أ.د/ طه جابر العلواني
إنَّ المتتبع للتاريخ الإسلاميّ القديم منه والحديث يجد ظاهرة عجيبة، خلاصتها: أنَّه على كثرة محاولات الإصلاح في المجالات المختلفة عبر العصور فإنَّه لم تحدث تراكمات قائمة على خبرات وتجارب تلك الحركات. بل نجد الحركات اللاحقة كثيرًا ما تتجاهل ما سبق، أو تنتقده وتستبعده وتبدأ من نقطة الصفر، لا من حيث انتهت إليه الحركات التي سبقتها، بحيث يبني اللّاحق على ما أسّس السابق لتحصل من الخبرات والتجارب ما يمكنها من بناء مشروع نهضويّ قادر على البقاء والاستمرار ومجابهة التحديّات. وفي الوقت نفسه يمتلك الآليّات القادرة على منحه إمكانات التجدّد بحسب تنوّع المراحل التاريخيّة وبحسب ما تتطلبه من أدوات ووسائل، تمكن المشروع من النجاح.
فقد جاء الأنبياء بمشاريع إصلاح فلم يكونوا قادة ثورات ولا رواد انقلابات وتغييرات بل كان كل منهم يؤكد للناس الذين أرسل إليهم أنه لا يريد إلا الإصلاح.
ولا يدّعي لنفسه أنَّه سيحقق ذلك الإصلاح ويستكمل مشروعه بقواه الذاتيَّة وقدراته الشخصيَّة، بل يؤكد دائمًا أنَّه إذا وفق في مشروعه الإصلاحي فما توفيقه إلا بالله عليه توكل وإليه ينيب ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود:88).
والمجددون المصلحون لهم مرجعيَّة توضح لهم مناهج الإصلاح وشرائعه ووسائله ومقاصده وغاياته ومستوياته وسائر ما يتعلق به، فهو على بينة من أمره؛ ولذلك كان المجددون يتحرون سنن الأنبياء في الإصلاح ومناهجهم في التجديد، فالشيخان أبي بكر وعمر ومن بعدهما عثمان وعليّ قد أقاموا خلافة على منهاج النبوة، ودعوا إليها وحملوا الناس عليها فما كان هناك مجال للزيغ عنها ولا للاختلاف، وما اختلف الناس عليه كان المرجع الهادي كتاب الله كفيلًا بتبيين وجه الحق والصواب فيه والقدرة على ردهم إليه ردًا جميلًا وحين وقعت بعض المخالفات من بعض حكام الأمويين قيض الله (تعالى شأنه) عمر بن عبد العزيز فهو على قصر خلافته، وقلة الفترة التي قضاها فيها استطاع أن يتقدم بمشروعه الإصلاحيّ التجديديّ الذي تألف في نظرنا من ثلاث.
فعلى سبيل المثال: قام الخليفة الأمويّ عمر بن عبد العزيز بمجموعة كبيرة من الإصلاحات في مجالات كثيرة منها:
- العمل على إعادة بناء ووحدة الأمَّة بالاحتكام إلى الحوار والجدل بالتي هي أحسن للفئات التي كانت في عهود من سبقه من الخلفاء الأمويّين قد خرجت على الدولة، وحملت السلاح ضدها. وذلك يعني أنّه حاول تنبيه الأمَّة إلى أنّ الخلافات الداخليّة بين فصائل الأمَّة لا يسمح بأي حال بالاحتكام فيها إلى القوة، بل إلى الحوار، والجدل بالتي هي أحسن. لكن من جاء بعده من الخلفاء عادوا إلى الاحتكام إلى السيف داخليًّا وخارجيًّا.
- لقد قام بعمليَّة رد المظالم، واستعادة المال العام من أولئك الذين استولوا عليه أو أقطعوه بطرق غير مشروعة. وأمر بأنّ تباع مقتنيات من سبقوه في مزادات علنيَّة، حتى إنّه رد إلى بيت المال العقود والجواهر التي أهداها والد زوجته إليها. وأراد بذلك أن يؤسّس مبدأ «المحافظة على المال العام» وعدم إباحة شيء من التصرّف فيه بدون وجه شرعيّ، وإخضاع الحكام والولاة لمحاسبة الأمَّة.
ومنذ ذلك التاريخ والعدل وإقامته بين الناس يعتبران أهم وسائل إعادة بناء السلم الأهليّ، والقضاء على منابع العنف في المجتمعات الداخلية، وإعدادها لمعالجة مشكلاتها سلميًا، وما من أمَّة يختل فيها حبل الأمن والاستقرار إلَّا وتبرز فيها الحاجة الماسة إلى العدل، فالعدل وحده في هذه الحالة هو الذي يعيد بناء اللحمة بين فصائل الناس، ويعطيها الإحساس بالأمان والاطمئنان والوصول إلى الحقوق من غير عنف ولا صراع.
- حاول القيام بإصلاحات فقهيَّة بجمع السنن؛ لتكون هذه السنن فقهًا للأمَّة باعتبار السنن بيانًا للقرآن المجيد الذي هو المصدر المنشئ الوحيد للعقيدة والشريعة، والسنن الثابتة الصحيحة بيانه الملزم التوحيد؛ ولكن سرعان ما انحرف الناس بعده عن هذا السبيل القديم ليجعلوا من آيات القرآن المجيد وسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) شواهد معضّدة ومساندة لمذاهبهم الفقهيّة، وهذا خطأ في فهم المشروع الإصلاحيّ العمريّ الذي كان يريد أن يجعل من السُنَّة فقهًا بديلًا للكتاب الكريم تجتمع عليه كلمة الأمَّة.
وهنا نجد في مشروع عمر بن عبد العزيز نوعا من التكامل: ففيه إصلاح فكريّ، ومعرفيّ، ومنهجيّ، وقضائيّ، وسياسيّ.
وحين نتجاوز هذه المحاولة بحثًا عن نموذج إصلاحيّ آخر في العصر العباسيّ، نجد المأمون نموذجًا لمن قام بعمليَّة مثاقفة انفتح فيها التراث الإنسانيّ كله؛ ولكن صحب ذلك نوع من المصادرة لحريّة الرأي، وحرمان المخالفين بالقوة من التعبير عن آرائهم المخالفة لرأي الخليفة ومشايعيه، واستمرت عمليَّات اضطهاد المخالفين ثمانية عشر عامًا، شملت ما بقي من فترة خلافته، وخلافة أخيه المعتصم وجزءًا من خلافة المتوكل الذي استطاع أن يدرك أهم جوانب الخلل في مشروع أخويه المأمون والمعتصم ألا وهو: فقدان المشروعين لخاصيَّة التكامل وحريَّة التعبير، وأبطل ما أسس له سابقاه من بدعة القول “بخلق القرآن”.
وتعد خطوته إصلاحيَّة من هذه الناحية، وإن لم تخل من الانتقام من بعض عناصر الاعتزال التي شايعت أخويه وأغرتهما باضطهاد المخالفين. وهو الذي أسّس لمذهب “أهل السنّة والجماعة”. فإذا غضضنا الطرف عن بعض المخالفات، فإنَّ الرجل يمكن اعتباره إصلاحيًّا في إطار “القول بحريّة المخالف في إبداء رأيه” وحمايته من خصوم ذلك الرأي ومخالفيه، وكان عمله في إطار الرد إلى الأمر الأول الذي أسس القرآن المجيد له والتزم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) طيلة حياته. والتزم به خلفاؤه الراشدون من بعده. والآثار في ذلك كثيرة.
ثم جاء من بعده أبو شامة المقدسي، وهو مؤرخ وفقيه وعالم لم تسلط عليه الأضواء كما سلطت على ابن خلدون ومشروعه، فأبو شامة المقدسي قادته ثقافته الواسعة وتأثره بالتاريخ وعلومه إلى وضع مشروعه الذي عنونه بـ “الرد إلى الأمر الأول” كما جاء في عنوان كتابه الذي يحمل ملامح مشروعه، فهو مشروع معرفي منهجي يرى ضرورة الرجوع إلى المرجعيَّة الأولى والأساس ورد الأمر إلى القرآن المجيد والاستنارة بمنهجية السُنَّة النبوية المطهرة وقد قتل الرجل في محرابه قبل أن يتبلور مشروعه ويرى النور، وتتابعت المشاريع الإصلاحية فقدم الجوزي وعبدالقادر الجيلاني ولفيف آخر كبير من العلماء والمتصوفة مشروع الإصلاح التربوي. وهناك محاولات إصلاح أخرى لم نقف عندها طويلا بل تركناها للباحثين ينظرون نظرة متعمقة في تلك المشاريع منها: وهؤلاء كلهم لم يتوقف الناس عندهم بعدها حركات إصلاح لطغيان الجانب الفقهي.
ويمكن الاسترسال في ذكر كثير من المحاولات الإصلاحيَّة، ومنها ما قام به آل زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وبعض سلاطين آل عثمان. هذا على مستوى المحاولات الإصلاحيّة التي بادر بها أئمة وعلماء كبار عرفوا بالمجددين، فالأئمة مالك وأبي حنيفة والشافعي والبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، وأسد بن الفرات والغزالي وشيخه إمام الحرمين وأبو الحسن الأشعريّ وغيرهم مرورًا بالإصلاحيين الذين عرفهم تاريخنا؛ أمثال عبد القادر الجيلاني، وابن تيمية ومدرسته حتى القرن التاسع عشر الذي شهد محاولات بعض مشايخ الأزهر، وبعض كبار العلماء في العالم الإسلاميّ مرورًا بالأفغاني والكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا، والنائيتي والدهلوي والشوكاني وسواهم.
إنَّ بين يدي الراغبين في الإصلاح في عصورنا هذه تجارب وتراث إصلاحي يستطيع أن يمدنا بكثير من الخبرات والتجارب التي يمكن الاستفادة من بعضها وتحويلها إلى رصيد فكري ومنهجي يثري خبرات الأجيال الطالعة ويقودها بعيدًا عن اتجاهات العنف وثقافة التوحش المستوردة وما إليها، وقد يكون أساتذة التاريخ والعلماء القادرين على إبراز تلك الإضاءات وتعميق الاحساس بها وإيضاح ما فعله رجال الفكر والدعوة وقادة اتجاهات الإصلاح من آثار طيبة حققت كثيرًا من الإنجازات.
فلعل المتخصصين يوجهون شيئًا من طاقاتهم لبحث هذه الجوانب وإبراز النماذج المعرفية الكامنة وراءها، فذلك من أكثر الأمور إعانة على إثراء خبرات الشباب المسلم وحسن توجيههم وإنقاذهم من ثقافة التوحش والتمرد وما إليها.