الحلقة الثامنة عشر
تلبس الجني للإنسي
الجزء الأول
أ.د. طه جابر العلواني
إنَّ أحد متقدِّمي الفقهاء الذين أكثروا من الفقه الافتراضيّ، قال وهو يشرح الشبهات التي تُدْرَأ فيها الحدود بأنَّ الزانيَة يُدرَأ عنها الحد لو ادَّعَت أنها إنما حملت من جنِّيٍّ لا من إنسيٍّ! وذهبت مقالة ذلك الفقيه أو “المتفيقه” لتتحول إلى حجَّةٍ متاحةٍ لكلِّ منحرفة. وفي عصورنا هذه، برزت ظاهرة نزوح بنات الأرياف والبادية للتعلّم أو للعمل، وقد تتعرض الفتاة الريفية -التي لا تجربة لها- وهي تواجه الحياة في المدينة وحدها لكثير من الضغوط التي قد تؤدي بها إلى الانحراف، خاصةً إذا عملت في بيوت أو أماكن يمكن أن تحتك فيها بمن يخدعها، فإذا حدث خطأ وفقدت عذريتها وخافت مواجهة أهلها، فكثيرًا ما تدَّعي أنَّها لُبِسَت من جنِّي وأنّه هو من أفقدها عذريَّتها، وآنذاك تهبط درجة غضب أهلها عليها وتتحول من نقمة عليها تجعلها عرضةً للقتل والذبح غسلًا للعار، إلى أنها تصبح مريضة تستحق العطف! ويبدأ أهلها بالانتقال بها من مشعوذ لآخر، بعضهم فيه من الانحراف ما يجعله يعيد اغتصابها ومخالطتها ليؤيِّد قولها بأنها ملبوسة، وأنّه سيقرأ عليها ويخرج الجنيَّ منها. وقد وجدْتُ الظاهرة هذه شائعة في كثير من المناطق الريفية لبلاد المسلمين، نتيجةً لتلك الفرضية الساذجة التي افترضها ذلك الفقيه، وما يزال الناس حتى يومنا هذا يطلبون للخاطآت من بناتهم الطبَّ لدى أمثال أولئك المشعوذين، وهذه أيضًا على خلاف القرآن الكريم. فالقرآن الكريم جعل منا عالمًا مستقلًا نحن البشر، ومن الجن عالمًا مستقلًا، ولكلٍّ مجاله. فالله تعالى يقول: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ” (الحجر).
وانفعال الحمإ المسنون بالنار لا يسمح إطلاقًا بتصور أي اتصال من هذا النوع بين الإنس المخلوق من الحمإ المسنون الذي إذا أصابته النار تصلَّبَ وتحوَّلَ إلى حجر، وإذا ألقِي الحمأ المسنون على نار أطفأها. فليس هناك أي مجال للتداخل بين نوعين من الخلق لا تجمع بينهما علاقة جنسية (بالاصطلاح المنطقي)، فكيف يتصور أن تُلغى طبائع الخلق وتزال الفوارق بين خلق وآخر، بحيث يصبح التداخل بين الاثنين بتلك الطريقة المزعومة وارداً وجائزاً؟! فالله تبارك وتعالى استثنى سبيل الوسوسة سواءً كانوا من الإنس أو من الجن، لا يتجاوزون مجال الوسوسة إلى أي نوع من أنواع التأثير، ولست أدري كيف يستسيغ قاضٍ أو فقيهٌ أو عالمٌ القولَ بناءً على قصص العامّة بهذه الأشكال من التداخل بين الإنس والجنِّ؟ وبعد ما ورد في القرآن من سورة الجن وأمثالها تحددت الفواصل بين العالمين، وبينهما وبين عالم الملائكة. ويُفترض أن يكون هذا الاعتقاد جزءًا بديهيًّا من عقائد المسلمين، فكيف ضاع وجرى تحييده؟ لتملأ عقول المسلمين بالخرافات.