أجهزة الإعلام والطائفية السياسية
أ.د. طه جابر العلواني
الإعلام في ظروف الفتنة والاضطراب يتخذ موقعًا متقدمًا ويتصدر قائمة المؤثرات في الفتنة -إيجابًا وسلبًا-. فالإعلام الإيجابي يدرك أهمية الكلمة وتأثيرها وأن الكلمة تلقى في ظروف الفتنة فيكون لها من الأثر ما يجاوز آثار القنابل والأسلحة المدمرة، وقد تقال الكلمة في تلك الظروف فتهدأ النفوس وتطفئ شيئًا من نار الفتنة فتتحول الكلمة آنذاك إلى بلسم شافٍ يمكن أن يسد ثغرة لا تستطيع جيوش من قوات الأمن أن تسدها. ولذلك فإن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «رب كلمة لا يلقي لها الرجل بالًا تهوي به في النار سبعين خريفًا»، لذلك يصبح فقه الكلمة وطريقة صياغتها وقولها وزمان قولها قضايا تعتبر من المرشّدات الأساسية التي لابد منها لعمل كل إعلامي. لقد تعلم الإعلاميون أن الإثارة في مهنتهم قضية أساسية، ولا يثير الناس كثيرًا أن يقال سقط جامع أو كنيسة والتحقيق جارٍ لمعرفة أسباب السقوط وما إذا كان هناك غش في مواد البناء التي بني بها المسجد والكنيسة أو أن هناك تقصيرًا من المقاول أو المهندس أو كلاهما، أو يقال نسف مسيحيون أو يهود هذا الجامع أو نسف مسلمون هذه الكنيسة أو البيعنة…
ففي الحالة الأولى: يخلو الخبر من الإثارة، وفي الحالة الثانية: تتوافر له كل عنصر الإثارة إن صدقًا أو كذبًا، والسكوت عن أخبار كهذه أو الإعراض عنها أو الاكتفاء بمجرد الإشارة إليها دون تحديد من فعلها أو الإشارة إلى أن التحقيق جارٍ أو البحث جار لمعرفة الأسباب… لا يضير الإعلامي ولا يضر بسمعته وكوني متابعًا لكل ما يحدث، ولا يؤجج نيران الفتنة بين الناس. ومعروفة تلك القصة: “عض كلب رجلًا وعض رجل كلبًا”، التي تعتبر من بديهيات الإعلام المثير، فأن يقال إن المسيحيين قد وقفوا في ميدان التحرير يحمون صفوف المصليين من المسلمين فيه أو أن مسلمين جعلوا من أنفسهم ذروعًا بشرية لحماية الكاتدرائية من تهور المعتدين.. هذه أمثلة لاختيار ما يقال لوأد الفتن والتخفيف من حدة الطائفية. قد يقول الإعلامي إنه يتحرى الصدق! وهي كلمة حق، ولكن لو أن رجلًا هرب من رجل آخر يحاول قتله واختبأ المطارد المظلوم بدون حق في أي مخبإٍ وجاء القاتل وسأل شخصًا يعرف أين اختبأ المطارد، فلو أخبره بالصدق لقتله وآنذاك يكون المخبر شريكًا في القتل، ولو أنكر معرفته بمخبإ المطارد المظلوم لسقط في الكذب. وقد ناقش المتقدمون من فلاسفة وكلاميين هذا النموذج، وقالوا بأن الكذب يصبح في هذه الحالة حسنًا ويصبح الصدق قبيحًا. فالإعلامي واحد من أبناء البلاد له موقعه بين مثقفيها والمتعلمين من أبنائها ويمكن أن يعد في نخبتها، وينبغي أن يحرص على أمته ومصالحها أكثر من حرصه على نجاح شخصي في مهنة تعود عليه بنوع من السمعة، فيقال عنه إنه إعلامي ناجح. فمصلحة الأمة أكبر في هذه الحالة من مصالح الأفراد والمحافظة على وحدتها أهم من أي وصف أو شرف، وإذا راعى الإعلاميون ذلك؛ فإن نسبة عالية من الاحتقان والتوتر اللذان تعاني منهما شعوبنا خاصة في مصر اليوم سوف يختفيا، وسيكسب الإعلاميون رضى الله -جل شأنه- ورضى الناس ودعائهم وهما أثمن بكثير من كلمة عابرة تقال في حق هذا أو ذاك.
وفق الله الجميع لما يحبه أو يرضاه.
وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة…