Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

خواطر حول إعادة بناء الأمَّة ح 2

الحلقة الثانية

أ.د. طه جابر العلواني

     منذ أن تفككت الروابط وتم تأسيس حكومات وطنيَّة إقليميَّة تحت انتداب بريطاني أو فرنسي؛ والأمَّة تعاني أشد المعاناة من تلك الأبعاد الإقليميَّة التي أضرت بها إضرارًا شديدًا، وقد جرت محاولات لتوحيد بعض الأقطار أو الأقاليم، فأخفقت كلها، ومن ذلك إخفاق عمليَّة توحيد مصر والسودان، وسقوط مشروع الهلال الخصيب تحت آثار الاحتلال البريطاني الفرنسي، وانفرط عقد الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن قبل أن يفعّل، وانفرطت وحدة مصر وسوريا في فترة من الزمن قياسيَّة وكأنَّها لم تعقد إلا لتنفرط، ولدفع العرب والمسلمين إلى مزيد من اليأس من إمكان تحقيق أي وحدة بينهم.

وأخفقت الجامعة العربيَّة في إيجاد أي مستوى عالي من التنسيق بين الدول الأعضاء، كما أخفقت الجهود التي أسست لمجلس التعاون في توحيد الحكومات الخليجيَّة أو تهيئتها إلى مزيد من التعاون والتنسيق، وأضيرت الهوية العربية والإسلامية في المنطقة، وأصابتها جراحات نفسيَّة وشروخ هائلة، وزاد ظهور البترول والمعادن في بعض البلدان من تعزيز الاتجاهات الإقليميَّة والفرقة والانقسام؛ بل لم يتحدث أحد عن أنّ أيّة ثروة في مستوى البترول تكتشف في أي دولة عربيَّة أو إقليم إسلامي إنَّما هي ثروة مشتركة ليس لأحد حق الانفراد بها والاستئثار بها عن الأمَّة كلها، فالخطاب القومي لم يطرح هذا الأمر بشكل مناسب، والخطاب الديني اكتفى بالتأكيد على المشاعر والعواطف، فلا غرابة أن يوجد الغناء الفاحش المبطر في بلدان معينة ويعم الجوع سائر البلدان الأخرى.

 لقد كان في مقدور الخطاب العربي الإسلامي في المنطقة أن يقول: بأنَّ هذا النوع من المعادن والثروات من بترول ومعادن هو ملكيَّة عامَّة للشعب العربي على الأقل أو للأمَّة الإسلاميَّة كلها، وكان يمكن أن يقال : بأنَّ الأقاليم التي تكتشف فيها هذه المعادن تعطي حصة أكبر يمكن الاتفاق والتفاهم عليها، أمّا أن تترك هكذا خاصَّة بالإقليم أيًا كان، فيوجد في الشعب الواحد متخمون ومعدمون، وفي الأمَّة الواحدة يوجد الشيء نفسه، فذلك يقع تحت طائلة المسئوليَّة أمام الله (تعالى) الذي قال: ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً…﴾ (النساء:5) ولو أنَّ العرب منذ أن اكتشف البترول في الخليج تصرفوا فيه من منطلق كونه ثروة أمَّة لكان في مقدورهم أن يدخلوا جميعًا العصر، ويدخلوا بلدانهم كلّها في حالة التحديث، وينموا مواردهم ويحسّنوا استثمارها، ولكان في مقدورهم أن يعززوا وجودهم بشكل فعّال في الأماكن التي تشكل عمقًا استراتيجيًا لهم في إفريقيا وآسيا وجنوب آسيا وغيرها، ولكن تفرد البلدان التي اكتشفت فيها هذه المعادن بالترف قد حرم الأمَّة من مواردها، وجعل بلدان عالية في الكثافة السكانيَّة مثل مصر والسودان وغيرهما تقترض أموالًا من البنك الدوليّ ومن الدول الغربيَّة بفوائد عالية، وهذه الأموال هي أموالها في الحقيقة أو هي شريكة  فيها يودعها العرب الموجودون بالمناطق المنتجة والمعادن في تلك البنوك، ولو كانت هناك حكمة وشعور بهويَّة مشتركة لما جعلوا مثل هذه البلدان تتحمل أعباء ديون هائلة تتضاعف فوائدها عامًا بعد آخر حتى تعجز عن السداد، في حين أنَّ لها في تلك الأموال نصيبًا فقدته أو دُفعت إلى أن تفقده ليستأثر به أعداء الأمَّة ويجنوا جميع فوائده ويستهلكوه بالألاعيب الاقتصاديَّة المعروفة التي يتقنون تدبيرها من تلاعب بالأسعار والفوائد وفوائض رؤوس الأموال وما إلى ذلك.

إنَّ إسرائيل في المقابل -استطاعت برفع مستوى الوعي لدى اليهود بكل طوائفهم المختلفة- أن توجد وعيًا بأنَّ كل ما يملكه اليهود في أي مكان، وكل ما تحت أيدي المنسوبين إلى اليهوديَّة أو الصهيونيَّة إنَّما هو مال مشترك أو شبه مشترك، استطاعت أن تقدم ذلك النموذج الذي ملأ أرض فلسطين بالمستوطنات وعزز النفوذ اليهودي والصهيونيّ في أمريكا وفي أوربا بشكل يستحق الدراسة والتأمل.

كما أنَّ شطري ألمانيا أعني ما كان يسمى بألمانيا الشرقيَّة وألمانيا الغربيَّة حين قرر الألمان إعادة بناء وحدتهم تقبل الألماني الغربي أن يقدم رفاهيته كلها قربانا لوحدة شعبه، فرضي انضمام الألمان الشرقيين إليه باقتصاد يساوي صفرًا أو ما هو دون الصفر، ورفع الألمان الغربيون الشرقيين إلى مستواهم مضحين بنصف ما يملكون أو أكثر لهذه الوحدة، في حين كنا نسمع من أبنائنا وإخواننا في سائر البلدان المنتجة للبترول والمعادن: إنَّه إذا كان بين يديك صينية من طعام فأيّها أفضل أن يتداعى لأكلها خمسة أشخاص فيأكلون حتى التخمة، أم أن تدعو عشرة أو خمسة عشر يشاركونك فيها؟ وفي هذه الحالة لا تستطيع أن تأكل إلى حد التخمة، كان الألماني الغربي والألماني الشرقي عندما هدموا جدار برلين واستعادوا وحدتهم أقرب إلى الروح التي أوجدت مجتمع المهاجرين والأنصار من تلك الروح الجشعة المتعالية لدى العرب والمسلمين الذي ظهرت المعادن في أراضيهم وذلك هي ميزتهم الكبرى.

إذًا هناك تخريب شديد قد حدث في النفسيَّة المسلمة، واليوم حين نحاسب أنفسنا بدقة على ما استخرج من باطن الأرض العربيَّة من معادن، ونسائلها: أكان نعمة أم نقمة؟ ربما نجد جانب النقمة فيه أبرز من جانب النعمة، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا لا نحتاج إلى الإسهاب أو إلى الإطناب فيها، وكل ذلك نجم عن عقليَّات لم تعرف المعنى الذي وضعه الله (تعالى) وراء هذه النعم، ولم تكن قادرة على معرفة مبدأ الاستخلاف ومبدأ الانتماء إلى أمَّة، ولا مبدأ حاجة الأقاليم إلى أمَّة تستطيع أن تحافظ عليها باعتبارها ديار لأمَّة ذات رسالة خالدة وأهداف ومقاصد وغايات وأدوار عليها أن تقوم بها وتحققها في هذه الحياة، وعليها أن تحسن استثمار هذه الموارد لصالح مجموع الأمَّة، وتبني وحدتها وتعزز قدراتها، وتجدد طاقاتها لتكون قادرة على أداء ما أناطه الله بها من أعباء، ولكن حين تكرست الإقليميَّة مُزقت الهُوية، فالتاريخ تم تقطيعه بشكل مشوه لتوزع قطعة على تلك الأقاليم التي افتعل وجودها، كما تم تقطيعها بين جاهلين ينتميان إلى أمم محتلة هم “سايكس بيكو” وزيرا خارجيتيّ بريطانيا وفرنسا.

 وحين تكرست الإقليميَّة برز عجزها وضعفها عن تحمل الطاقات والقوى التي كان الكيان الاجتماعي الإسلامي الكبير يتحملّها بكل سهولة ويسر، وتضخمت الطائفيَّة في أقاليم كثيرة، وأصبحت وسيلة لتمزقات وتشرذمات جديدة، وبرز طموح العرقيَّات والإثنيَّات التي كانت سعيدة بانتمائها إلى ذلك الكيان الاجتماعي المشترك العام، ولكن حين ضيّقت الإقليميَّة الواسع وحجّرت على المتسع فإنّها لم تعد قادرة على تحمل تلك العرقيَّات واستيعاب ذلك التنوع والتعدد في إطار الأقاليم الصغيرة الضيقة، فبدأت فيها حالات تأزم داخلي اتخذ أشكالًا عديدة، منها ما اتخذ شكل صراع مسلح، كما كان بين الأكراد والحكومة العراقيَّة، وكان هناك صراعات غير مسلحة ولكنّها كافية لإيجاد أزمات كثيرة حال يمكن أن تعيق التنمية، وتفشل محالات التحديث، وتستهلك الموارد الماليَّة والبشريَّة في تلك الصراعات الداخليَّة، وتحدث فوضى عندما تريد إحداثها، وكان الأعداء الخارجيّون يستغلون هذه الظروف كلها لتنفيذ ما يريدون، والحصول على ما يرغبون، ولجعل ما يتحصل من أموال المعادن المكتشفة في ديار العرب والمسلمين ترد إلى الخزائن الغربيَّة أثمانًا لسلاح قلّ أن يستخدم في تحقيق أهداف عربيَّة أو إسلاميَّة؛ بل يستهلك دائمًا في الصراعات الداخليَّة وبعض الحروب الصغيرة الحدوديَّة والإقليميَّة، وبذلك ترسّخ العداوات وتدق أسافين الفرقة بين العرب والمسلمين، وتأخذ مدياتها الواسعة، وقلّ أن يلتفت إلى ذلك أحد من صنَّاع القرارات أو نخب الأمَّة التي استغرقتها تلك الخلافات، وأخذت تبدد طاقاتها بخدمة صناع القرار وتملقهم للحصول على فتات مما تحفل موائدهم العامرة، واستبدل الفقيه بمثقفين ومتعلمين من سائر التخصصات ليكونوا أعوانًا انتهازيين لصناع القرار.

 فإذا التفتنا إلى العلم والتعلم فإنَّنا نجد أنّ العمليَّة التعليميَّة في بلداننا صارت وسيلة إضافية من وسائل تمزيق صفوفنا وتدمير وتخريب علاقتنا: فهناك تعليم ديني يخرج لنا شخصيَّات يمكن أن يقال: إنَّها لا تعيش عصرها ولا تعرف من أحوال أهل زمانها إلا مظاهر يسيرة، خطابها ماضوي غائب عن الواقع المشاهد الذي يحياه الناس. وتجد هناك تعليما آخر هو التعليم المدني القائم على تعليم العلوم الاجتماعيَّة الغربيَّة المعاصرة من علوم سلوكيَّة وإنسانيَّة وما إليها، وهي علوم قد مرت في الغرب بتطورات كثيرة لتلبي احتياجاته وقد هيمن عليها ما أسميه بالإسرائيليَّات المعاصرة، كما هيمنت الإسرائيليَّات التاريخيَّة الماضية على كثير من علومنا التراثيَّة؛ خاصَّة التفسير والحديث ثم أصول الفقه والفقه في اللغة، وهذه العلوم تدرس في كليّات الآداب والعلوم الإنسانيَّة والكليات الاجتماعيَّة وتصنع في الكثير الغالب شخصيات تعاني من الاغتراب عن الذات، والانفصال عن المجتمع.

وهناك فريق ثالث تعلم العلوم الطبيعيَّة وفلسفتها ومناهجها فشعر بالتفوق، ثم أحبط لأنَّه لم يجد في بيئته المختبرات الكفوءة، ولا مراكز البحث النشطة، فتراه يشعر بحالة اغتراب لا يزايله أو يفارقه حتى يحمله على الاعتزال وتجاهل ما تعلم والاستسلام لتيارات مجتمعاته المتخلفة والحياة فيها بشكل سلبي إلى أن يجد له متنفسًا في جامعة غربيَّة أمريكيَّة أو أوروبيَّة فيسارع إلى اغتنام الفرصة والهجرة إلى تلك الديار للعيش الدائم فيها، وهناك التعليم العسكري الذي أسس في بلداننا لإيجاد مؤسسة يسودها الانضباط تستطيع أن تحمي النظم وتدافع عنها عند الحاجة، وقد تقدم بدائل عن صناع القرار والقادة السياسيين عندما تشتد الحاجة إلى إيجاد بديل. فتنوع التعليم في بلداننا والفوارق الهائلة بين أهداف وغايات كل نوع من أنواعه وتأثيره على العقليَّة والنفسيَّة تجعل من المستحيل إيجاد ملأ أو نخبة قادرة على قيادة سفينة الأمَّة والنجاة بها من تلك المخاطر والتحديات الكثيرة التي تواجهها.

أمَّا بالنسبة للقيادات السياسيَّة فإنَّ الأمّة –في باديء الأمر- قد استبد بقيادتها القريشيون، وبعد الانقلاب القبائلي استبد بالحكم بنو أمية ابن عبد شمس أعني عائلة وأسرة وقبيلة هي الأمويون، وخلفتهم عائلة أخرى هي العباسيون، سرعان ما دخلوا في صراع لا مع الأمويين الذي استولوا على ملكهم وقضوا على دولتهم بل سارعوا إلى أسرة أخرى هي العلويون أو الطالبيون أبناء عمومتهم الذين يشكلون تهديدًا لسلطانهم، فكأنَّ أمَّتنا بقيت تحت صراعات أسر تتنافس على قيادتها على امتداد تاريخها، وفي ظل تلك الصراعات كانت الفتوحات فرصة لتنفيس الاحتقانات من ناحية ولنقل الصراع من الداخل إلى الخارج  وكانت القوى التي تفرزها مجتمعاتنا يتم اقتسامها وتوزيعها بين قيادات تلك الأسر لتقاتل معها للوصول إلى السلطة، وتاريخنا قد اتسم بهذه السمة في صراع العثمانيين والصفويين، فإذا نظرنا في عصرنا الحالي نجد أنَّنا ما زلنا نعيش ظاهرة صراع الأسر، فهناك صراعات أسر مثل أسرة محمد علي، الذي صارع السلطنة في اسطنبول ليستقل ويستبد بقيادة مصر، وآل سعود الذين استقلوا في نجد والحجاز، والأسرة الهاشميَّة التي ملّكت في باديء الأمر سورية ثم العراق، والآن لم يعد لها إلا الأردن، ويغلب أن تربط هذه الأسر بما هو معروف من النسب النبوي. فحتى أولئك الذين لا يمتون بصلة إلى السلالة النبويَّة كانوا يحرصون على أن يكون لهم في النسب الشريف نصيب، حاول ذلك الملك فؤاد، لإعلان خلافة موازية لخلافة اسطنبول، ولعل آخر من حاول ذلك صدام حسين الذي شجع بعض الكاتبين على أن يربطوا بينه وبين السلالة في حبل من نسب.

وأمَّا العمل الإسلامي فإنَّ الخطاب الإسلامي الذي صيغ بعد دخول نابليون مصر فإنَّه قد ركز على التجديد والاجتهاد، ذلك لأنَّ علماء الأزهر –آنذاك- قد تأثروا بالحملة الفرنسيَّة وعلمائها، وخاصَّة شيخ الأزهر العطار المتوفي سنة (1250هـ)، واستمر خطاب الاجتهاد والتجديد مسيطرًا على العقل المسلم إلى أن تسلم الراية الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا، ثم بعد إعلان إلغاء الخلافة في اسطنبول أضيف إلى الاجتهاد والتجديد موضوع الحكم الذي لم يكن غائبًا، فقد استحضره عبد العزيز آل سعود في صراعه مع الهاشميين ولّقب نفسه بالإمام، وشجع رشيد رضا وغيره سلطان نجد على ذلك التوجه، وشاركهما في ذلك كثير، لكن مصر قد أثار فيها الشيخ علي عبد الرازق إشكاليَّة كبيرة عندما كتب “الإسلام وأصول الحكم” ونفى فيه أن يكون الإسلام قد اشتمل على نظام سياسي، وظل كتابه محور الجدل الذي دار لسنوات ما بين مؤيد له وشاجب لما جاء به، وفي تلك الأثناء أصدر الفقيه السنهوري رسالته للدكتوراه، التي قدمها في جامعة السوربون في فرنسا يقترح فيها بديلًا عن الخلافة، حاول زوج ابنته توفيق الشاوى –رحم الله الجميع- أن يلخصه في كتاب فقه الشورى والاستشارة وكان يرى أنَّ السنهوري كان يقترح فكرة شبيهة بفكرة منظمة المؤتمر الإسلامي لتكون بديلًا عن الخلافة، ولكن الخلافة لم تعدو “منظمة المؤتمر الإسلامي” لم يكن لها ما يمكن أن يمدها بالفاعلية اللازمة فبقيت شكلا قد يذكر الناس بوجوده بإرسال رسائل سحب أو تأييد لهذا الموقف أو ذاك.

         

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *