أ.د/ طه جابر العلواني
في أول زيارة لي في الولايات المتحدة وقبل أن أحمل جواز سفرها استضافني اتحاد الطلبة المسلمين في ولاية انديانا مدينة انديانا بولس (Indianapolis)، ولفت نظري في أول يوم وصلت فيه إلى تلك المدينة أن الأخوة القائمين على الاتحاد أعدّوا دارين للضيافة، ولأداء بعض الأغراض التي يحتاجونها، واحدة اسمها: دار المهاجرين، وأخرى دار الأنصار، وسألت الأخوة عن سبب تسمية هذين الدارين بهذين الاسمين ؟ فكان كل ما ذكروه هو مديح للنظام الأمريكي، وما وجدوا فيه من حرية واحترام وتقدير وعدل وفرص متساوية مما جعلهم يرون أن هذا هو النظام الذي يطمح المسلم لإقامته، وربما ردد البعض الكلمة التي يتناقلها الناس عن الشيخ محمد عبده حين زار أوروبا فقال: ” وجدتُ في أوروبا مسلمين بلا إسلام ووجدتُ في بلدي إسلاماً بلا مسلمين”، الكلمة قاسية ولا شك، والكلمة قد يقولها الإنسان ولا يلقي لها بالا وتكون لها آثار مفجعة.
أثناء زيارتي تلك -وهي الزيارة الأولى لي للولايات المتحدة-كنتُ مجرد عالما من علماء الأزهر تخرج فيه، وتأثر بما تعلم، لم استرح لكل ما قالوه، فأمريكا هي أمريكا، وإذا كان نظامها بالشكل الذي ذكروا فلابد أنها تتمتع لا بوجهين بل بأكثر من وجهين، فوجهها في الداخل الوجه الحسن لكن وجهها في الخارج ومع بلاد المسلمين خاصة وجه آخر، فهي تدعم إسرائيل بالحق وبالباطل شعارها شعار ذلك الشاعر الجاهلي القائل[1]:
وننصر مولانا ونعلم أنه *** كما الناس مجروم عليه وجارم
ثم ناقشتهم بأنّ الهجرة لها شروط ومواصفات وهي عبادة وقد انتهت بفتح مكة وفي الحديث: عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم الفتح: ” لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا “[2].
ولكن من الواضح أنّهم قد اختاروا وأحبوا أنّ يشبعوا حاجة في نفوسهم ولم يكثروا جدالهم في ذلك.
وحين قررت أنّ استوطن أمريكا بعد صدور أحكام بالإعدام ضدي من نظام “البكر” و “صدام” وجدتُ في فرجينيا (Virginia) – حيث سكنت- دارًا اتخذت مسجدًا وأطلقوا عليها دار الهجرة كذلك وما تزال قائمة حتى يومنا هذا تعرف بهذا الاسم، وصارت مركزًا إسلاميًا كبيرًا، وفيها مدرسة ونشاط جيد لخدمة المسلمين المقيمين هناك، وأبديتُ الملاحظة نفسها لكنّ الجماعة كانوا متشبثين برؤيتهم، وقد يذكرون بعض النصوص عن: ” أن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة ولا ينصر الظالمة وان كانت مسلمة”، وأنّ هذه الديار بالنسبة لنا صارت دار إسلام، فلولا الحريات التي فيها لما أمكن لنا أن نمارس شعائر الدين بكل ما أعطتنا من حرية.
وأقمتُ بعد ذلك خمسا وعشرين سنة، – وما زلت مواطنًا مسلمًا- في أمريكا وجاءت تيارات واتجاهات تأثرت بجوانب اختارتها من التراث الإسلامي، وتحزبَّت لها، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، وإذا حزب الناس أمر لم يرجعوا إلى كتاب الله (عزَّ وجلّ) بل يرجعون إلى فقهائهم الذين استقروا معهم في السكن، أو يرجعون إلى فقهاء بلدانهم التي جاءوا منها وتشعبت بهم السبل، وحاولت مع بعض الأصدقاء من الأساتذة الأفاضل -المختصين في الدراسات النقليَّة- تغيير بعض الاتجاهات فكانت الاستجابة ضعيفة، إذ كل حزب بما لديهم فرحون، وكنتُ كل ما سُئلت عن مستقبل الإسلام في هذه البلدان -مع كل تلك الأحوال والظواهر والسلبيات التي كنت أشاهدها- أشك بوجود مستقبل يذكر.
فالأقليات المسلمة نقلت إليها جميع أمراضها في العالم الإسلامي، فالجدل الفقهي والكلامي منتشران، والخلافات تنمو وتتزايد، والعصبيَّة إلى البلدان والتحديات تتكاثر، والاستجابة إليها تؤدي إلى مزيد من التمزق والتشتت في الرؤى والمواقف. ودخلت السياسة واستغلت بعض البلدان بعض الفئات المقيمة هناك لأغراضها السياسيَّة، ووُجد فقهاء انتقلوا بكل ما لديهم من نقص وقصور في العلم والفهم والفقه، وبسطة في الجهل، والسذاجة والسطحيَّة، والاستعلاء على الناس، وإلغاء التفكير فضلًا عن الاجتهاد والتدبير.
وكنتُ أُقدم كثيرًا من الدروس، وأُذّكر هؤلاء بضرورة وحدة الكلمة، واتخاذ وجودهم في الغرب فرصة وتحدي في الوقت نفسه يدفعهم إلى استثمار ذلك في خدمة دينهم ومصالح أمتهم .
[1] هو عمرو بن البراقة النهمي . اتفاق المباني وافتراق المعاني 1/237
[2] صحيح البخاري كتاب الجهاد بَاب لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ 2/651 /1737