أستاذي العزيز أيها الشيخ الفاضل السلام عليكم ورحمه الله وبركاته عندي سؤال يؤرقني وأتمنى من الله أنا أجد له جواب شافي عندك أنا اعمل في محل تصوير فوتغرافي وأعمل على التصوير وتحسين الصور فهل عمل هذا يدخل في باب التحريم وماصحة الأحاديث التي تحرم التصوير
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إشكالية التصوير إشكالية قديمة وحديثة، وأهل الفتوى فيها ما بين مخفف، ومشدد، والعمل في التصوير يكرهه الكثيرون من أهل الفتيا بإطلاق، وبعضهم يفرق بين التصوير الذي يحتاجه الناس لجوازات السفر والشهادات وما إليها من وثائق ضرورية، وبين التصوير الذي لا تكون له ضرورة، وما هو بمستوى الحاجة، بالنسبة لي درست القرآن المجيد فوجدت فيه أن الله قد سخر لسيدنا سليمان الجن يعملون له ما يشاء:﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ* يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 12-13) وعدّ ذلك نعمة امتن الله عليه بها، ولا يمتن الله على أحد من أنبيائه بأن سخر له من يصنع التماثيل المحرمة لو كانت محرمة، وحين أتينا بالأحاديث الصحيحة الخمسة التي وردت عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بذم التصوير مثل قوله: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، وضممنا هذه الأحاديث إلى بعضها وقرأناها بنور القرآن المجيد، الذي ذكر لنا ما أنعم الله به على سليمان، ومنه تلك التماثيل التي صنعها الجن، أخضعنا ذلك كله للمنهج القرآني النبوي الذي أشارت إليه الرواية الصحيحة التي تقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لعائشة رضي الله عنها يوما: “لولا أن قومك حديثوا عهد بالجاهلية لهَدمت الكعبة وجَعلت لها بابين قال فلما ملك ابن الزبير هدمها وجعل لها بابين” هذا الحديث نبه إلى منهج كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلاحظه ويعمل بمقتضاه ألا وهو عدم فتنة الناس، وإيجاب ما قد يؤدي إلى الفتنة والاضطراب في عقول الناس مما قد يدفعهم إلى رفض الجديد، وإيثار البقاء على ما كان عليه آباؤهم من جاهلية، وأنه قد يتوقف عن تصحيح خطأ بارز ظاهر لا يحتاج إلى دليل مثل حدود الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل، وغير في حدودها من جاء بعدهما، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم تلك الحدود، وأبان الله (جل شأنه) له ذلك لكنه رأى أن أي تغيير في هيئة الكعبة ولو لتصحيح أخطاء حقيقية مثل تلك يتوقف عن إجرائه لئلا يؤدي إلى فتنة الناس، واضطرابهم، فقال مقالته تلك التي يمكن أن نحمل عليها مثل التصوير، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نهى عن التصوير ورغب بالابتعاد عنه بتلك الأحاديث أراد أن يمنع فتنة الشرك في قوم مازالوا حديثي عهد بكفر، وقد كانوا يعبدون صورا وتمثيلا صنعوها بأيديهم وأطلقوا عليها أصناما وتماثيلا وأوثانا ونحو ذلك، فحماية نقاء التوحيد وصفاء الإيمان كانت تقتضي في تلك المرحلة أن تغلق كل منابع استحسان الصور والتماثيل وما إليها، كما أنه مع إشارة القرآن الواضحة في مسألة الرقيق وأن الأصل في الإنسان الحرية، لم يعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحرير الرقيق بشكل ناجز في عصره، ولا تحريم التعدد في الزوجات وما إلى ذلك، كله من أجل أن لا تحدث فتن وهزات لم تكن تلك المجتمعات تطيقها أو تحتملها؛ ولذلك فإننا نرى أن التصوير لا يستحق كل هذا الجدل الذي يثار بين الحين والآخر استدلالا بأحاديث تقطع من سياقها، ويبتعد الناس بها عن سلامة المنهج الذي جاء في حديث الكعبة، بحيث تبدو آية الكتاب الكريم بالامتنان على سليمان، وحديث الكعبة مع أحاديث النهي عن التصوير كلها منسجمة متضافرة في بيان ارتباط ذلك كله بعلل وأسباب، وتاريخ، وظروف اجتماعية، فذلك أفضل وأحسن من استخدام الفتاوى المجزأة وجعل الناس يعيشون في حيرة ما بين التشديد والتخفيف، فالشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في وقته ترخص وقال مقالته المشهورة:
حبست لكم ظلي بهذا *** لأنني يعز على قلبي فراق أحبتي
فإن أكن في الأحيا فجسمي بحبهم *** وإن أكن في الموت ففي الحي صورتي.
أراد بذلك أنه يبيح التصوير الفوتوغرافي لأنه عنده لا يعدو أن يكون حبسا للظل، حينما نهتدي بمنهج قرآني نبوي لدراسة السنن الثابتة الصحيحة بنور القرآن وهدايته فإننا لن نضل ولن نزيغ ولن نحتاج إلى كل تلك التأويلات والفتاوى المتشددة أو المتساهلة، ابتعد فقط عن تصوير المحرمات، مثل أفلام الجنس، وما إليها، وما يمكن أن يحدث آثارًا سلبية في نفوس الناس، أو أذواقهم، وصور ما شئت من ملكوت الله وخلقه، فما أحوج الناس إلى ترقيق الأذواق، وبناء النفس السليمة، والله (جل شأنه) قال عن الحدائق: ﴿.. فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ (النمل:60)، وقال في الأنعام: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ (النحل:6)، والشخصية الإنسانية تتألف من عقل ونفس، والعقل تبنيه التجارب، والنفس تبنيها الفنون والآداب العالية، وفقك الله.