Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

خواطر حول إعادة بناء الأمَّة ح1

الحلقة الأولى

أ.د/ طه جابر العلواني

الهدف: إعادة بناء الأمَّة المسلمة بعد ما أصابها من تفكك وفرقة وانحرافات واختلافات.

أولًا: منهج إعادة البناء هو ذات المنهج الذي حدث فيه البناء للمرة الأولى وهو منهج يتلخص في بناء الفرد عقليًّا ونفسيًّا وتحقيق الانسجام بين العقليَّة والنفسيَّة لبناء الشخصيَّة الواحدة السليمة، التي بها يتحقق العمران، وتقوم التزكية، وبها تتحقق غاية الحق من الخلق.  

وهذه الأمَّة المسلمة بدأ بنائها خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- وهو الذي اختار اسمها وأرسى دعائم ملّتها وتتابع الأنبياء من بعده كل منهم يضع لبنة أو أكثر بحسب ظروفه وقومه، ومن ألطف الآثار التي صورت هذا الأمر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[1].

ثانيًا: وكل الأنبياء والرسل الذين تتابعوا على بناء هذه الأمَّة كانوا موحدين في العقيدة التي  يدعون إليها، والرؤية الكلية التي يتبنونها، والدعائم التشريعيَّة التي ينطلقون منها، وإذا كانت هناك اختلافات فإنَّها في تفاصيل بعض الشرائع؛ لأنَّ الشرائع يلاحظ فيها أحوال المكلفين وظروفهم وزمانهم ومكانهم، وما يصلح لهم وما لا يصلح. وهذا يجعل من الإنسان محور الدين وهدفه وغاياته، فلا يستلب الإنسان لشيء ما جاء إلا لفائدته ولتكوينه كما حدث بالنسبة للاهوت والاتجاهات الدينية المختلفة التي استلبت الإنسان.

ثالثًا: إنَّ انحرافات البشر لا تأتي من الدين أبدًا، بل تأتي من الانحراف في فقه التدين، وذلك أنَّ فقه التدين يحدث فيه الانحراف بناء على اختلاف مدارك البشر ومنطلقاتهم ورؤاهم الكليَّة وتصوراتهم ولغاتهم وسائر المؤثرات والمعطيات التي تؤثر في سلوكيَّاتهم؛ ولذلك فإنَّ الإنسان في حاجة ماسة ودائمة ومستمرة إلى ملاحظة فقهه للتدين وفهمه له وتجديده من حين لآخر وفقا لأصول الدين وكليَّاته وقيمه وأهدافه ونصوصه الإلهيَّة، فحركات التجديد وقواعد التجديد التي لا تنطلق من كلام الله (تعالى) لا تحقق أهدافها ولا تأتي بنتائج سليمة، وكثيرًا ما يستغرب البعض تراجع وفشل كثير من الحركات التجديديَّة والإصلاحيَّة بعد انطلاقها بفترات محدودة دون أن يدركوا الأسباب الحقيقيَّة لذلك وقد ينسبون الأسباب إلى ما لا يشكل في الحقيقة سببًا كافيًا لهذا الفشل.

رابعًا: إنَّ الأمَّة المسلمة بعد كمال تأسيسها على يدي خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أول انحراف أصيبت به هو الانحراف في فهم وإدارك دورها الحقيقي الذي حدده القرآن المجيد، والذي يمكن أن يؤشر إلى ذلك الغبش الذي كان في أذهان الكثيرين حول قيادة الأمَّة ووجهتها وحقيقة مهامها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ظهرت بشكل صارخ في حورارت السقيفة –إن صحت روايات المؤرخين وأصحاب السير لها- ثم في الاختلاف حول الإمام الذي حاول الشيعة حسمه بالتأكيد على أنَّ إمامة الأمَّة هي أمر وشأن إلهي لا يثبت إلا بالنص، وجعلوا من حديث الغدير –غديرهم- أصلًا أعلوه على كل أصل؛ ليستدلوا به على أنَّ الإمامة هي شأن ديني كالنبوة لا يمكن أن تثبت إلا بالنص!!

 ثم اختلفوا فيما بينهم فذهب الإماميَّة لتحديد اثني عشر إمامًا، بدأ من علي ثم بنيه وانتهاء من الإمام الثاني عشر وهو المهدي عندهم الذي غاب منذ العصر العباسي غيبته الكبرى واختفى في جبل رضوى في الشام، يعيش على العسل الجبلي والماء إلى أن يأذن الله له بالظهور حسب مذهبهم ليملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا، وحين رأوا أنَّ الأمر قد طال عليهم منذ قرون يحكمون بسلطان مخالفيهم فيضطهدونهم ويؤذونهم فابتكر بعضهم مبدأ “ولاية الفقيه”؛ ليكون الفقيه الوليّ نائبًا عن المهدي، في غيابه يقوم مقامه في إقامة الدولة الشيعيَّة وقيادتها، وعندما يظهر ويخرج من مخبئه ويعود من غيبته يسلم الولي الفقيه الإمامة والقيادة له؛ ولذلك فإنَّ كثيرًا من علماء الشيعة الكبار خالفوا الخميني وغيره من القائلين بولاية الفقيه، ونبذ التقية، والانخراط في الثورات وأعمال العنف وما إليها؛ لأنَّ ذلك هو الذي يمهد لظهور المهدي لديهم ولا يتعارض مع الإيمان به وضرورة انتظاره.

أمَّا على الجانب السني الذي كان يرى أنَّ الحكم شأن دنيوي يعود إلى اختيار الناس وبيعتهم على أن ينضبط بضوابط الشرع وقيمه، فقد كانت الخلافة الراشدة التي استمرت في خلافة أبي بكر وعمر وست سنوات من خلافة عثمان نموذجًا جيدًا، لكنَّها سرعان ما عجزت على استيعاب القوى الجديدة التي دخلت الإسلام وانضمت إلى الأمَّة المسلمة وقوى وأجيالًا جديدة أفرزها المجتمع وبدا عجزها عن الاستيعاب في ذلك الصراع الذي أدى إلى قتل سيدنا عثمان بشكل بشع، ثم اغتيال سيدنا عليّ –كرم الله وجهه، وفتح مسلسل العنف والانقلابات والثورات، وقد قاد داهية الأمويين معاوية بن أبي سفيان –رضي الله تعالى عنه- انقلابًا قبائليَّا موظفًا جميع الظروف التي ترتبت على اغتيال الخليفة الثالث عثمان وقتله، والتعاطف الذي بدا ظاهرًا بعد ذلك من الناس بعد إحساسهم بالظلم الفظيع لذلك الخليفة الصالح، فكان ذلك الانقلاب انقلابًا حقيقيًّا في الرؤية والسلطة والمفاهيم، أدى إلى إيجاد تحول من “مفهوم الخلافة” إلى مفهوم  “السلطة”، فالخلافة كانت مفهومًا يفرض على خليفة المسلمين أن يترسم منهاج النبوة في قيادة الناس وطريقة حكمهم والفصل في خصوماتهم، واعتبار “الدعوة والأمَّة” هدفين أساسين لا يصح التحول عنهما إلى اتخاذ “الدولة والسلطة والفتح أهدافًا”، فالخلافة على منهاج النبوة شيء والسلطة والحكومة والدولة والفتح شيء آخر.

 ولقد رأى قادة الانقلاب الأموي إشغال الأمَّة بالحروب الخارجيَّة عن الدعوة التي هي لباب وجوهر رسالة الأنبياء من إبرهيم إلى محمد (عليهما الصلاة والسلام)، وأخذوا يدمجون الدعوة بالفتح بمكر ودهاء، ويصورون أنّ الفتح سبيل من سبل الدعوة.  كما أخذوا يكرسون الجانب القضائي ويكادون يحسرون التطبيق والتفعيل لكل قيم الإسلام فيه، وجرى تجاهل الجانب السياسي ليكون الخليفة أو أمير المؤمنين الأموي ثم العباسي ثم العثماني حرًا في قيادة الدولة قيادة هرقليَّة أو قيصريَّة، وكما يرى هو ومن حوله المصالح والمفاسد وما إلى ذلك؛ فحرمت البشريَّة من تلقي رسالة الإسلام كما جاء بها النبيون، وجرى تغير في العقليَّة والنفسيَّة المسلمة لتتقبل كل معطيات ذلك التحول!!

إذًا لابد من إدراك الفروق الدقيقة والعميقة بين خلافة على منهاج النبوة، ونظام سياسي يقوم على مفاهيم “السلطة والحكومة والدولة”، ولقد انزوت مفاهيم “الأمَّة مع مفهوم الخلافة ومفاهيم الدعوة”- كما قلنا ليحل محلها الفتح والحرب وما إلى ذلك. ومع ذلك فإنَّ الدولة الأمويَّة لم تستطع بكل تلك الفتوحات والمغازي والحروب الخارجيَّة أن تقمع أصوات المعارضين في داخل الأمَّة، فقامت ثورات عديدة ضد انحرافاتها تلك، منها: ثورة الإمام الحسين، وثورة القراء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، وزيد بن علي، ومحمد ذو النفس الزكية، وغيرهم ممن امتلأ تاريخنا بهم، وانتهت بسقوط الأمويين وقيام العباسيين الذي كانوا اشعلوا  كل مشاعر العداء لبني أمية والولاء لآل البيت، وعندما نجح أبو العباس السفاح، وأصبح أول خليفة عباسي، متخذًا من الهاشميَّة في العراق مقرًا له سرعان ما عمل على إبعاد العلويين والطالبيين، إضافة إلى بقاء الأمويين؛ ليستقر الحكم لبني العباس –وحدهم- وظل الأمر بأيدهم وبقيت الدولة عاجزة عن وضع أيَّة آلية لاستيعاب القوى الجديدة التي تنشأ في تلك المجتمعات، وتوظيفها في خدمة الأمَّة؛ ولذلك فإنّ تلك القوى كانت تعمل على أن توجد لنفسها قنوات للتعبير والتنفيس، وأخذ جزء من القوة بل أحيانًا الاستيلاء على القوة كلها، بحيث لا يبقى للخلفاء العباسيين إلا الدعاء في خطبة الجمعة، وبرزت قوى مثلا السلاجقة والبويهيين ومن إليهم وبقيت الحال تدور ما بين سيئ وأسوأ حتى تفرقت الدولة بعد تفرق الأمَّة وتمزقت وقامت دولة فاطميَّة في مصر ودول أخرى في المغرب، وأصبحت أراضي الأمَّة وديارها مطمعًا لكل الغزاة من صليبيين ثم تتار، إلى أن انتهى ذلك باحتلال بغداد، وتفكك الدولة سنة 656ه.

بعد ذلك ومن بين كل ذلك الركام انبثقت قيادة فتيَّة هي القيادة العثمانيَّة فأعادت لملمة تلك الأطراف في دولة موحدة استمرت أربعة قرون، ومع هذه الانتصارات التي حققتها الدولة العثمانيَّة فإنَّها لم تستطع أن تمنع من الانفجارت الداخليَّة، التي أهمها انفجار الأوضاع في إيران التي كانت حتى القرن الخامس عشر سنيَّة يقودها غزنويون، فإذا بالصفويين -ذوي اتجاه متطرف غالي جدًا ومعادي ومستعلي على جميع المسلمين إلا طائفتهم- يستبيحون دم أي مخالف لهم، قد استولوا على إيران وقضوا على القادة السنيَّة فيها من الساسة والعلماء، ودخلوا في حروب مع الدولة العثمانيَّة ليشغلوها عن الاستمرار في أوروبا التي كان بعض الخلفاء العثمانيين يرى أنَّه لا يتحقق استقرار الدولة العثمانيَّة إلا إذا أخضعت أوروبا لسلطانها، وإدخالها في الإسلام أو أوصلت الإسلام إليها. ولم تتوقف حروب الصفويين ضد العثمانيين طيلة ثلاثة قرون ونصف، انتهت بتفكيك الدولة العثمانيَّة بعد تحالفات استطاعت بريطانيا وفرنسا أن تصل إليها مع العرب ضد الدولة العثمانيَّة، فأثارت عرب الجزيرة بقيادة آل سعود السياسيَّة والشيخ محمد بن عبد الوهاب الدينيَّة ضد الدولة العثمانيَّة، وقد حاول الداعية محمد علي أن يستغل الفرصة لإرضاء حاكم اسطنبول فأرسل ابنه إبراهيم باشا في حملة أنهت الخلافة السعوديَّة الأولى وجاءت بقيادة هذه الثورة أسرى إلى القاهرة.

نعتبر انتهاء الدولة العثمانيَّة وتفككها وإعلان إلغاء الخلافة في مارس 1924 في برلمانها بقيادة مصطفى أتاتورك نهاية مرحلة تاريخيَّة كاملة لتبدأ مرحلة أخرى هي المرحلة التي خابت فيها آمال العرب وغيرهم من المنتمين إلى الكيان الاجتماعي الإسلامي، وأقامت فرنسا وبريطانيا وفقًا لاتفاقيَّة سايكس بيكو تلك الكيانات التي عرفت بالدول القوميَّة والتي لا نزال نعيش في ظلها حتى يومنا هذا.

فهل نستطيع أن نقول إنَّها إعلان عن نهاية الانطلاقة الإسلاميَّة الأولى وبداية عهد جديد يحتاج إلى رؤية وأساليب عمل مغايرة لما كان عليه الحال فيما مضى، أظن أنَّنا نستطيع أن نقول ذلك؟

فما ملامح هذه المرحلة وكيف يمكن تجاوزها؟

  • إنَّ أوروبا أطلقت على الدولة العثمانيَّة أنَّها دولة الرجل المريض، وقد خططت لتمزيقها بشكل لا يسمح بإقامة دولة مسلمة مرة أخرى، وربط الناس بأقاليمهم، وإحداث ردة جماعيَّة توقظ في الناس مشاعر ما قبل الإسلام وما بعده، ولا تتوقف عنده إلا بشكل عابر فتعيد المصريين إلى الفرعونيَّة، والعراقيين إلى البابليَّة وأهل الشام إلى الفينيقيَّة، والمغاربة إلى الجذور الكثيرة القرطاجيَّة وما إليها التي سبقت دخول الإسلام إلى تلك المناطق.
  • إنَّ الدولة القوميَّة التي ولدت فيها الأجيال الجديدة التي لم يعرف أبناؤها إلا أوطانهم وأقاليمهم، وغذاهم التعليم والإعلام بتلك الأفكار الأقليميَّة بحيث لم يعودوا قادرين على تصور وحدة الأمَّة خارج إطار المشاعر والعواطف، وربما يفكرون بتبادل بعض المصالح مع أقطار هي جزء من ديارهم؛ فلكي تعاد المشاعر إلى سابق عهدها ويؤسس لأفكار الوحدة وحدة الأمَّة والمفاهيم الجامعة وإعادة بناء شبكة العلاقات بحيث تمكن من إعادة بناء وحدة الأمَّة؛ لابد من بناء منظومة مفاهيميَّة جديدة، تهيئ هذا الإنسان إلى قبول متطلبات الوحدة وتحمل أعبائها وجني فوائدها بعد ذلك.
  • إنَّ وحدة الأمَّة لو انطلقنا بها من مصر ثم العالم العربي من حولها لوجدنا تحديًا كبيرًا يواجهنا أولًا هو التحدي الذي يتمثل في الوجود الإسرائيلي في قلب الديار العربيَّة، والذي يرى أنَّ أمنه واستقراره لا يمكن أن يحافظ عليهما إلا بتمزق العرب وسائر من حولهم من كيانات الأمَّة.
  • وهناك أمريكا ومصالحها وإصرارها على أن تكون الدولة العالميَّة الأولى وأن تفرض عالميّتها على البحار كلّها والمحيطات والأرض والسماء والفضاء، وذلك يشكِّل تحديًا آخر، ثم هناك   المجموعة الأوروبيَّة وما لها من مصالح تشكل تحديًا ثالثًا.

إذًا فهناك تحديات داخليَّة، وهناك تحديات خارجيَّة يجب أخذها بنظر الاعتبار عند التفكير بإعادة بناء الأمَّة، فهل هذه التحديات أكبر من التحديات التي واجهت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفرس والروم وقوى أخرى، مثل الحبشة وغيرها في العالم القديم؟ وما المنهج المطلوب الالتزام به لإعادة البناء بعد دراسة ورصد التحديات الداخليَّة والخارجيَّة بدقة، ومعرفة تأثيرات كل منها على وحدة الأمَّة واجتماع كلمتها.

هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في حلقة قادمة -إن شاء الله تعالى.

    

[1] صحيح البخاري؛ كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، رقم 3342.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *