على خاتم النبيين لا ينغلق دونها أيّ نسق تشريعي لتكون عامَّة شاملة لا ينغلق دونها أيّ نسق تشريعي.
وقد اشتهر عند الفقهاء قولهم: “الحدود كفارات”، فقد ذهب جمهورهم إلى أنَّ العقوبة كفارة وطهور، فلا يبقى معها على المعاقب بعد إنزال العقوبة به وزر يعاقب عليه ثانيًا، وقد ثبت ذلك في أحاديث عدة:
-منها ما روي عن خزيمة بن ثابت مرفوعًا: “من أقيم عليه حد غفر له ذلك الذنب”. وفي لفظ آخر له: “من أصاب ذنبًا فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته”.
وما روي عن عبادة بن الصامت مرفوعًا: “من أصاب منكم حدًا فجعلت له عقوبته فهو كفارته وإلا فأمره إلى الله”.
وفي لفظ آخر له: “من أتى منكم حدًا مما نهي عنه فأقيم عليه الحد فهو كفارة له، ومن أُخر عنه الحد فأمره إلى الله إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له”.
وفي لفظ ثالث له: “من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له”.
وأخرج الشافعي مرفوعًا : “ما يدريك لعل الحدود نزلت كفارة للذنو”.
وعن علي أمير المؤمنين أنَّه قال: “من أتى شيئًا من حد فأقيم عيه الحد فهو كفارته”.
-وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- أقام على رجل حدًا فجعل الناس يسبونه ويلعنونه، فقال علي (رضي الله عنه): “أما عن ذنبه هذا فلا يسأل”.
وعند شرح الحافظ لحديث عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) وكان شهد بدرًا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وحوله عصابة من أصحابه: “بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك”.
[1] الراوي: عائشة أم المؤمنين، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 3475، خلاصة حكم المحدث: [صحيح].