Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أحداث البحرين بين التهدئة والتهييج

رؤية أخرى[1]

د. طه جابر العلواني

البحرين بلد صغير له تاريخ أكبر بكثير مما يعرفه اليوم الناس عنه أو ينظر إليه من خلاله. قبل مَا يزيد عن عشر سنوات كنت أمرّ بالبحرين عابر سبيل أنزل في مطارها ساعات ثم أغادر، وإن طالت إقامتي فقد أقضي ليلة أو سحابة نهار ثم أغادر. لم أكن أتوقع أنّ يومًا يأتي عليَّ فيربطني بالبحرين بمثل الرباط الَّذِي كان يربطني بالعراق مسقط رأسيّ وموطني الأول، فهو -أي العراق- بالنسبة لي؛

بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي * * * وأول أرض مسّ جلدي ترابها

لكنني منذ مَا يزيد عن عشر سنوات انتقلت إحدى ابنتي وزوجها وأولادها ليعملوا في خدمة البحرين وأهلها، أساتذة في الجامعة، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتحيّن الفرصة تلو الأخرة لزيارة هذا الجزء العزيز من أهلي في البحرين فقامت بيني وبين البحرين علاقة عاطفيّة شدّتني إليها وجعلتني أنظر إليها حين أزورها بعد ذلك وكأنّها البصرة أو جزء عزيز من سواد العراق. لم تكن عندي مشكلة في أن أحب البلد وأهلها دون نظر إلى حاكم أو محكوم ودون نظر إلى انقسامات كنت ألحظها بين شيعة وسنّة، وسلفيّة وصوفيّة، ومثقفين ليبراليّين وغير ليبراليّين في مستويات عديدة، وكنت بعد تغيّر الأوضاع في إيران والطريقة التي استقبل الناس في العراق والخليج تلك التغيُّرات كنت أنظر إليها نظرة قلق، كان مبعث قلقي أن يجهل إخواني السنّة والشيعة معًا من أبناء البحرين كما جهل قبلهم أبناء العراق وإيران حقائق أساسيّة بسيطة جدًّا، منها أنّه لن يتمكن “الشيعة” أن ينهوا الوجود السنيّ في أيّ بلد من هذه البلدان سواء صدَّروا الثورة أم استوردوها؛ لأنّه وجود راسخ ثابت رسوخ طبيعتها الجغرافيّة والمناخيّة، كما أنّه لن يتمكن “السنّة” من محو الوجود الشيعيّ بأيّ حال من الأحوال، وهنا يصبح نظام العلاقة بين الطرفين محكومًا وجوبًا بجملة من القواعد تفرضها هذه المسلّمة البديهيّة، وهي قواعد التعايش السلميّ والتسامح المذهبيّ والتداخل المجتمعيّ والتقليل من الفوارق وتوسيع مساحة المتفق عليه، وتضييق مساحة المختلف فيه، وكلها أمور في مقدور البشر أن يفعلوها.

أولا: كما أنّ على هذا النوع من المجتمعات أن يكون حذرًا أشد الحذر من اتخاذ قيادات دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة ذات صبغة طائفيّة أو اتجاهات مذهبيّة متعصّبة أو ذات مصالح في الاستقطاب الطائفيّ، وينبغي لهذه المجتمعات أن تؤصّل لثقافة مشتركة تجعل لدى السنيّ والشيعيّ نفورًا طبعيًّا من الدعوات الطائفيّة والاتجاهات المذهبيّة وتقليل نسب الولاء بوساطة تلك الثقافة من الولاء للطائفة والفئة والحزب إلى الولاء للأمّة، ومن المذهب الخاص إلى الدين العام والمشترك، وأن يكون هناك نفور طبعيّ توجده تلك الثقافة من أيّ دعوة ضيّقة من تلك الدعوات –بقطع النظر عن من تصدر عنه تلك الدعوات؛ لأنّها جميعًا في هذه الحالة ستكون مدمرة مشعلة للبغضاء منفّرة.

كما أنّ القيادات الاجتماعيّة والسياسيّة يجب أن تتفق وتتوافق وتتعاقد وتعاهد الله تعالى على عدم استغلال هذه الأمور الضيقة في تكوين عصبيّات سياسيّة في الانتخابات ومواسم العمل السياسيّ بحيث يتعلّم الجميع أنّ هناك خطوطًا حمراء لا ينبغي الاقتراب منها فضلا عن الولوغ فيها؛ لكنّ المستغلين والذين لا يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم دورًا في أيّ بيئة هادئة نظيفة إلا إذا خلطوا الأوراق ولوّثوا المياه وحوّلوها إلى طين محمّل بكل وسائل النفرة وتكريس البغضاء والانفصال ونحوها. لكنّ ذلك لم يحدث، وبقينا جميعًا ندفن روؤسنا في الرمال ولا نعترف بوجود تلك الألغام الطائفيّة المفرقة والمدمرة في أرضنا تحت السطح وفوق السطح وأنّها قادرة على تهديد أجيالنا في حاضرها وفي مستقبلها القريب والبعيد.

مسلّمة ثانية كنت أتمنى أن تكون جميع المناطق التي يتعايش فيها السنّة والشيعة والسلفيّون والصوفيّون والجماعات الإسلاميّة المختلفة أن يفهموها وهي: أنّ لأمّتنا تاريخًا طويلا عريضًا كان زاهيًا في بعض العصور بحيث كان الناس يرحبون بالاختلاف بمثل الروح التي يرحبون فيها بالاتفاق. ولقد أعجبني موقف الإمام اللغويّ مُحَمَّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي صاحب مختار الصحاح، هذا الرجل كان يعيش في الريّ التي ضمت إلى مدينة طهران المعاصرة، وكانت الريّ من أكثر البلدان الإسلاميّة مذاهب، كان الرجل شافعيًّا فتحوّل من المذهب الشافعيّ إلى المذهب المالكيّ فقيل له في ذلك وسُئل عن أسباب تحوّله وتغييره لمذهبه فقال: «لقد وجدت هذه المدينة العظيمة حافلة بجميع المقالات والمذاهب الإسلاميّة لكنني لم ألحظ وجود مذهب لهذا الإمام الجليل فأحببت أن أعمر مشهده وأؤسس لمذهبه في هذا البلد» هكذا كانت نظرة علمائنا لاختلاف المذاهب.

ثانيا: ولذلك السبب المتقدّم كانت التحولات بين المذاهب ظاهرة منتشرة، فتجد البلد في مرحلة من المراحل سنيًّا أو ذا أغلبيّة سنيّة، وتجده بعد عدة سنوات قد صار ذا أغلبيّة شيعيّة والتداول مستمر دون أن يضيق أحد بأحد ذرعًا.  

فإيران كانت أثناء القرن الخامس عشر سنيّة حنفيّة، ثم تحوّلت إلى شيعيّة صفويّة ثم جرت تحولات داخل المذهب الشيعيّ إلى مذاهب شيعيّة فرعيّة، كما أنّ مصر كانت فاطميّة شيعيّة مَا يزيد عن قرنين من الزمان انتهت بانتهاء الحاكم بأمر الله الفاطميّ، ثم تحوّلت إلى المذاهب السنّيّة وفي مقدّمتها المذهب الشافعيّ، والأزهر نفسه أوّل مَا أُسس إنّما أسس ليكون خاصًا بدراسة المذاهب الشيعيّة، وتحوّل بعد تحوّل البلد كلّها إلى مرجعيّة لدراسة المذاهب السنيّة، ولقد احترب الصفويّون والعثمانيّون وكانت الحرب سجالا بينهم وكانت بلدانًا كثيرة من تلك التي تعرضت إلى أن تكون جزءا من ميدان القتال تجري فيها تحولات بين السنّة والشيعة بشكل سريع بحيث ألف الناس تلك التحولات واعتادوا على سرعتها حتى لكأنَّ بعض البلدان تصبح شيعيّة وتمسي سنيّة والعكس صحيح، ولم يكن الناس يضيقون ذرعًا بذلك، وكانت المرونة التي تعلموها وشعورهم بضآلة المختلف عليه حين لا تتدخل السياسة، تجعلهم يتقبلونها بصدور مفتوحة وقلوب مطمئنة، ومع أنّ هناك فترات ظلام قد حدثت عبر التاريخ هنا وهناك لكنها لم تكن بحيث تطول أو تمتد إلى أن تعمّق الفوارق وتجذّر لها، وقبل حروب الصفويّين والعثمانيّين كانت هناك صراعات السلاجقة والبويهيّين وغيرهم، وكان مَا توقده السياسة تطفئه المودة والرحمة والأخوة الدينيّة في غالب الأحيان، ولقد عشنا في العراق زمنًا كانت معظم المزارات والعتبات الشيعيّة تقوم على خدمتها أسر سنيّة في الكاظميّة والسامّراء وكذلك كربلاء في بعض الأحيان.

ثالثا: إنّ العشيرة التي أنتمي إليها في العراق وهي عشيرة سنيّة نصفها سنيّ وهذا النصف يعيش في الفلّوجة وما إليها، ونصفها الآخر شيعيّ يعيش في التبَّة وما إلى ذلك، وكنا نتزاور ونؤدي الديّات المترتبة على أخطاء بعض المنتمين إلى العشيرة معًا دون أي غضاضة ودون أن يتسائل أحد إن كان المخطئ شيعيًّا أم سنيًّا، فالجوامع أكثر من المفرقات، ولذلك فإنّني كنت استهجن عمليّات الصراع الطائفيّ أو التفرقة المذهبيّة وأرى فيها مذهبًا من مذاهب التخلّف استهجنه ولا استريح إليه، وزاد من وعيّ بضحالة هذا النوع من التفكير اطلاعي على التحولات المذهبيّة في العالم الإسلاميّ، وإن أنسى لا أنسى أنّ السجلّات العثمانيّة كانت تشير إلى أنّ عدد الشيعة في العراق (16%) فقط، ويعلم العراقيّون اليوم أنّ النسبة قد صارت أكبر من هذا بكثير، فكثير من قبائلنا تتحول من مذهب لآخر بين فترة وأخرى. لا شك أنّ المذهب الشيعيّ يتمتّع بجاذبية خاصّة في كثير من المناطق الإسلاميّة بحكم التأكيد على ارتباط التشيّع بآل البيت ومذاهبهم والانتصار لهم كما أنّ عمليّة التقليد تجعل العلماء والمراجع الشيعيّة قادرين على بناء الحوزات وتأسيس المدارس وتبني مئآت بل آلاف بحسب أهميّة المرجع والحقوق التي تصل إليه وما يستطيع أن يكتسبه من احترام في نفوس الجماهير، في حين أنّ السنّة لم يعد لديهم -بعد أن سيطرت الحكومات على أوقافهم- القدرات الماديّة مثل علماء الشيعة للدعوة واستقطاب الطلاب وتكوين مؤسّسات دعوة وما إلى ذلك، فالسنّة يعتمدون على مَا تقدمه الحكومات من أموال الأوقاف التي سبق لها سلبها والسيطرة عليها، في حين يعتمد علماء الشيعة على القواعد العريضة من الشعوب التي تمدهم بالأخماس والزكوات وما إلى ذلك، مما يجعل بعض المراجع ينافسون دولًا متوسطة الحجم في تعدد موارد دخلهم وقدراتهم الواسعة على صرفها مع عدم خضوع الكثير منها إلى قوانين الضرائب في مختلف البلدان، ومع ذلك فالتحوّل مستمر في الولاء إلى المذاهب وقد يستمر إلى يوم الدين، فلِم ينفخ البعض في أبواق التفرقة والتمزيق وتفتيت وحدة الأمّة.

رابعًا: مع كثرة دعاوى التقريب بين المذاهب ووجود مؤسّسات لها في بلدان كثيرة وفي مقدمتها طهران التي أسّست مجمعًا للتقريب تشرفتُ بالمشاركة في بعض لقاءاته، كما أسّست جامعة لكيفيّة التقريب بين المذاهب، لكنَّنا -والحق يقال- لم نشهد نتائج تذكر لهذه المؤسّسات. ولقد أزعجني جدًّا مَا كنت أراه وأسمعه وألاحظه من إحياء للتراث الطائفيّ لدى الفريقين خاصّة أثناء الحرب البعثيّة الإيرانيّة وكنت أخشى عواقب ذلك ونتائجه وكانت أصوات المتطرفين من الفريقين هِيَ الأعلى دائما. فتم خلال تلك الحرب إحياء تراث النواصب المعادين لآل البيت، ولقد شهدت محاولات السيد الشيخ محمد علي التسخيري وغيره من معتدلي علماء الشيعة لإقناع المسئولين في إيران بالسماح للسنة بتأسيس مساجد لهم في طهران وغيرها فلم ينجحوا في مساعيهم الحميدة تلك، وبقيت طهران إلى يومنا هذا خالية من أي جامع سني مع معرفة الجميع بوجود نسبة عالية من السنة في إيران، قد لا تقل عن أربعين بالمائة، تنتمي إلى عرقيات مختلفة منها العربية والتركمانية والكردية.

وتراث الراوافد المعادين لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكريسه والترويج له.

فإذا أضيف إلى ذلك تلك الظواهر السلبية السائدة في مجتماعاتنا ومنها ظواهر التعميم للخاص، وتحويله إلى عام مهما صغر حجمه نستطيع أن ندرك أن تلك المرحلة قد أسست لهذه الانقسامات الحادة التي نشهدها في جميع مناطق الاحتقان الطائفي في العراق والخليج والباكستان وإيران وغيرها، مما نسأل الله (عز وجل) أن يعين المخلصين من سائر الأطراف على احتواء تلك الظواهر المدمرة، ونزع فتائلها.

لقد كتبت كثيرًا وحاضرت منذ عدة سنوات عن الاحتقان الطائفيّ في الخليج والعراق وإيران، وناديت بضرورة تنفيس ذلك الاحتقان ومحاولة التخلّص منه وعرضت على كثير من المؤسّسات التي كنت اعتبرها مؤسسات أمّة تهمها وحدتها وجمع كلمتها وتأسيس برامج تعليميّة تبدأ من الابتدائية وتنتهي بالدكتوراه؛ أهم أهدافها تنفيس الاحتقان الطائفيّ والتعايش المشترك ونبذ التفرقة والاستعلاء على الطائفيّة والتمسك بحقائق الدين. وقدمت مقترحات عمليّة ممكنة ويسيرة لبدء برامج تعليميّة في هذا المجال؛ منها: أولا: يتعلّم الأبناء فيها تلك الروح التي عبّر عنها الرازي فيما تقدّم، الروح التي تعرف كيف تمنع وقوع المشكلات الطائفيّة، وإذا وقعت فإنّها تعرف كيف تعالجها وتحتويها قبل أن تستفحل وتبرم نارها. وقد أعددت برامج يمكن أن تحقق هذا لو جرى تفعيلها وأدخلت العمليّة التعلميّة في العالم الإسلاميّ؛ منها على سبيل المثال:

أولًا: إعادة تثقيف الأمّة بالقرآن المجيد التي اتفقت كلمة الأمّة بفضل الله -تعالى- عليه فلا أحد ينكره أو ينكر شيئًا منه، أو يستطيع أن ينال من مرجعيته وما قيل من أنّ بعض الشيعة قد كتب كتابا اسمه «فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب»، فإنه كتاب تافه رفضه جمهرة من علماء الشيعة بأكثر مما رفضه علماء السنّة، وما نقله بعض الشيعة من أحاديث غير ثابتة جرى تداولها في بعض المعارف الدينيّة لدى السنّة مثل أحاديث نسخ التلاوة وما شاكل ذلك، فإنّها أحاديث لا تصحّ يرفضها السنّة بذات القوة التي يرفضها بها علماء الشيعة، وبالتالي فإنّه مَا من سنيّ ولا شيعيّ يمكن أن ينسب نقصًا أو زيادة إلى كتاب الله –تعالى- المعصوم الَّذِي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه واتفاق كلمتنا على الكتاب سيكون منطلقًا أساسًيا وحجر زاوية في إعادة بناء وحدتنا وألفتنا وجمع قلوبنا على الكلمة السواء، إذا أخبتت القلوب وقنتت النفوس واستقامت العقول وتضرعت إلى الله -تعالى- أن يجمع كلمتها ويؤلّف بين قلوبها. فإذا اتضحت هذه الحقيقة فينبغي أن نستبعد التفاسير التي تحمّل آيات القرآن المجيد معاني لا تحتملها ونتصل بالقرآن الكريم مباشرة دون وساطة تلك التفاسير المفرقة وما أكثرها لدى الطوائف والمذاهب وما أكثر مَا ينبغي أن يُستبعد منها، وإنّ حديث الإمام عليّ -رضي الله تعالى عنه- حديث صريح يصلح أن يكون قاعدةً ومنطلقًا في هذا المجال. قال الإمام محمد بن إبراهيم الوزير (ت:840هـ) وهو يؤكد على ضرورة الرجوع إلى القرآن المجيد، وحثَّ رسول الله –  صلى الله عليه وآله وسلم – على ذلك وتقديمه على كل ما عداه: قال “… فلنقتصر على حديث مشهور يذَكّر بأمثاله:

وذلك مما رواه السيد الإمام أبو طالب في أماليه، والحافظ المحدِّث أبو عيسى الترمذي([2]) في جامعه من حديث الحارث بن عبد الله الهمذاني صـاحب علي –كرم الله وجهه- قال: مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث. فدخلت على علّي –كرم الله وجهه- فأخبرته فقال: أوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أَمَا إنِّي سمعت رسول الله  – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول: “ألا إنَّها ستكون فتنة، قلت: فما الـمُخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد، فآمنا به﴾. من قال به صدق، ومن عمل به أُجِرَ، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم”. انتهى هذا الحديث الجليل. وقد رواه السيد الإمام أبو طالب – كرم الله وجهه –  في أماليه بسند آخر من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه([3]). عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بنحوه. ورواه أبو السعادات ابن الأثير في جامع الأصول من طريق ثالثةٍ، من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –([4]). قال: ولم يزل العلماء يتداولونه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقَّى بالقبول عند علماء الأصول، فصار صحيح المعنى في مقتضى الإجماع والمنقول والمعقول.وقد أودع الله -تبارك وتعالى–  كتابه الشرعة والمنهاج فأنقذنا به من الضلالة، وفتح للعالمين به أبواب رحمته وسبل هدايته. فحمداً له سبحانه على هدايته، والشكر له على نعمائه وعنايته، أغنانا به – جل شأنه – عمّا سواه. وكـفانا به عـمّا عداه: ) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( (العنكبوت: 51).

 ثانيًا: ضرورة جمع أقوال أئمة آل البيت التي يمكن أن تصحّح أسانيدها، وكذلك أقوال كبار الصحابة الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- وطالت صحبتهم له وتعلّموا القرآن على يديه وعلّمهم الكتاب والحكمة وقام بتزكيتهم لنتعلم منها ونستفيد منها كيفيّة تدبّر القرآن وفهمه وتحكيمه في حياتنا لنتمكن من تقليص مصادر الاختلاف وجذور التفرّق والتمزّق وإعادة الألفة بين القلوب بالاعتصام بكتاب الله التي لا أمل بتأليف القلوب إلا به ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران:103).

ثالثا: لا بدّ من جمع كتابًا في السنن الصحيحة الثابتة لدى طوائف المسلمين المعاصرة، فقد نجد حديثًا رواه البخاري أو مسلم أو كلاهما فكان صحيحا مقبولا لدى السنّة ثم نجد الحديث نفسه لدى الكُليني أو غيره من محدثي الشيعة وجاء من طريق رجالهم فقبلوه وفي هذه الحالة يمكن اعتباره واحدًا من الأحاديث التي يمكن أن تجتمع عليه الكلمة، ولقد قام أحد العلماء بجمع الأحاديث المتفق عليها بين السنّة والشيعة والمصححة لدى الفريقين فبلغت أربع مجلدات ويبدو أنّ القدر كان أسرع فاحترقت مكتبة الرجل قبل أن يطبع الكتاب ثم توقفت المحاولات. وفي ظنّي أن وجود الكمبيوتر الآن والوسائل الحديثة عوامل مساعدة يمكن أن تساعدنا جدًّا في عمليّة توثيق وتضعيف الرواة وتحديد المتون الصحيحة المتفق عليها بين طوائف المسلمين المعاصرة من شيعة إماميّة وزيديّة وآخرين من الإباضيين والسنيين وغيرهم، فإذا طبعت هذه الأحاديث وجرى تداولها على نطاق واسع  فسترى كل الطوائف مَا لم تكن تظن أنّها ستراه أو تجده من اتساع حجم المتفق عليه بين كل هذه الطوائف والحجم الضيق للمختلف عليه فيما بينها وهذا وحده كافٍ في إحداث كثير من التأثيرات الإيجابيّة في نظرة الناس بعضهم لبعض وانشراح صدورهم للتعامل المشترك والخروج من دوائر التكفير والتفسيق وما إليها.

رابعًا: كذلك لا بدّ من مراجعة كتب أصول الفقه والفقه وسائر المعارف التراثيّة التي شكّلت مصادر للفكر الدينيّ لدى الطوائف كلّها وميز فعل المتفق عليها من المختلف فيه وطباعة المتفق عليه والترويج له، وترك الموسوعات التي تشتمل على المختلف عليه للبحوث الأكاديمية العلميّة وللباحثين يرجعون إليها عند الحاجة.  

خامسًا: لا بدّ من جمع الكتب التي أعدت في الفتن الطائفيّة وفي فترات تاريخيّة معينة للانتصار لطائفة على أخرى لأيّة دوافع وإعادة قرائتها مع مراعاة الظروف الزمانيّة والمكانيّة التي كتبت وأعدت فيها وكتابة ملخصات عنها وظروف كتابتها وأسباب كتابتها وأنّها لا تمثّل فكرة الطائفة التي ينتمي المؤلف إليها ولا مواقفها من الطوائف الأخرى، والحيلولة دون تأثر الأجيال الحالية واللاحقة بهذه الكتب والدراسات التي حشيت بكثير من أفكار التفريق والطائفيّة والتحريض والكراهية.

سادسًا: لا بدّ من تطهير مَا يقال في المناسبات مثل العاشوراء والأربعين من كل مَا يحمل التعصب وينمي كراهية الشيعي للطوائف الأخرى، وتخليص تراث عاشوراء الحسين –رضي الله عنه- من كل ذلك الإرث الصفوي المرفوض عقلا وشرعا من لطم وضرب بالسلاسل وتمثليات وقصص وغير ذلك من التراث الصفوي المتطرف المغالي الذي شهر من يعرفون بالقصاصين الزور، وجعل هذه المواسم مواسم توعية بحقائق الدين كما فهمها الإمام علي وبنوه –عليهم السلام- وأصحاب رسول الله، والإمساك عن اتهام الطوائف الأخرى بما هي بريئة منه، مثل الادعاء الكاذب بأنّ غير الطوائف الشيعية تناصب آل البيت العداء، فذلك كله افتراء عليها في ذلك لا ينبغي ترديده ولا التراجم به، ويجب استبدال تلك الادعاءات السخيفة بعرض سير آل البيت وشرح مناقبها وصفاتها، وتقديمهم –كما كانوا فعلا- للأجيال، نماذج حيّة تقتبس الدروس والعبر من سيرها وآثارها، فنحن في زمن لم يعد الشيعة فيه مضطهدين أو معزولين عن الحياة العامة بحيث ننمي في عقل الشيعيّ ونفسيّته عقد الاضطهاد ونربي فيه ثقافة النقمة والتمرد والرفض لكل ما حوله، وكأننا نحاول بذلك أن ندفعه إلى الاغتراب عن نفسه وبيئته، وتعذيبه بمثل هذه المذاهب السلبيّة مدى الحياة، فتلك أمور لا تعود عليه ولا على الطائفة بأي فائدة، بل الأضرار الكثيرة، فالشيعة لديهم الآن أكبر وأهم دولة  إقليمية، ولهم مراجعهم ومؤسساتهم المنتشرة في جميع العالم، وثقافة الاضطهاد لم تعد ملائمة للنفسية الشيعية المعاصرة، إن مواسم عاشوراء وأمثالها ينبغي أن تكون وسائل تربوية تثقيفية، مواسم لبناء النفسية المعتدلة المستقيمة المتأسية بآل البيت في حبهم للآخرين وحبهم لهم، بل وتحملهم أذاهم في كثير من الأحيان، فآل البيت كانوا هداة ودعاة ومصابيح دجى ونجوم إنارة وهداية، فمن الظلم لهم أن نضيع تلك الأيام والموسم –التي تحمل أسماءهم- بلطم الخدود وشق الجيوب واستعمال التطبير، وتهييج الشيعة ضد إخوانهم والحكم على النوايا وتكفير الآخرين والتحريض عليهم وما إلى ذلك من سلوكيّات أوّل من يرفضها هم آل البيت.

لا بد من مراجعة البرامج الدراسيّة لمختلف الأعمار، ووضع تعريفات مناسبة ملائمة لجميع الطوائف التي تعيش في العالم الإسلامي، وبيان اتساع كيان الأمة الكبير لكل هذه الطوائف، وقدرته على وضعها تحت جناحيه دون عزل أو إقصاء أو الإحاطة بعوامل التحقير، والحيلولة دون استغلال العناصر السياسية الانتهازية للتحريض الطائفي واستخدامه وسيلة للحصول على أصوات الناخبين وإشعال روح الخوف والحذر لتحقيق تلك المكاسب الزائلة، وليتقوا الله ويتركوا الأخذ بهذه الوسائل.  وعلى الطوائف الأخرى عدم مناصبة آل البيت العداء والافتراء عليها في ذلك لمجرد تعميق الهوة وتوسيع الفجوة بين المذاهب الإسلاميّة والطوائف، لابدّ من مراجعة البرامج الدراسيّة لمختلف الأعمار ووضع تعريفات مناسبة ملائمة لجميع الطوائف التي تعيش في العالم الإسلاميّ وبيان اتساع كيان الأمّة الكبير لكل هذه الطوائف وقدرته على وضعها تحت جناحيه دون عزل أو إقصاء أو الإحاطة بعوامل التحقير، والحيلولة دون استغلال العناصر السياسيّة الانتهازيّة للتحريض الطائفيّ واستخدامه وسيلة للحصول على أصوات الناخبين وإشعال روح الخوف والحذر لتحقيق تلك المكاسب الزائلة وليتقوا الله ويتركوا الأخذ بهذه الوسائل.

سابعًا: كنت أتمنى على كبار المراجع الكرام والعلماء في داخل البحرين وخارجها وخاصّة في العراق المنكوب، أن يتذكّر الجميع الأدب الَّذِي علّمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- عند وقوع الفتن، هذا الأدب الَّذِي يجعل من الكلمة مسؤليّة عظمى لها فقهها، “ربّ كلمة يقولها الرجل لا يلق لها بالا تلقي به سبعين خريفًا في جهنم”. لا شك أنّ هناك حقوقًا مهدرة في معظم أنحاء العالم الإسلاميّ للأكثريّة والأقليّة، ولا شك أن هناك حقوقًا مهدرة في معظم أنحاء العالم الإسلامي للأكثرية والأقلية، ولا شك أنّ هناك مظالم، ولا شك أنّ هناك اعتداءات على حقوق الإنسان وتجاوزات كثيرة في مختلف أنحاء عالمنا، كنّا نتمنى أن تنـزّه بلداننا عنها ولكنها موجودة وقائمة، فهل نجعلها وسائل لتدمير مَا بقي وتحطيم مَا خلّفته المظالم والانحرافات والفتن والحروب أم أنّ علينا أن نفقه الكلمة ومسؤليّتها وتوحد كلمتنا في هذه الظروف فلا نزيد في ثقافة الكراهية ولا نستحيي عوامل التصارع والتنازع؛ بل نترفّع عن كل شيء يؤجج ذلك، ونواجه المظالم والانحرافات بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجمع كلمة الأمة على الإسلام، والتخلص من المظالم والانحرافات، والأخذ على أيدي المفسدين، فسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ومن قام إلى إمام جائر فأمر … وكما يقال: إنّ بيوت الكثيرين من زجاج وقد تدفع أحيانًا بعض التصرفات إلى حيرة، فقد استغربت جدًا أن أسمع بعض من دخلوا العراق على دبابات أجنبية، أو أسقطتهم على رؤوسهم –أكرادهم وعربيهم- طائرات أجنبية استعانوا بها، وأصدروا الفتاوى التي سوّغوا بمقتضاها الاستعانة على أهلهم وبلادهم بالقوة الأعظم في العالم، أباحوا ذلك واستقبلوا جاردنر ثم بريمر ثم …. ، فإذا جاء دور جيرانهم فطلبوا معونة إخوان لهم رفعوا في وجوههم كل أسلحة التكفير والتبديع والتفسيق، ولم يرقبوا فيهم إلًا ولا ذمة، فما هي الأدلة الشرعية التي استندوا بها على جواز تمزيق العراق وإنهاء وحدته والقضاء على كيانه وتدمير العلاقة بين أبنائه وتحويلها إلى علاقات حرب؟! وما هي الأدلة التي يمكن أن يسوقوها لبيان عدم جواز استعانة البحرين أو قطر أو عمان أو غيرها بقوات درع الجزيزة التي أًعدت منذ بداية التأسيس لهذه الأغراض، أنا لا أؤيد أي فتنة أو حرب بين مسلمين لا سنة ولا شيعة، ولا أؤيد استعلاء طائفة على طائفة، ولا إثارة الفتن بأي وجه من الوجوه، فهذا كله مرفوض شرعا، ومن يدعوا إليه أو يؤيده فمصيره النار والعياذ بالله، والله إنّي لا استحملها، ولكنّي أردت أن أهمس في أذن إخواني في الحوزات والأكاديميات بالذي يحيك في صدري ويحيك في صدور الملايين.

وأستغرب الموقف الإيراني الرسمي من هذه القضية بمثل ما استغربت به موقفها من قضايا العراق وأحداث العراق، وقبولها التفاوض مع الأمريكان على قضايا عراقية صميمة في غياب العراقيين، لا أدري هل تعلم القيادة الإيرانية الحالية أو لا تعلم أنّ إثارة المشاكل في الخليج والسعودية، وإثارة الشيعة بالذات، في هذه المناطق تستهدف تجميع الشيعة العرب في كيان موحد يوجد دولة شيعية عربية تضم شيعة الجزيرة والبحرين والخليج والفرات الأوسط من العراق أو الأقليم الجنوبي من العراق؛ ليجعل هذه الدولة الشيعية هي الدولة التي تتصدى لإيران وتعمل على تحجيم نفوذها واستنزاف طاقاتها، فكأنَّ المخطط يستهدف إيجاد شيعة عرب يقاتلون شيعة فرس، فهل سيكون ذلك في خدمة حاضر إيران ومستقبلها؟! ولذلك فقد كنت أحسن الظن بالوعي السياسي لدى قادة طهران، لكنني بعد ما رأيته من تمسكهم الشديد بالجزر الإماراتية وعلاقتهم مع العرب، ثم تأييد الأخوة الشيعة في البحرين –كما فعلت في العراق- دون أن تلتفت إلى أن هذه التحركات لم تكن في مصلحة إيران ولا في مصلحة الشيعة؛ بل هي في مصلحة إسرائيل ومن ورائها؛ لأنّه لو حدث هذا –لا سمح الله- وأسست دولة شيعية عربيّة من المناطق التي ذكرناها، وأوكلت إليها مسؤولية استزاف إيران والقضاء على قواها، فإنّ ذلك لا يكون في مصلحة أحد إلا إسرائيل، وإيران آنذاك سوف تكون في شغل شاغل عن دعم المقاومة في أي مكان، أو تصدير الثورة أو ما إلى ذلك … (فليت قومي يعلمون).

  فلا يصعب على من استعانوا على أهلهم بثلاثين دولة غير مسلمة للتخلص من استبداد مستبد وطاغية طاغي وفرّطوا في استقرار البلاد وحريّات البلاد وجميع مقوماتها، أن يرفعوا عقائرهم في مثل هذه المناسبات فيما يزيد من غضب الناس واختلافاتهم ومشكلاتهم وصراعاتهم وتقاتلهم، وينبغي لهم أن يتذكروا أنهم من فتح الأبواب لتدخل الأجنبي لبلاد المسلمين بعد الخطيئة الكبرى التي وفيها صدام فتلك أمور كنّا نتمنّى أن ننـزّه المراجع والعلماء في تلك البلاد الذين قبلوا احتلال الأجنبي أن ينـزّهوا أقلامهم وأنفسهم وفتاويهم، وأن يتوقفوا عن إصدار تلك الكلمات النيرانية –التي لا تدل على فقه عميق للكلمة ومسؤوليتها زمن الفتنة – عن إلقاء المزيد من نيران الكراهية بحجج مختلفة؛ لأنّ الواقع مشاهد وسنة (2003) قريبة جدًّا من سنة (2011). ولم ينسَ الناس مَا حدث فيها ولم ينسَ الناس الفتاوى التي صدرت من البعض في الاستيلاء على مساجد هذه الطائفة أو تلك وقتل أئمتها وخطبائها، فنحن لا نريد من أيّ أحد من أهل العلم أن يقع في خيانة العلم ومشاقة الله (تعالى) ومشاقة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلّم- والعمل على إزكاء روح الصراع بين المسلمين بدوافع عاطفية طائفية، فتعالوا إلى كلمة سواء يرحمكم الله.

نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعًا للالتزام بكتابه والاهتداء بسنّة نبيه والاستنارة بما كان عليه أهل بيته وصحابته الكرام وأن نعمل على إطفاء نيران الفتن والتصدي لمثيرها وتقديم مصلحة الأمّة على مصلحة الطائفة والمذهب.

والله تعالى الموف

[1] كتب هذا المقال على خلفية الاحتجاجات التي بدأت في البحرين في مارس 2011 عقب الثورات في تونس ومصر وليبيا.

([2]) أخرجه الترمذي في جامعه: ( 5 / 172) وفي الطبعات التي رقمت فيها الأحاديث  رقمه (2908)  في باب “فضل القرآن” وقد استدل به صاحب “إيثار الحق …” في كتابه “ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان” ص 15 ط. دار الكتب العلمَّية بدون تاريخ.

([3]) مارواه  معاذ عن عليّ جاء في (مجمع  الزوائد: 7 / 164).

([4]) والمروي بطريق عمر تجده في “جامع الأصول: الحديث رقم (6232)، لكنه ورد فيه عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وقال المحقق السيد عبد القادر الأرناؤط معلقاً “كذا في الأصل – أي: عن عبد الله بن عمر، وفي المطبوع: عمر بن الخطاب” ولم يرجح. وفيه اختلاف يسير عن رواية الإمام أبي طالب والترمذي، حيث جاء في هذه الرواية قول ابن عمر: “… نزل جبريل – عليه السلام – على عهد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فأخبره: أنها ستكون فتن، قال (أي: رسول الله لجبريل): “فما المخرج منها يا جبريل؟” قال: كتاب الله… إلخ وقد أخرجه رزين وذكره ابن كثير في فضائل القرآن بمعناه عقب حديث الحارث من حديث عبد الله بن مسعود، وقال (أي: ابن كثير) : رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه “فضائل القرآن” وقال: هذا غريب من هذا الوجه.

وفي سنن الدارمي أورد الحديث في (2/523) برقم (3315) عن عبد الله وبدأه بقوله: “إنَّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم …” وختمه بقوله: فاتلوه فإنَّ الله يأجركم على تلاوته …”. وأما باللفظ الذي معنا فقد أورده الدارميّ في الحديث رقم (3331) و(3332). وقد علق المحققان عليه بقولهما: “رواه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب (14) ما جاء في فضل القرآن، حديث رقم (2906) 5/172-173. وأحمد في المسند (1/91). وأبو داود الطاليسي وأبو بكر الأنباري في كتاب “الرد” له عن الحارث عن علي. كما في التذكرة للقرطبي ص (48) بتحقيقي. قال ابن كثير في فضائل القرآن (ص 11-12): “لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن الحارث الأعور، فبرئ حمزة في عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث، فإنه إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده (أي: لا من جهة روايته وصدقه)، أما إنه تعمد الكذب في الحديث فلا والله أعلم. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه-، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روى له شاهد عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-” أ.هـ. والآية رقم 2 من سورة الجن.

قلت: وفي بعض الشروح حددت “فتنة الحديث أو الأحاديث” بأنها الافتتان برواية “الأحاديث” أو “السنن” عن تلاوة القرآن المجيد ودوام الرجوع إليه، وبعضهم حملها على الأحاديث والأخبار مطلقاً، ففي كل ذلك انشغال عن القرآن وقد يستفيد القائلون بذلك بأحاديث النهي عن كتابة السنن والتأكيد على عدم الانشغال بغير القرآن. (قال طه( -: ولكن الفرق كبير بين انشغال بأحاديث نبوية مرفوعة صحيحة تأتي على سبيل البيان بأنواعه للقرآن المجيد، وبين مطلق الحديث. وفرق كبير بين انشغال لطلب بيان والانشغال بها على سبيل الاستعاضة عن القرآن، والاكتفاء بها بحجَّة اشتمالها أو تضمنها للقرآن أو بأية حجة أخرى.

لقد استقرت المذاهب الفقهية في العهد الرابع من عهود الفقه وركدت حالة الاجتهاد المطلق، وعكف المقلدون على مذاهب الأئمة، والكتابة في مناقبهم، والعمل على ضم الناس إليهم كل إلى مذهبه وإمامه. وجعل بعضهم أقوال أولئك الأئمة مثل نصوص الشارع يدخلها التعارض والترجيح والنسخ وما إليها، ففي عصر الصحابة خاصة – عصر الشيخين – لم يشغلهم شيء عن كتاب الله، ولما انتهت سنة أربعين للهجرة برزت اتجاهات فقهية وبدأ الناس ينشغلون بها.

وحين كان عبد العزيز والد عمر والياً سنة (83 هـ) فكر في جمع السنن، وهو مشروع استكمله ولده عمر بن عبد العزيز، لتكون السنن فقهاً بديلاً عن الفقه الخلافي يرجع الناس إليها لئلا تتفرق بهم السبل الفقهية، ولكن الكثيرين انشغلوا بالسنن عن القرآن المجيد بحجة اشتمالها عليه وارتباطها به، وجعلوا من السنن شواهد لأقوال أئمة الفقه، ثم انشغلوا بفقه الأئمة عن السنن، وصاروا يتداولون أقوال الأئمة ويفرعون عليها حتى بدا وكأن الشريعة هي أقوال هؤلاء الأئمة، بحيث سوغ الكرحنيُّ الحنفي لنفسه أن يقول: “كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي إما مؤولة أو منسوخة”.

“أصل: واعلم أن كل حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو إما مؤول أو منسوخ” !! ومهما يقال في تأويل ذلك أو التخفيف منه فإنه قول جرئ يدل على أن التعصُّب للمذاهب قد بلغ مستوى مَرَضِيّاً بحيث صار الأصل تابعاً للفرع، بل محكوماً به. ولذلك فإن إعادة بناء الأمَّة  واستئناف شهودها الحضاريّ وشهادتها على الناس لا يمكن أن تعود إليها ما لم تتجاوز هذه الإصابات الخطيرة، وترد الناس إلى القرآن المجيد مصدراً منشئاً وكاشفاً عن الأحكام وغيرها مما تناوله أو تعلق به فقد أنزله الرحمن الرحيم ) تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( (النحل: 88). وما اختلف فيه أو عليه لابد فيه من الرجوع إلى السنّة النبويّة التي صدرت عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- ) لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ( (النحل: 64).

وعلى هذا فالمعنى الوارد في هذا الحديث أو الأثر معنى صحيح يشهد له صريح الكتاب وصحيح السنَّة. والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *