Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مفهوم الطائفيَّة

أ.د/ طه جابر العلواني

“مفهوم الطائفيَّة كما يقول الدكتور/ طه جابر العلواني مفهوم مشتق من جذر متحرك فهو مأخوذ من (طاف، يطوف، طواف، فهو طائف) فالبناء اللفظي يحمل معنى تحرك الجزء من الكل دون أن ينفصل عنه بل يتحرك في إطاره وربما لصالحه لقوله (تعالى): ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة:122). (والمفهوم يشير أيضًا إلى عدد من البشر في حدود الألف من الأفراد، وبالتالي فإنَّ المفهوم في حد ذاته يتضمن فكرة الأقليَّة العدديَّة المتحركة في إطار الكل المشدود إليه، بغض النظر عن دينها أو عرقها أو لغتها، لذلك ظل المفهوم يستخدم ليشير إلى كيانات مختلفة في خصائصها والقاسم المشترك بينها هو القلة العدديَّة ولم يبرز هذا المفهوم باعتباره إشكالية أو أزمة إلا في القرنين الأخيرين، خاصَّة وذلك تحت تأثير عوامل داخليَّة وخارجيَّة في ظرف تاريخي معين ساعد على إحداث نوع من التفاعل بين العوامل الداخليَّة والمؤثرات الخارجيَّة.

وقد كانت الطائفيَّة أبرز الانقسامات التي شهدها التطور التاريخيّ العربيّ إلى ما قبل الحملة الفرنسيَّة على مصر والشام، وكما بيَّن التاريخ أنَّه لم تكن تلك الانقسامات عناصر تهديد لوحدة الكيان العربي أو مبررًا للتمايز والانفصال والتمزق بين أبنائه، فالمسيحيون العرب لم يعلنوا –على سبيل المثال- مناصرة الصليبيين في حملاتهم على البلاد العربيَّة ولم يتحالفوا معهم حتى في لحظات انكسار المسلمين.

ثم مزج مفهوم “طائفيَّة” ذات المكنون العددي مع مفاهيم أخرى ذات مضمون فكري أو فلسفي أو عرقي أو مذهبي فتحول إلى ما يشبه “المصدر الصناعي”. كما يضيف العلواني ليفند معنى الفاعليَّة الخاصَّة بالأقليَّة العدديَّة والمنفصلة عن فاعليَّة الأمَّة، وبذلك أصبح مفهوم الطائفيَّة يستخدم بديلًا لمفاهيم “الملة والعرق والدين” التي كانت سائدة قبل ذلك، واختلطت هذه المفاهيم جميعًا في بيئة متزامنة فكريًّا وسياسيًّا فأنتجت مفهوم “الطائفيَّة” باعتباره تعبيرًا عن حالة أزمة وتعيشها مجتمعات عربيَّة مثل العراق ولبنان حيث أصبحت الطائفيَّة مذهبًا وأيديولوجيات وهُويَّة حلَّت محل الهُويَّات الأخرى والانتماءات الأعلى بل وبدأت تتعالى عليها، وقد تبدي الاستعداد لتقاطع معها وأخذ موقعها وهذا كان يحدد وحدة العراق اليوم.

إنَّ “الطائفيَّة” السياسيَّة كما يؤكد الدكتور العلواني قد تم تكريسها من ساسة ليس لديهم التزام إسلامي أو مذهبي بل هو موقف انتهازي للحصول على “عصبيَّة” كما يسميها ابن خلدون أو “شعبية” كما يطلق عليها في عصرنا هذا ليكون الانتهازي السياسي قادرًا على الوصول إلى السلطة.

إنَّ مجرد الانتماء إلى طائفة أو فرقة أو مذهب لا يجعل الإنسان المنتمي إلى تلك الطائفة طائفيًّا. كما لا يجعله طائفيًّا عمله لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيشون فيها دون إضرار بحق الآخرين.

ولكن الطائفي هو الذي يرفض الطوائف الأخرى ويغمطها حقوقها أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها، تعاليًا عليها أو تجاهلًا لها وتعصبًا ضدها. وقد أدرك الغزاة والمحتلون للعراق نقطة الضعف هذه في بعض الأطراف السياسيَّة العراقيَّة وأحسنوا استغلالها واللعب عليها.

إنَّ أخطر ما يبتلى به شعب أن يتحوَّل حكامه وساسته من رجال دولة إلى رجال طوائف، فالمصير الذي ينتظر ذلك الكيان هو التفكك لا محالة ولن يكون بعد ذلك رابح إلا أعداء ذلك الكيان المستفيدون من تمزيقه.

فالطائفيَّة في ذاتها هي نزعات بين فئات وطوائف قائمة على أسس دينيَّة أو مذهبيَّة أو عرقيَّة أو لغويَّة، وقد تتفجر هذه النزاعات بشكل أكثر حدة كما هو حاصل في العراق اليوم، وبإمكان هذه النزاعات أن يكون لها طابع الامتداد خارج نطاقها وهذا ما جعلها محل رصد من قبل المتتبعين لا سيما من جانب ما يتعلق بمستقبل المنطقة التي تشهد هذه التطورات، خاصَّة وأنَّها أصبحت بمثابة صراع. ويفسر بعض المفكرين هذا الاستدعاء لهذه النزعات بالحضور الطاغي للتاريخ ووقائعه لدى هذه الطوائف والجماعات وخاصَّة ما يتعلق بنقاط الاحتكاك وعلاقتها النزاعيَّة مع الجماعات الأخرى، كما يرجعها البعض إلى حداثة تجربة الدولة الوطنيَّة الجامعة في معظم دول العالم العربيّ والإسلاميّ وفشلها في دمج كل الجماعات المختلفة ضمن هويَّة وطنيَّة واحدة بصورة توافقيَّة بما يجعل الانتماء للوطن في مقدمة الانتماءات والهويَّات الفرعيَّة الأخرى وليس العكس، إذ لا يصح وضع هذه الانتماءات الفرعيَّة في وضع متعارض مع ذلك الانتماء الأشمل والأعمق. إضافة إلى هذا لا يمكن نكران دور العالم الخارجي في تأجيج هذه النزاعات، فالطائفيَّة في العراق على سبيل المثال ظهرت خاصَّة بعد الاحتلال لاسيما بعد السياسة الأمريكيَّة المنتهجة فيما يتعلق بترتيب تحالفاتها الداخليَّة وفي إدارة صراعاتها الإقليميَّة وخاصَّة مع إيران، إلى وصول الانتماءات المذهبيَّة والطائفيَّة إلى أعمق وأسوأ مستوى لها خلال العصر الحديث بما انعكس إلى ما يشبه الحرب الأهليَّة، وفي النطاق الإقليمي إلى ما يشبه العدوى التي راحت تنتشر في كل مكان. وفي مقابل استخدام إيران لكل الأوراق التي تمتلكها في المنطقة برمتها، وفي مقدمتها ورقة المذهبيَّة الشيعيَّة في العراق لكي تواجه بها السياسات الأمريكيَّة الموجهة ضدها.

والإشكال في الطائفيَّة ليست في كونها بغيضة، ومدعاة تفرقة، وإنَّما أيضًا لكون الطائفيَّة لا توجد علانية أي غير معلنة عن نفسها، ولا يمكن لأي جماعة أن تعترف أو أن تقر عن نفسها أنَّها تتبنى الطائفيَّة، وبالتالي فهي فعل لا نبصره، ولكنَّه فاعل ومؤثر في نشر بذلك الشك والمخاوف والتوتر والصراع، إلى درجة وجود مخطط طائفي لتقويض وجود الآخر والسعي لتأسيس القوى العسكريَّة والأمنيَّة والإداريَّة والسياسيَّة وتشكيلها على أساس طائفي، بما يؤدي على أساس تقويض أركان الدولة الذي يبدأ يظهر على شكل نداءات ومطالب بالفيدرالية الذي هو في جوهره مشروع تقسيم طائفي، وقد بات البعد الطائفي أداة ذرائعيَّة سهلة التناول في الجو يستدعيها هذا الطرف أو ذاك بشكل حاد وعنيف لخدمة أغراضه السياسية، وليس ثمة مثال أكثر وضوحًا من العراق على استدعاء الطائفي لخدمة السياسي إلى درجة أن دخلت القوى السياسيَّة الشيعيَّة طرفًا في مشروع الغزو والاحتلال وهي تحمل مشروع الغزو والاحتلال وهي تحمل مشروعا طائفيا للسيطرة، وعندما أدركت استحالة إحراز السيطرة الطائفيَّة على كل العراق لجأت إلى مشروع التقسيم الطائفي ومن أجل زراعة هذا المشروع كان لابد من عنف طائفي يرحل مئات الآلاف من الأسر ويؤسس لإيديولوجيَّة التقسيم رغم أنَّ هذه الطائفيَّة المتفاقمة حاليًا التي تحولت إلى صراع جهوي لا يمكن أن نقول إنَّ لهذه الإشكاليَّات جذور طائفيَّة حيث لا الوسط سني خالص ولا الجنوب شيعي خالص ولا على مستوى الميراث التاريخيّ ولا على مستوى الواقع الديموغرافيّ وحتى بغداد التي تضم زهاء خمس الشعب العراقي يتداخل في أحيائها السنَّة والشيعة والأكراد والتركمان والمسلمون والمسيحيون.

وفي محاولة استكناه هذه النزعة يشير بعض المفكرين إلى أنَّ تاريخ الأفكار يبيِّن أنَّ المفاهيم والرموز والمعتقدات عندما تنتقل من سياقاتها الأصليَّة تتحيز رهاناتها ووظائفها وإن لم تتغير ملفوظاتها وصيغها الدلاليَّة لأنَّ الفرق شاسع بين التشيع كهويَّة عقديَّة والتشيع كتركيبة مؤسَّسية لا تستوعب بالضرورة هذه الهويَّة، وهنا يصبح من الممكن بل من البديهي أن يمتزج المعطى الطائفي بالمعطى السياسي بل يمكن أن يوظف المعطى الطائفي في راع مواقع ومصالح وتحالفات إقليميَّة، وهذا الخروج عن السيقات الأصليَّة  يؤدي إلى تغيير منطق المواجهة من محاربة المحتل إلى استهداف المخالف في المذهب.

ولكن التساؤل هو أنَّه: بالرغم من مخاطر هذه النزاعات التي تمثل خطرًا حقيقيًّا على الجميع لا يسلم منه فريق أو طائفة لماذا تسهل في عالمنا العربي والإسلامي الإثارة المذهبيَّة أو العرقيَّة أو ما إلى ذلك، بدل الانفتاح على الدائرة الأوسع؟ ولماذا تشكِّل الحالة المذهبيَّة والطائفيَّة الحلقة الأضعف لتدخل الأجنبي والعمل على بث الفرقة والتشتت بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد في سبيل تحقيق مصالح لهذا المحور الدولي أو الإقليمي أو ذاك؟

إنَّ إدمان الحالة المذهبيَّة والطائفيَّة بعامَّة جعل هناك أرضيَّة خصبة تعمل من خلالها الجهات السياسيَّة والدوليَّة على إضفاء الطابع المذهبي على الصراعات السياسيَّة.

ومن أجل العودة بهذه النزعة والحالة إلى سياقاتها الأصليَّة فإنَّ جميع الأطراف مدعوون إلى تحمل مسؤوليَّاتهم الشرعيَّة والسياسيَّة والتاريخيَّة والعمل على عقلنة الفكر الديني والمذهبي وإبعاد الحالة المذهبيَّة والدينيَّة عن أن تكون حالة انغلاق وتحجر وعصبية وذلك عن طريق التركيز على الثوابت المشتركة سواء في المضمون لإدارة الاختلاف الذي هو طبيعة بني البشر وبذلك يمكن تحويل الاختلاف إلى حالة تنوع والتنافر إلى حالة غنى للجميع.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *