فقه الكلمة ومسؤولية الكلمة
أ.د/ طه جابر العلواني
طرحت كونداليزا رايس الوزيرة الأمريكية المدللة المترفة كلمة الفوضى الخلاقة، وهي كلمة خطيرة لو مزجت بدماء المحيط لغيرته، فالفوضى خلط يقوم على خلط ويولد من خلط وينتهي بخلط ﴿… ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ …﴾ (النور:40) خلط في خلط في خلط، وهذا الخلط لا ينتج عنه إلا مثله يتربى في رحمه ويولد منه ولا شيء غير ذلك، قالتها وكأنَّها شعار أطلقته لجميع موظفي الخارجية الأمريكان الذين كانت ترأسهم في عهد جورج دبليو بوش، تريد أن تقول لهم: لكي تعرفوا كيف تعملون في هذا العالم الذي يسمى بالعالم الإسلامي فإنَّ شعاركم أن تدخلوا إليه الفوضى بكل أشكالها، فإذا دخلت الفوضى فيه وتغلغلت في جوانب حياته كلها فسوف تنتج نظم جديدة ومؤسسات حديثة تخرج من بين لبن خالص أو مشوب لتكون فرثا ودما ومفخخات ومتفجرات، تبرز لكم في ذلك الجزء من العالم قادة ليس مهمًا أن يدعوا لآبائهم أو لأمهاتهم أو كناهم وألقابهم فكلا الأمرين سواء.
فالفوضى الخلاقة قد أبرزت القاعدة في أفغانستان شاركت في إبرازها مع أمريكا دول عربية وإسلامية حتى إذا فككت روسيا وشفت غليل أمريكا منها مقابل هزيمتها في فيتنام بدأت تفرخ أسماءًا ومنظمات أخرى حتى وصل الأمر إلى داعش، والفرق بين داعش والقاعدة إن داعش قررت أن تمتلك أرضا وتسيطر على أراضي لأن قادة الفوضى الخلاقة لا يتفاوضون مع من لا أرض له يسيطر عليها، والآن وقد صار لداعش أرض وحدود ومجالات حيوية تعلن عليها الحرب كما تعلن على الدول، وهذا ما فعلته فرنسا، وتشن الحرب من الأساطيل ومن الجو ومن البر على أراض معينة، وبلدان مدمرة استولت داعش عليها، وتمركزت فيها، ومن يدري غدا قد يدعوا “بان كي مون” أمين عام الأمم المتحدة أو أي بان آخر إلى لقاء بين قيادة داعش والحكومة الفرنسية أو أية حكومة أخرى لتبادل الأسرى والتفاوض على بعض الأمور وطلب تعويضات على أمور أخرى، وتنبثق دولة جديدة بعد مرحلة التوحش والفوضى فتخلَّق الدولة الجديدة وتبدأ عمليات طويلة عريضة قد تأخذ عقود من السنين في ترسيم الحدود ووضع القيود، ويقال لهؤلاء مجانين الحكم والتسلط خذوا هذا المسخ دولة لكم وسموه بما تشاءون، ويسقط في أيدي الناس.
الفوضى الخلّاقة جعلت لفيفا من الإعلاميين العرب والمسلمين ينحازون إليها، كل منهم ناعق من ناعقين، يصرخ دون أن يعرف ما يقول، ودون أن يتبين ما يصرخ به وما يهتف به يهرف ويهتف بما لا يعرف.
ترى أحدهم وقد سلطت عليه الأضواء وراء ميكروفونه وهو على كرسيه المثير يزبد ويرعد وينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور وينفق من ليالي الناس وأعمارهم ساعتين أو ثلاث لخمسة ليال في الأسبوع دون أن يكسل أو يعجز، فإذا عصرت تلك الساعات تجد حوارا تافها لا هدف له إلا إثارة الفوضى والاضطراب والتشكيك بكل المسلمات وهدم سائر المفاهيم ووضعها في مهب الريح، يجلس أحدهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ينهش في هذا وذاك، تصيبه حساسية مفرطة فيفقد صوابه من كلمة أو حرف أو عبارة لم يألف استماعها، ويا ويل المستمعين إذا فتح فاه وبدأ يقذف مما حوته بطنه على الناس يمينا ويسارا قد تسمعه يشتم مسؤولا وينتقد آخر ويذم ثالثا ويعبث بآخر، لا لشيء إلا لأنه قال كلمة لا تعجبه، أو أبدى رأيا يخالف وجهة نظره، وهؤلاء أصيبوا بفيروس الفوضى، وصُب في قلوبهم حبها والانفعال بها؛ فيصبوها في أسماع الآخرين.
إن بسطاء المصريين والعراقيين والسوريين واللبنانيين والسعوديين والخليجيين عامة يعجبهم أن يعبروا عن أوطانهم ومواطن ديارهم بكلمة بيتنا أو أسرتنا أو آباؤنا وأمهاتنا، ولا يرون في ذلك شيء ولا تعبير عن دين ولا تطرف ولا تعصب، لكن بعض هؤلاء يرون في ذلك إشارة على الريبة لوجود تدين في قلوب هؤلاء الشعوب، لا تخفي تدينها وإن أرادت فما استطاعت، فينبري إليها هؤلاء ليقول لها أمنا وأبونا ألفاظ شرعية علمه الله آدم حين علمه الأسماء لا يجوز لأحد استعمالها ونحن سائرون في طريقنا بالفوضى الخلاقة نحو التخلص من التحيزات الدينية، ولم يبق على هؤلاء إلا أن يحرموا على الناس النطق بلفظ الجلالة الله؛ لأنَّ في ذلك انحيازا للدين وللألوهية، وأظن الشيطان يأنف أن يكون بين هؤلاء، فالشيطان نفسه وهو في غمرة انفعاله لم يتخل عن ربوبية الله وتعظيمه له، بل أقسم به (جل شأنه): ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر:39)، ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف:16)، ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص:82).
وهؤلاء لو قيل لهم والله أو بعزة الله أو قال الإنسان ربي فإنهم يتهمونه بالتدين أو الانحياز إليه أو الانضمام إلى تلك الجماعة أو تلك.
فأيَّة فوضى هذه التي يدعو هذا النموذج من الإعلاميين لها ويروجون لها، قاتلهم الله أنى يؤفكون.