أ.د: طه جابر العلواني
حَملت لي صور الدمار الحاصل في الفلوجة صورة عرفت بها صورة منزل والدي الملاصق لمنزل عمي الحاج خلف والذين تتصل بهما قطعة أرض صغيرة كنت حاولت استملاكها وادعت إدارة الأوقاف آنذاك أنها ملكها؛ لأن أصلها مقبرة قديمة قد درست وذابت الأجساد التي فيها فحاولت وعرضت على الأوقاف ما تشاء من بدائل فقط لأجعل لي منزلا بجوار منزل أبي وعمي ورفضت ولما اضطررت إلى مغادرة البلاد بعد استيلاء البعثيين على السلطة في بغداد ذهبت لزيارة والدي وعمي ولم يكن في حسباني أن تلك هي آخر زيارة لي للفلوجة ولبيت أبي ومدينة أهلي وأقاربي وأعمامي وأخوالي، كان ذلك على ما أذكر في الرابع والعشرين من حزيران يونيه 1969م ثم غادرت العراق نهائيا مساء يوم 26 من يونيه، في ذلك المساء الحزين ذهبت إلى مطار بغداد القديم بصحبة أخي فقط وودعته وودعت منزلي في بغداد وكان لي أمل أن أعود إليها بعد أيام أو شهور فلم يكن أحد يتصور أن نظام آل بكر وصدام سوف يستمر إلى أن يتسلم المحتلون وأعوانهم البلاد في 2003 ومنذ ذلك التاريخ لم تكتحل عيناي برؤية الفلوجة ولا بغداد ولا الكرادة الشرقية التي كنت أسكن فيها ولا الرستمية حيث تقع الكلية العسكرية التي كنت أدرس وأعمل فيها، خرجت وفي الرأس أربع شعرات بيض ليس سهلا أن تجدها إذا لم تكن لك عين فاحصة ولقد مرت السنون والأعوام وها قد بلغت الثمانين.
وعرض عليّ وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ومساعده رامسفيلد Donald Rumsfeld بول ولفويتز Paul Wolfowitz العودة إلى العراق والمساهمة مع أعوانهم هناك في تثبيت دعائم الحكم الجديد وظنوا أنني لن أتردد في قبول عرضهم خاصة وهم يعلمون أن نظام البكر قد أصدر عليّ حكما بالإعدام بعد اتهامي بالمشاركة في محاولة لقلب نظام الحكم ، وكلمني مكتب وزير الدفاع بواشنطن وطلبوا اللقاء بي وأنهم سعداء باستقبالي في المكان الذي أحدده للتباحث معي في بعض الأمور وآثرت أن يكون اللقاء بعيدا عن مكاتبهم ومكتبي والتقيت مع مندوبي رامسفيلد في فندق ، كانوا ثلاثة ومعهم دليلهم العراقي وهو أحد الأطباء العاملين في واشنطن فبدأ المساعد لنائب وزير الدفاع يتحدث عن العراق وما جرى فيه وضرورة العمل على إعادة بناء ما دمرته الحرب وأنهم قد جمعوا معلومات كثيرة عني أعطتهم فكرة أنني رجل مقبول لدى جميع أطياف الشعب العراقي من شيعة وسنة وعرب وتركمان وأن الذين سألوا عني من قِبَلهم أثنوا عليّ خيرًا بحيث جعلوهم يفكرون -ولو بوقت متأخر- أن يستفيدوا مني لتهدئة البلد وخاصة في المناطق العربية السُنية، وأن ذلك سيكون في صالح الجميع سواءا أكانوا من العراقيين أم من الأمريكان وفيه حقن لدماء الجميع، مواطنيه السابقين -على حد تعبيره- ومواطني الذين أعيش بينهم الآن، وأن كل شيء جاهز لنقلي إلى بغداد وتهيئة استقبال مناسب لي هناك .. ولمـــَّا قُلت له : إني إنسان قد تقدمت بي السن وصحتي لا تحتمل مثل هذا النوع من النشاط أكد أنهم سيخصصون مستشفىً مصغرَا بحسب احتياجاتي الصحية وبعد دراسة جميع تقاريري الصحية ليكون هذا المستشفى مُعد أينما أذهب أو أجيء للعناية بي، وهناك أيضا فريق حماية على أعلى مستوى سيكون معي لتحقيق الحماية المناسبة، وما سيوفر لك هناك وفي سفرك سيكون أفضل بكثير من هذا الذي توفره لنفسك في بيتك، قلت: لكن لي شروطا غير هذه الشروط أن أكون مسئولا عن تعويض كل من فقدوا أحد أبنائهم تعويضا مناسبا، وأن يعاد بناء العراق كما كان قبل غزو الكويت وترد له جميع أسلحته وإمكاناته التي دُمرت أو تُعوض العراق تعويضات مالية عن كل ما خسرته نتيجة هذه الحرب المفروضة.
قال: كم تقدر دية العراقي الذي قتلناه خطأً قلت: عشرة ملايين دولار، فقال وكاد يقفز من مقعده: إننا ندفع لهم خمسة آلاف دولار ويقبِّلوا أيدينا وينصرفوا شاكرين، قلت: إن الذي أعرفه أن المساواة مبدأ من المباديء التي تقوم هذه البلاد عليها وأنتم قد أخذتم من القذافي مقابل ضحايا لوكيربي لكل رأس أمريكي عشرة ملايين دولار ألا ترى أن البشر سواسية؟ وما الذي جعل الأمريكي أفضل من العراقي إلى هذا الحد؟ فقال: الخلاصة ما الذي تريد أن تقول؟ ألستُ موافقا على هذا العرض؟ أرجو أن تعلم أن من يشترطون على الولايات المتحدة شروطا لم يولدوا بعد، قلتُ له: لك أن تقول هذا، ولي أن أقول بأنه لا أحد يستطيع أن يفرض عليّ أن أقوم بعمل لا أريده ولا أراه مناسبا لي، وانصرفوا غاضبين وبقي دليلهم العراقي يلومني على ما فعلت، ويذكر أنني إن وافقت على عرضهم فقد ينصبونني نائب للرئيس أو رئيسا فشكرته وقلت له: إن رئاسة بلد محتل لا تشرف صاحبها، وغادر على إثرهم وانتهى كل شيء.
ظننتُ أن الأمر قد انتهى فعلا ولكن لم يمر أسبوعان على ذلك حتى اتصلوا يطلبون لقاءًا آخرا، وفي هذا اللقاء الثاني أعادوا ما ذكروه وأعدت ما قلته لكنهم هذه المرة قبل أن يتركوني قالوا: وما رأيك لو ذهبت بصفتك نائبًا للرئيس؟ وإذا نجحت في مهمتك فستستلم الرئاسة ، فضحكت، وقلت: يبدو أنكم تنظرون إلى هذا الموقع وكأنه موقع محترم يسيل اللعاب عليه فوضعتموه في أذهانكم إلى أن أبحتم به الآن باعتبارها وسيلة ضغط قد لا أستطيع مقاومتها وقد أستجيب لكم على الفور، وأحب أن أقول: لا يشرفني أن أتسلم في بلد محتل مقاليده بأيديي محتلين أي منصب وأية مسئوليات، وإن كنتم تقدرون العراقيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة مواطنين فيها لتشاورتم معهم وأخذتم أرائهم قبل التورط في احتلال البلاد وشن حرب غير عادلة عليها لإظهار القوة وتنفيس الاحتقانات الداخلية وإفادة الشركات الكبرى، ثم تركنا ولم نلتق بعد ذلك وبعد فترة وددتُ أن أجس النبض وكلمت الوسيط العراقي الدكتور الذي نظم اللقاءين الأولين، وقلت له: أرجو أن تجس النبض وتكلم جماعاتك فإني أرغب في زيارة أهلي في العراق لمدة وجيزة، أقف على قبور الأموات منهم ، وأسلم على الأحياء ثم أعود، ذهب وعاد إليّ بعد يومين أو ثلاثة ليقول: لقد أخبرت الجماعة برغبتك فأجابوني بأنهم حين طلبوا منك ذلك رفضت، والآن تريد أن تذهب بنفسك ولحسابك؟ إننا سنعتبر عملا كهذا اعتداءً أو محاولة للتحريض، ولا مسئولية لدينا عما يحدث لك، فعلمت أن ذلك تهديد، فصرفت النظر واحتسبت ذلك عند الله لتصبح فترة ابتعادي عن العراق وأهله والفلوجة وأهلي وأقاربي فيها سبع وأربعين سنة بالتمام والكمال، وها أنا أرى اليوم أطلال منزل والدي وقد أُحرق بصاروخ، وكأن الذين هدموا منزل الوالد كانوا يريدون أن يرسلوا لي رسالة بأن آخر خيط لك في مدينتك وبلدك وطفولتك وشبابك قد قطع وانتهى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.