أ.د. طه جابر العلواني
في ليلة الخامس من مارس 2004، وفي الساعة الواحدة ليلًا والثانية وما تلاهما كان فكري مشغولًا جدًا بمراجعة جملة ما قمت به ودرسته وأفتيت به منذ قراري الانتقال إلى أمريكا والعيش فيها.
وحاولت رصد الآثار الإيجابيَّة والسلبيَّة لهذا الانتقال على فكري ووعيي وفهمي للإسلام ومستقبله ومستقبل أهله، ودوره في هذه البلاد في الحاضر والمستقبل.
وقد وقفت وقفات مراجعة طويلة أمام ما أفتيت به منفردًا أو مع زملائي في المجلس الفقهي وغيره. وقد سيطر علي شعور غريب بأنَّ بعض تلك الفتاوى كانت تحتاج في جلها إلى مراجعات أكثر، ومشاركة أوسع من كثير من المتخصصين. وأنَّ معظمها كان يحتاج إلى استصحاب التقوى في سائر الخطوات، وإدراك المآلات والآثار العامَّة والخاصَّة وفقه الواقع بكل مركباته. وأنَّه لم يكن يكفي فيها مجرد الصياغة الفقهيَّة الأصوليَّة الفنيَّة المنضبطة، بل كنت تحتاج إلى جهود جماعيَّة أكبر بكثير مما حدث.
من تلك الفتاوى:
- التجنس بجنسيَّة بلاد غير مسلمة، وما يترتب عليه، وآثاره في المتجنسين وفيمن يتأثر بهم، خاصَّة والمسلمون في حالة تدهور وتراجع وانحسار.
- المشاركة السياسيَّة الفرديَّة دون ضوابط كافية في العمل السياسي في أمريكا وأوروبا.
- المشاركة في الجيوش والمؤسَّسات الأمنيَّة، خاصَّة لبلدان لا تخفي أطماعها في بلاد المسلمين، ولا عدائها للإسلام وأهله.
- سائر الفتاوى الفرديَّة المنطلقة من أفكار الاندماج.
لا شك أنَّ بعض الفتاوى والقضايا تحتاج إلى توبة ومراجعة. وإعلان موقف جديد منها وبعضها يحتاج إلى تعديل وتصحيح.
***
فعلى سبيل المثال فتوى المشاركة السياسيَّة، والعمل في المؤسَّسات العسكريَّة والأمنيَّة، لم تلاحظ في ذلك المآلات بشكل دقيق. ولا المصالح والمفاسد بشكل علمي.
كما لم تُلحظ فيها العبر والدروس التاريخيَّة وكذلك قضايا وأحكام الفتن.
نسأل الله تعالى أن يمكِّن من التصحيح والتوبة قبل موافاة الأجل. لأنَّني أخشى أن يكون التسرع في الرجوع عن شيء من ذلك قد يوقع بخطأ آخر أو مفسدة أخرى.
واستغفر الله على كل حال لما علمت وما لم أعلم من ذنوبي، ولما قدمت أو أخرت أو أسررت أو أعلنت من أخطائي. إنَّه عفو كريم يحب العفو. اللهم يا عفو يا كريم تحب العفو فاعف عني، وارحم ضعفي، وارزقني التوبة النصوح قبل الموت ومُنَّ علي بالرحمة والمغفرة بعد الموت. إنَّك سميع مجيب.
لكن ذلك لا يعني أنَّني أندم على اجتهاد اجتهدته معتبرًا راعيت فيه كل ضوابط الاجتهاد التي تعلمناها من القرآن المجيد، بل على العكس من ذلك إنَّني اعتبر الاجتهاد بشروطه وضوابطه التي أعرفها وتعلمتها من كتاب الله وهدي رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أرى في ذلك الاجتهاد حتى لو أخطات فيه قربة أتقرب بها إلى الله (جل شأنه)، ذلك أنَّه عبادة قد أمرت الأمَّة بها، وتفكير واجب أوجبه الله (جل شأنه) عليها.
فالقرآن هو الذي علَّمنا أن لا نقبل خبرًا دون تثبُّت وتبيُّن وفحص واختبار، بقطع النظر عن المخبِر والمخبَر عنه، والقرآن هو الذي علَّمنا بأن نفقه ونعقل ونتفكَّر ونتذكَّر ونستبصر ولا نقبل شيء بدون برهان، ولا نرتضي شيئًا بدون حجة، أمَّا التقليد الذي عرَّفه علماء أصول الفقه بأنَّه: “قبول قول الغير بلا حجة”، فهو أمر مخالف للقرآن المجيد، مناقض لهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالقرآن أراد صنع أمَّة ذات عقل برهاني، لا يقبل شيئًا بدون برهان، وقبول الغير بلا حجة شأن المشركين، لا شأن المسلمين، وسيادة عقليَّة التقليد، التي بدأت تنتشر في أمّتنا المسلمة انتشار السرطان وما زالت مهيمنة حتى يومنا هذا فهي عقليَّة شركيَّة هيَّأت للتبعية واتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، ولننظر إلى المرجعيَّات في بعض الطوائف الشيعيَّة، وغيرها، إنَّهم يجعلون من أنفسهم قائمين مقام الرسل والأنبياء في التحليل والتحريم والفتوى، وقلدتهم بذلك طوائف كثيرة حتى صار يصدق على بعض طوائف المسلمين ما قاله الله (جل شأنه): ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ..﴾ (التوبة:31)، وهذه المراجع التي أطلقوا عليها آيات الله وحجج الإسلام جعلت نفسها في تلك المثابة والمقام لكي تذلل عباد الله لما تشاء، دون دليل من الله، أو برهان من كتابه، أو من سنَّة نبيه وهديه، وإلا فمن يرضى لذلك التافه الأرعن الذي جلس على منبر مسجد ليعلن في الناس بأعلى صوته عدة مرات قائلًا: بأنَّ عليًّا ربه، قالها بصيغة: (ربنا)، وكررها مرات عديدة، علي ربنا علي ربنا. وسب جيرانه من يطلق عليهم السنَّة، ليقول: أمَّا أنتم أيُّها النواصب فسيلقي بكم علي إلى النار، وقد يقول قائل: هذا مجنون من المجانين. فما عذر المراجع الكبيرة والصغيرة، والحاكمين من حزب الدعوة وغيره، ما عذرهم في الاستماع إلى هذا الكفر الصريح البواح، وسكوتهم عنه، وعدم إنكارهم على المتورطين فيه، فضلًا عن تلك الفضائح التي وضعت بين الإسلام والقرآن وهدي النبي وهذا العصر والذين يعيشون فيه حجابًا مستورًا من اللطم والتطبير، والضرب بالسلاسل، وعبادة القبور؟ كيف يسكت هؤلاء على ذلك؟ فنجد مراجع استعبدتها العامَّة كرست فيها التقليد، وحجبت عنها العلم، وأنوار القرآن، والهدي النبوي، وآخرين وضعوا لجامهم بأيدي السلاطين يزينون بما على رؤوسهم مجالسهم فيزيدون الجماهير استسلامًا للجهل، والتبعية، والتقليد، وما إلى ذلك.
إنَّه لو بقي القرآن الكريم الموجه الأساس للعقل المسلم لما سقطنا في هذه المصائب، التي سقطنا فيها، فلست متراجعًا عن ممارسة اجتهاد أمرني الله به، ونهاني عن ضده، وإنِّي أتقرب إلى الله بالاجتهاد أصبت فيه أو أخطأت، لكنَّني استغفر الله (جل شأنه) لما قد أكون تعجلت فيه قبل أن أقوم بكل ما ينبغي من جهد عقلي ونفسي وبحثي واستقراء وتتبع لكل ما يتعلق بما ذكرت. ونسأل الله (جل شأنه) أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وأحزاننا، ونور أبصارنا وبصائرنا، ويعلمنا منه ما جهلنا ويذكرنا منه ما نسينا، ويرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار وبالشكل الذي يرضيه عنا.