Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

منهجية مصدرها القرآن

كريم محمد

في وقت ما كانت المشاريع العربيّة الإسلاميّة تعاني من أزمة منهج في واقع الحال، كان مشروع الدكتور طه جابر العلوانيّ -رحمه الله- يشقّ طريقه مرتكزًا إلى منهاجيّة تتخذُ من القرآن الكريم مرجعها، وإلى شبكة مفاهيميّة مستقاة من الكتاب الكريم الذي يعتقد صاحب “لسان القرآن” و”الوحدة البنائيّة للقرآن” أنّه كتاب يشتملُ على وحدة داخليّة تُنشئ مفاهيم متراصّة تحتاج إلى سبر واستكشاف لتضيء للمسلمين حياتهم بعدما غلّبوا العلوم على القرآن، وجعلوا بينهم وبينه سدًّا من الكتب والأقوال والتراثات. إذ إنّ خرّيج الأزهر، ومؤسّس المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، الدكتور العلواني، كان واحدًا من الذين مرّوا بالتجربتين التراثيّة بأكملها -في الأزهر- والحداثيّة بأكملها -في الغرب- فشربوا من الكأسين دون أن يقتنعَ، معرفيًّا، تمام الاقتناع بالتجربتين. فكان، رحمه الله، واعيًا بمأزق التراث والحداثة معًا، عارفًا بحقيقة المشاكل البنيويّة التي تنطوي عليها كلّ تجربة. ومن هنا، سعى رئيس جامعة العلوم الإسلاميّة والاجتماعيّة إلى كشْف الخلل عن التجربتين، فالأولى -أي التراثيّة- تسلب الإنسان فاعليّته في مقولات أضفيت عليها القداسة، والثانية -أي الحداثيّة- تُشيّئ الإنسان ضمن منظومة حضارية مادية، مصنّمة الجانب الماديّ فيه، ومُبعدة الجانب الرّوحيّ كلّ البعد.

لذا؛ فقد نبتت منهجيّة الدكتور طه جابر العلوانيّ ليس فحسب من إطارات نظريّة وقراءات معرفيّة، وإنّما نتجت من واقع عاشه وعايشه بقضّه وقضيضه، وشارك فيه، وحاول جاهدًا أن يغيّر فيه ما هداه الله إلى ذلك سبيلًا. أقول، نبتت هذه المنهجيّة أيضًا من “محنة منهج” تعاني منها المدارس الإسلاميّة اليوم، التي هي، برأيي صاحب تحقيق “المحصول” للرّازي والمصنّفات العديدة، مبتعدة عن القرآن الكريم منهجًا وفهمًا، حتى وإن قالت بسيرها على نهجه. وبالتالي، حاول العلوانيّ أن يحرّر القرآن من قبضة التراث عبر منحه فضاءَه اللغويّ الخاصّ الذي يعتقد العلوانيّ أنه مجال متمايز وأصيل ويُفسّر بعضه بعضًا ولا يحتاج إلى خارجه. ولذلك، لم تكن نزعة العلوانيّ ذات يوم نزعة “لغويّة” بالمعنى الكلاسيكيّ، وإنّما هي نزعة لغويّة يُنشئها القرآن نفسه، ولا يلقيها عليه هو من خارجه. إذ القرآن، منظورًا إليها من المنظور العلوانيّ، يشتملُ على وحدةٍ بنائيّة داخليّة متماسكة، والكلمات فيه ليست غُفلًا، بل يربطها رابط دلاليّ واحد.

على إثر ذلك، لمّا رأى العلوانيّ “أزمة المنهج” هذه متفشّية في العِلم الإسلاميّ اليوم، فقد حاول أن ينشئ منهجيّة قرآنيّة للتعامل مع التراث والحداثة على حدّ سواء. فالقرآن، بحسبه، كتاب كونيّ، يتجاوز كلّ العصور، ويقدر أن يحلّ الأزمات المعرفيّة والأخلاقيّة، بله، حسب العلوانيّ، العمرانيّة -وقد كتبَ كتابًا في “مقصد العمران في القرآن” في طور نشره حاليًا، يُبيّن فيه كيف يمكن لمفهوم العمران القرآنيّ أن يتجاوز الأزمات المعاصرة للحداثة، تلك الأزمات الإيكولوجيّة والإيتيقيّة الناجمة عن التشوّه الحداثيّ للعمران الحديث.

إنّ منهجه يبدأ من القرآن وإليه يعود، والمنهجيّة كذلك. ومن ثمّ، لا فرار، علوانيًّا، من القرآن بإعطاء الأولويّة للغة أو الفقه عليه، فالقرآن حاكِم لا محكوم. وبالتالي، تكون المنهجيّة العلوانيّة منهجيّة مزدوجة: فهي تقفُ على مسافة نقديّة من تراث أربعة عشر قرنًا من الزّمان، وتتخذ موقفًا مبادئيًّا من الحداثة الغربيّة للنّزعات الماديّة الموجودة فيها والتي تكاد تصل، بحسب العلوانيّ، إلى “تأليه الإنسان”.

إضافة إلى المنهجيّة القرآنيّة التي فصّلها في كتبه العديدة مثل “الجمع بين القراءتين” و”معالم في المنهج القرآنيّ”، فقد اشتغلَ -رحمه الله- منذ التسعينيّات على “المقاصد العليا الحاكمة في القرآن”، محاولًا، خلافًا للمقاصديين الجُدد، أن يستنبطَ، وفق ما أوصله إليه منهجه، من القرآن نفسه المقاصد العليا الحاكمة -وهي عبارة جامعة بالنسبة إليه. إذ إنّها مقاصد يدور حولها القرآن، كما إنّها عليا لشرف مقاصديّتها وسموّ رفعتها، وهي حاكمة أيضًا لأنّه يُمكن أن يُردّ إليها كثير من القرآن لأنّه لا يخرج عنها.

في البداية، وجدَ العلوانيّ أنّ القرآن يدور على مقاصد ثلاثة: التوحيد؛ والتزكية؛ والعمران. فالتوحيد “أصل الأصول”، كما يقولون، لكنّ العلوانيّ حرّر التوحيد من التجريدات الكلاميّة -أشعريّة واعتزاليّة وماتريديّة وغيرها- ليعود به إلى المعنى القرآنيّ الذي يمكن للمسلمين جميعًا أن يستوعبوه، مجادلًا، خلافًا للمتكلّمين، أنّ العقيدة الإسلاميّة سهلة ويسيرة، وهذه التجريدات الكلاميّة ما هي إلّا شقشقات لا تنتج إيمانًا يقر في الصّدر، وإنّما هي أصول نظريّة. أمّا التزكية فهي المقصد الثاني، فالتوحيد إصحاح القلب من الشّرك، والتزكية إصحاحه من علل الطريق ورفعة به إلى مدارج السالكين إلى الله -عزّ وجلّ-. أمّا العمران فهو بمثابة “التزكية الخارجيّة”، إذا اعتبرنا أنّ التزكية هي “العمران الخارجيّ”.

وبعد مضيّ ما يقرب من عشر سنوات، أضاف العلوانيّ إلى المقاصد الثلاثة مقصدين آخرين، هما مقصد الأمّة ومقصد الدّعوة. فالأمّة هي الوعاء الذي يؤلّف فيه القرآن الكريم مثاله لإنسان ربّانيّ توجّهه قيم ربانيّة عليا، وهي التي ستقوم بمقصد الدّعوة، المقصد الخامس. وقد حاول العلوانيّ أن يراجع في مقصد الأمّة الإسلامويّة (Islamism) في تصوّراتها حول الأمّة؛ إذ جادلَ العلوانيّ، ارتكازًا بالأساس إلى المرحومة منى أبو الفضل في كتابها المتميّز “الأمّة القطب”، أن مفهوم الأمّة في القرآن مفهوم غير سياسيّ، وإنّما هو مفهوم قِيميّ، والخلط الإسلامويّ ناتج إنّما من غلبة التصورات الحداثويّة للدّولة الحديثة التي لا تنفصل “أمّتها” (Nation) عن سلطتها السياديّة إذ هي تمثيل للأولى. أمّا في مقصد الدّعوة، الذي هو مقصد هامّ جدًّا في وقتنا الحالي خاصّة مع انتشار ما يُسمّى “مراكز الدّعوة الإسلاميّة”، إذ راجع العلوانيّ فيه كلمة “دعوة” في القرآن، مفرّقًا منهجيًّا بين “الفتوحات” و”الدعوة”، وهو الأمر الذي يثير جدلًا دائمًا بين الإسلامويين والحداثويين.

وبهذه المقاصد الخمسة، حاول العلوانيّ أن يلمّ شتات الإشكالات التي تواجه العقل المسلم في زمننا، إذ ردّه إلى القرآن أولًا مرجعًا أساسيًّا، واستبنط منه منهاجيّة قرآنيّة للتعامل معه أولًا، ومع واقعه ثانيًا، ثم إنّه حدّد له أطرًا كليّة -أي المقاصد- يتحرّك في أفقها ومن خلالها.

ونحن إذ نستعرض هذه الخلاصات الموجزة للمنهجيّة العلوانيّة لمنحة أكاديمية العلوانيّ المقدّمة إلى الطلّاب الوافدين فإنّما نرسم أفقًا لما يمكن أن يعمل ضمنه الباحث ويقدّم أطروحات معمّقة في الإشكالات والطّروحات والأفكار التي أثارها الدّكتور العلوانيّ، معتقدين بقيمة المنهج الذي قدّمه، ومؤمنين بمثابرة نظريّة طويلة في الآفاق النّظريّة التي يمكن استثمارها من منهجه في شتّى نواحي النظريّة والفكر، سواء أكان إسلاميًّا أو اجتماعيًّا أو فلسفيًّا.

فيمكن عبر منهجه، أن يقدّم الباحث أطروحات متعلّقة بالتراث ومراجعته، وإذا كان “التراث” كلمة عريضة اليوم، وخضع لشتّى أنواع النّقد من إسلاميّه إلى حداثيّه، فإنّنا نظنّ أنه لم يُراجع قرآنيًّا؛ أي على ضوء القرآن الكريم بمقاصده التي ليست، حسب العلوانيّ، حِكمًا، كما كانت في القديم، وإنّما هي منظومة بالأساس، كما حاول أن يبيّن. ولذلك، بإمكان الباحث أن يراجع كتب التراث وفقًا لهذه المنهجيّة، من منطلق قرآنيّ منهجيّ.

كما إنّه من الممكن أن يعمل على ما يسمّى “علوم العمران” بأدوات اجتماعيّة حديثة، رادًّا إيّاها إلى المفاهيم القرآنيّة ليحاكم صلوحيّتها وصلاحيّتها للتعامل مع المشاكل القِيميّة والعمرانيّة التي يدرسها، إلى آخر أبعاد المشروع العلميّ الاجتماعيّ الذي يمكن أن يشتبكَ فعلًا مع هذا الأفق القرآنيّ.

إنّ إعادة بناء (reconstructing) علوم الأمّة هدف للأكاديمية نبيل، ولعلّ هذه المنحة تكون بدءًا لطريق يطول في تحقيق هذا الهدف النّبيل.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *