الحلقة التاسعة عشر
تلبس الجني للإنسي
الجزء الثاني
أ.د. طه جابرالعلواني
تأملت كثيرًا في انفتاح بعض زملائي من الشيوخ الذين أحبهم وأحترمهم وأحترم عقولهم على فكرة التداخل بين الجنّ والإنس، فوجدتُها بنيت على ما يعرف “بالمخيال الشعبي والثقافة الموروثة”، تعزِّزها بعض الأحاديث التي لم تحظَ بعناية النقاد وما أتقنوه من تشريع.
ووجدت إمامًا أجلُّه وأحبُّه وأعتبره من أهم العقول التي أنجبها الإسلام، ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية قد أورد في بعض رسائله الصغرى قصة عجيبة قال فيها: “وكان لنا جنِّيٌّ يحبنا ونحبُّه, وكثيرًا ما كان يتمثَّل بنا، وعندما كنت في سجن القلعة بدمشق كان صاحبنا هذا كثيرًا ما يذهب إلى السلطان بشكلنا وهيئتنا، فيعظه وينصحه بمثل ما كنت أفعل حين أدخل على السلطان، فيجنُّ جنون السلطان فيقول لمن حوله من حراس وحجاب: ألَمْ آمركم بسجن ابن تيمية؟ فكيف أطلقتموه؟ فيقسمون أنّهم سجنوه، ويسرعون إلى السجن ليطمئنوا على وجودي فيه، فأبتسم وأقول: فعلها صاحبي”. هذه نكتة من شيخ الإسلام -رحمه الله- وعفا عنّا وعنه كان لها أثرها في المعاصرين خاصّةً، فتساءلوا في مسألة التعاون وانفتاح الإنس على الجن والجن على الإنس، وخلط أجناس الخلق ولو على خلاف كتاب الله، وما دام لشيخ الإسلام جنيّ، فلمَ لا يكون لشيوخ آخرين جنيّون مثله؟
ولو صحت هذه القصة عن شيخ الإسلام فذلك يعني أن يتمكن كل محترفي قيادة العصابات من تشكيل عصابات من الجنِّ، يقومون لهم بكل ما يردون من خدمات، ويستطيعون الإفلات من الرقابة، ولن تطالهم يد شرطة أو سلطة، ولم يفكر أحد ممن تداولوا هذا الأمر لِمَ لمْ يهرِّب هذا الجنيُّ الصديق شيخ الإسلام من سجنه وينحاز به إلى فئة أخرى يحقق بها ما كان يعمل من أجله؟
إن القصة عندي كلها مدسوسة على شيخ الإسلام، ولكن هذه القصص مع حديث اليهودي لبيد، وكلّها على مخالفة آيات الكتاب الحكيم وعلى النقيض منها، لكّنّها وجدت سبيلها إلى عقول أبناء الأمة وسيطرت عليهم.
وفُسِّرت أحداث كبيرة بمثل تلك الخرافات، فحين اختلف عبد الناصر مع محمد نجيب ادَّعى البعض أنّ هناك مَن عمل عملًا ليسحر الزعيمين ويفرق بينهما ويحمل عبد الناصر على سجن نجيب وتخسر مصر السودان، إلى غير ذلك. وحينما قرَّر محاضر محمد التخلص من أنور إبراهيم في ماليزيا قالوا أيضًا هناك من استخدم السحر الأسود ليوقع بين الرئيس ونائبه… وهكذا تختزل حتى الأحداث الكبيرة مثل هذه في سحر وعمل! وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ونسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد وينقضها من الخرافة والخرفين والدجل والدجالين، إنه سميع مجيب.