Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

البيان العالمي لرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم

أ.د: طه جابر العلواني

الحمد لله، نستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خاتم النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، ثم أمَّا بعد:

يؤرخ الكثيرون لحقوق الإنسان بالبيان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1948م، الذي نص فيه على كثير مما يهم الإنسان، وكان الإنسان الأوروبي والأمريكي بصفة خاصَّة يحتاج إلى من يضمن له هذه الحقوق ويحميها، وقد فات الناس كافَّة أنَّ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- هو أول من صاغ للبشريَّة بيانًا عالميًّا أكَّد فيه على حقوق الإنسان، وربما يجهل غالبيَّة المسلمين أنَّ كل تلك الحقوق التي جاء بها البيان العالمي بعد ما يقرب من أربعة عشر قرنًا من وفاة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- قد اشتمل عليها بيانه –صلى الله عليه وآله وسلَّم- لحقوق الإنسان.

        هذا البيان العالمي النبوي ألقاه رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- في خطبة حجة الوداع (في السنة العاشرة للهجرة) التي كانت أول وآخر مرة حج فيها رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- بعد هجرته إلى المدينة المنورة، والتي قال فيها:

“أيُّها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه: ألا إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب.

أيُّها الناس: إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإنَّكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلَّغت؟ اللهم اشهد … فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإنَّ كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلِمون ولا تظلَمون، قضى الله أنَّه لا رِبا، وإنَّ أول رِبا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب … .

أيُّها الناس: إنَّ الشيطان قد يئس من أن يعبد في أرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.

أيُّها الناس: فإنَّ لكم على نسائكم حقًا، ولهنَّ عليكم حقًا، لكم عليهنَّ ألَّا يوطئن فرشكم غيركم وعليهنَّ ألَّا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلَّا بإذنكم ولا يأتين بفاحشةٍ مبينة، … فإن انتهين فلهنَّ رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهنَّ عندكم عوانٍ … ، وإنَّكم إنَّما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيًّها الناس: إنَّما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُنَّ أنفسكم، ولا ترجعُنَّ بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنِّي قد تركت فيكم أمرًا بينًا إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنَّة نبيه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد”.

وهذا الذي اقتبسناه يبيِّن لنا فيه رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- أنَّ الرب واحد؛ لكي يقطع على المتعصبين سبيل الظن بأنَّهم أبناء الله وأحباؤه كما زعم البعض، فيعطون لأنفسهم مزايا وصفات لا يستحقونها بحجة تميز أديانهم أو مذاهبهم على أديان الآخرين ومذاهبهم، فقطع (سبحانه وتعالى) عليهم هذا السبيل لينبه إلى أنَّ البشر كافَّة عباده وأحبابه، وأنَّ الدين واحد، وأنَّ الأنبياء إخوة، وإن فضل الله بعضهم على بعض، ثم يعزز هذه الأخوَّة البشريَّة بوحدة الأب بعد التوكيد على وحدة الرب (جل شأنه) بذلك النسب الأعلى الذي يجمع البشريَّة كلّها، بحيث يدرك الناس أنَّهم إخوة في الإنسانيَّة تعليمًا واتباعًا منه –صلى الله عليه وآله وسلَّم- لقول الله (جل شأنه): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13، وقوله (جل شأنه): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء:1).

 وذلك يعني أنَّ البشريَّة حينما تجد نفسها قد وصلت إلى خطر الاحتراب والتنازع والتقاتل يجب أن تتذكر أصلها الواحد وأخوَّتها في ذلك الأصل وبشريَّتها وإنسانيَّتها؛ ليتوقف الغضب وتندحر الفتنة ويزول شبح الحروب والتقاتل بين الناس، ولتتذكر البشريَّة أنَّ هذه الأخوَّة ينبغي أن توظف فيها جميع الاختلافات لصالح تدعيمها وتقويتها، فإذا اختلف الناس في ألوانهم وبلدانهم ومذاهبهم وأديانهم فكل تلك الاختلافات ينبغي أن تحوَّل بمقتضى ذلك الأصل إلى اختلافات تعارف وتنوُّع لا اختلافات تضاد وتنافي، وإذا تذكَّر المتنازعان أنَّهما أخوان في بشريَّتهما وإنسانيَّتهما فذلك سوف يفثأ الغضب ويكسر حدة العصبيَّة، ويعلي كلمة العقل والقيم فترجع العلاقة إلى سابق عهدها وإلى موقعها الأساس أخوَّة في الإنسانيَّة، أخوَّة في البشريَّة (كلكم لآدم وآدم من تراب).

        فالبشريَّة كلّها ذات أصل واحد ومنشأ واحد ومصير واحد، بدأ وجودها بأمر ربها، وسوف تنتهي في الدار الآخرة إلى قيام الناس لرب العالمين، الذي بدأ الخلق ثم يعيده، وما من أحد قبل القرآن ولا بعده ولا بعد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- نادى بهذا النداء وأكَّد عليه ورسم للبشريَّة منهجًا يعيد لها هذه الأخوَّة إذا نسيتها أو أضاعتها. ولقد أكَّد القرآن المجيد وعلَّمنا رسول الله وعلَّم البشريَّة كافَّة أنَّ التفاضل بين البشر يعتمد على أساس واحد وهو أساس قيمي أخلاقي وليس عرقيًّا ولا لونيًّا ولا يتعلق بأي عرض من الأعراض؛ فربط الأفضليَّة بقيمة التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، والتقوى أمر كسبيٌّ يكتسبه الإنسان اكتسابًا هو الذي يسعى إليه وهو الذي يحققه إن شاء الله، وليس أمرًا يجبر عليه أو يكره، أو يفرض عليه من خارج، وبالتالي فإنَّ أي إنسان يريد الكرامة والتفوق بها فعليه أن يسلك السبيل إلى التقوى بطريق ومنهج جاء القرآن به وعلَّمه رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- للبشريَّة كلّها، ولا سبيل آخر للتفاضل غير التقوى، وكل ما ألف الناس أن يتفاخروا به ويتفاضلوا به قد أبطله قول الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وطريق التقوى واضح بيِّن تناوله القرآن الكريم بشمول عجيب، وفصَّل كل ما يؤدي إلى هذه الصفة، وبيَّن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- بأعماله وبأقواله واتباعه للقرآن منهج التحقق بالتقوى، وبلوغ غايتها، وبلغ الناس ذلك كله، وأشهدهم على أنفسهم.

فأسأل الله -جل وعلا- لي ولكم التقوى، وأن يلزمنا كلمتها، وأن يجعلنا في عباده المتقين، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.

الخطبة الثانية:

إنَّ اختلافاتنا وتخلُّفنا قد شغلنا عن إيصال وتبليغ البشريَّة النور الذي منّ الله به علينا لا لنحاصره ونحول بين البشريَّة وبينه، بل لنوصله إليها ونعلمها الكتاب والحكمة، ونعرفها بالرسل، وخاصَّة رسول الله وخاتم النبيين محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- وبذلك خسرنا، وكبَّدنا العالم كلّه خسائر فادحة بهجرنا للقرآن، وتخلَّينا عن إيصاله للبشريَّة وتعليمها آياته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *