أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ الله (سبحانه) أزلي وصف نفسه بأنَّه “أحسن الخالقين” ﴿… فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون:14) فخلق الإنسان في أحسن تقويم، واختار له أصله وهو الطين ليكون أكثر تأهيلًا للارتباط في الأرض، والقيام بمهمة الاستخلاف. وخلق الكون وخلق فيه سننه وقوانينه، وتكامله وترابطه التي جعلته –أيضًا- في أحسن بناء وتكوين.
والإحساس بالكمال يُطغي: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾(العلق: 6-7).
ولذلك فإنَّ الإنسان حين شعر بالاستغناء استبدل “الوحي بالعلم” و “النبيّ بالعالم المنظّر” و “المساجد بالمختبرات” بل تجاوز ذلك عندما ازداد غرورًا للتجرؤ على نفي الإله نفسه، والاعلان عن موته واستبداله “بالعلم”.
إنَّ الاسلاميّين –الأصوليين- يهاجمون “الحداثة” أكثر ممّا يقدمون الإسلام، فلو أنَّهم انفقوا من الجهد والوقت في التفكير في كيفيَّة تقديم الإسلام لأهل هذا العصر، وعلى مستوى سقفهم المعرفيّ لقدّموا الكثير بدلًا من إنفاق نفائس الأوقات في مواجهة ونقد الحداثة والحداثيين، و “الحداثيون العرب والمسلمون” لم يميّزوا بين “لاهوت رعويّ بدوي ّجاهليّ أو إسلاميّ والخطاب القرآنيّ”، و “الحركات النسويَّة والمناصرون لقضايا المرأة لم يميزوا بين “الأعراف البدويَّة العربيَّة والخطاب القرآنيّ”، و “دعاة الوسطيَّة” مزّقوا كثيرًا من المفاهيم والأنساق الضابطة بمثل ما فعل دعاة فكر المقاربات في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، الذين حاولوا المزج أو الجمع بين الديمقراطيَّة الغربيَّة والشورى الإسلاميَّة والعدل الاجتماعيّ الإسلاميّ والاشتراكيَّة فمّزقوا الاثنين معًا.
لأنَّ هناك فوضى ما تزال سائدة في المفاهيم والمنطلقات والقراءات الأيديولوجيَّة المتعسّفة.
إنَّ النقص يفترض الوصاية، لا المسئوليَّة، ولأنَّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم حمّله المسئوليَّة ولم يفرض الوصاية عليه ويسخره تسخيرًا.
وقضيَّة “العقل والحسن والقبح” قضيَّة يحتاج العقل المسلم إلى إعادة النظر فيها خارج سجالات المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. ذلك السجال قد قاد إلى أمرين أحلاهما مر. أولهما تكبيل العقل ومحاصرته بحيث لم يحظ بحريّته في التلقي أو الفهم أو التفسير. أمَّا الحريَّة فيما لم يرد فيه نص فقد حصرت في اجتهاد قائم على القياس، في حين أن خلق الإنسان في أحسن تقويم جعل له عقلًا متميزًا يستطيع اكتشاف التكامل بين الإنسان والكون، بل إنَّ القرآن أمر الإنسان بالنظر العقليّ، وحضَّه على التفكر، بل إنَّ كل تلك الأعمال العقليَّة تعدّ من الواجبات على الإنسان. وبذلك تعلم العقل الاستقراء، وقياس الشاهد على الغائب فلم يكن هناك ما يدعو إلى إثارة أيَّة مشكلة في هذا الاتجاه.
فللعقل النظر واكتشاف السنن والقوانين ومنها القوانين العقليَّة والأخلاقيَّة (التي كان المعتزلة يحاولون ويرون في العقل قدرة على الكشف عنها). إنَّ الكمال الإلهيّ يتجلى في أحسن الخالقين لأحسن تقويم. لطبيعة مسخرة بتكامل دقيق: ﴿…كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا﴾ (مريم:71) وإبراهيم قال (جلّ شأنه) فيه: ﴿…وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ …﴾(الأنبياء:51) إنَّ “الوحي” جعله الله (سبحانه) يتصف بصفات الكمال الإلهيّ وعظمة الخالق: فلا يكون خرافيًا ولا أسطوريًا ولا تأسره الشروط التاريخانيَّة لإنتاج المفسرين وثقافتهم الاجتماعيَّة والعرفيَّة، فالوحي الإلهي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فيخرجهم من الإحيائيَّة الوثنية ، والثنائية المتقابلة إلى التوحيد، لكن: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106): أي يشركون به غيره “فيرون غير الله في حركة الواقع”. أمّ الوحي المطلق المركّب على نبوّة العقل فإنَّه يضفي كمالات الإله على هذا العقل: فتتحقق المعرفة به وهي غاية الخلق. والمعرفة هي فهم الإنسان لله والتفاعل معه فتتحقق عبوديّة الإنسان لله على غير عبوديّة الإنسان للإنسان فلا يعود المتحقق بالمعرفة العابدة يضرب لله الأمثال، فتجاوز الاستلاب هو مبدأ العبوديَّة لله، وتكريس الاستلاب هو مبدأ العبوديَّة للبشر، فالوحي الإلهي المطلق يحرّر الإنسان والطبيعة من الاستلابات اللاهوتيَّة الخرافيَّة و”الجمع بين القرائتين” في أقرأ الأولى نكتشف تدخل الخالق بالخلق. ونقرأ الخالق بوجوده وتصرفه في الخلق في القراءة الثانية؛ لأنّها قراءة في الظواهر ووجودها وحركتها وغاياتها.
للإسلام جوهر يزول بطولته هو الثابت وما دونه متغير عبر الزمان والمكان،عالمية الاسلام تقتضي قابلية ذلك الجوهر للفهم والالتزام به،الحضارة الإنسانية الإسلامية هي بناء لا إلحاق،تقتضي استيعاب الجوهر والزمان معا. العالم المسلم كالطبيب لا ينجح إلا بحسن المعرفة بالدواء وحسن تشخيص الداء.