( حديث جئتكم بالذبح) لم أجد من من العلماء من طعن في سند هذا الحديث.. أما متنه فيخضع فهمه للنظر في سبب وروده، ولا يصعب تأويله إذا وضعناه في سياقه التاريخي.. وماذا بقي من حاجة إلى التأويل إذا كان الحديث صحيحا إسنادا ومتنا، وخلا من الشذوذ والعلة القادحة؟ … والله أعلم
الجواب:
لا يخفى عليكم أنَّ علوم الحديث فيها ما يتعلق بالرواية وما يتعلق بالدراية، والقرآن الكريم حين ينص على أنَّ رسول الله رحمة للعالمين بهذا الطريق البلاغي الحصري: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)، ويبين أنَّه على خلق عظيم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم:4)، ويعاتبه أكثر من مرة: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف:6)، ويؤكد ويقول له: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف:103)، ويقول له: ﴿.. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ..﴾ (الشورى:48)، ويقول له بعد ذلك: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:128)، ويقول له: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، ويقول: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق:45)، أبعد كل هذه الآيات وكثير غيرها يقال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول للناس: (جئتكم بالذبح)؟
هذا أمر يحتاج إلى أكثر من مراجعة لكل حلقة من حلقات السند، ولكل حرف فيه؛ لأنَّ القول بأنَّه: (جئتكم بالذبح، وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، هذا كلام من يريد أن يقول: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ذباج جزار، جاء ليقتل الناس، أو يتبعوه.
وهذا يتعارض مع كل هذه الآيات وعشرات غيرها، ولو سمع عمر أو عائشة ــ رضوان الله عليهما ــ من روى هذه الرواية لربما ضربوه؛ تعزيرًا له على الجرأة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى نفي مزاياه وخصائصه التي فضله الله بها على النبيين كافَّة، وعلى المرسلين جميعًا، فاتقوا الله يا من تهزون الأحاديث هزًا، اتقوا الله في رسول الله، وفي هذا الدين، وفي هذه الرسالة، وكيف تعقل أن يأتي داعية رسول نبي كريم على الناس ويقول لهم: (جئت لأذبحكم) ثم ينتظر أن يتبعوه.
هل هناك من داعية يمكن أن يقول لمن يدعوهم جئت لأذبحكم، وهو البشير النذير، والله يقول له: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران:159) ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو جاء بالذبح والرمح والسيف يا رعاك الله هل كان قال لأهل مكة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)؟ وهل بقي طيلة العهد المكي وسنتين من العهد المدني ملتزمًا بقوله (جل شأنه): ﴿.. كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ..﴾ (النساء:77)؟
أين هو الذبح الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يفادي الأسرى، ولو بتعليم الأميين من أصحابه القراءة والكتابة؟ إنَّ لي أملًا ما زال يراودني بأن يتعقل أبنائي وإخواني ويجدوا في مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان ــ يرحمه الله ويرضى عنه ــ بتقديم ظواهر القرآن على الحديث مندوحة عن تقديم أحاديث جلها روي بالمعنى، وأكثرها زكي ووثق رواتها بالسبر.
يقول الإمام أبو حنيفة: لقد علمنا أنَّ الله (عز وجل) إنَّما بعث رسوله رحمة؛ ليجمع به الفرقة، وليزيد الألفة، ولم يبعثه ليفرق الكلمة، ويحرش المسلمين بعضهم على بعض، ويعتب على الذين يقدمون الأحاديث على كتاب الله، إنَّ هناك أحاديث صحت لدينا ونحن نرويها كما سمعناها، فيُعقب أبو حنيفة على قولهم هذا: ويل لهم ما أقل اهتمامهم بأمر عاقبتهم حيث ينتصبون للناس، فيحدثونهم بما قد علموا أنَّ بعضه منسوخ وبعضه معارض لظاهر الكتاب، وهم يعرفون أنَّ العمل بالمنسوخ اليوم ضلالة، فيأخذ به الناس فيضلون … .
ثم قال الإمام ــ يرحمه الله ــ ردًا على من كان يتعلم منه الذي قال له: فما قولك في أناس رووا أنَّ المؤمن إذا زنى خلع الايمان من رأسه كما يخلع القميص، ثم إذا تاب أعاد إليه إيمانه؟ أتشك في قولهم أو تصدّقهم؟ فإن صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج ، وإن شككت في قولهم شككت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وضعت، وإن كذّبت قولهم الذي قالوا كذّبت قول النبي (عليه السلام) فإنهم رووا عن رجال شتى حتى ينتهى به رسول الله (عليه السلام).
فرد أبو حنيفة رحمه الله بقوله: أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء وردّي عليهم تكذيبًا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، إنَّما يكون التكذيب لقول النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقول الرجل أنا مكذب لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما إذا قال أنا مؤمن بكل ما تكلم به النبي غير أنَّ النبي لم يخالف القرآن في شيء، ولم يتكلم بالجور، فإن هذا القول منه هو التصديق بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والتنزيه له عن مخالفة القرآن؛ لأنَّه لو خالف القرآن يكون قد تقول على الله غير الحق، ولا يدعه الله في هذه الحالة حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين، ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة:44-47)، ونبي الله لا يخالف كتاب الله (تعالى) ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله، وهذا الذي رووه خلاف القرآن.[1]
فحذار أن يتهمنا أحد من الذين يهزون الأحاديث هزًا بأنَّنا نرد أحاديث رسول الله، إنَّما نرد روايات هؤلاء، وهي مردودة مرذولة.
هدانا الله وإياك ، ووفقنا وإياك لتقدير رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حق قدره وتعزيره وتوقيره وتنزيهه عما ألحق به خصومه وأعداؤه، وخصوم هذا الدين وأعداؤه.
إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نشهد أنَّه رسول الله، ونشهد أنَّه نبي المرحمة لا الملحمة، وأنَّه جاء الناس بالحياة لا بالموت والذبح، واقرأ إن شئت: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:122).
فلعل الله يمن علي وعليك بطاعته وتحري مرضاته بحب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وتعزيره وتوقيره وتنزيهه عما ألحق به بنو إسرائيل ومن اغتر بهم، وبما نسبوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لينزعوا عنه صفة الخاتمية ويقولوا بمجيئ مشاياهم الدجال وغيره، حفظك الله ورعاك .
ألا ترى أنني كسبت أني جعلتك تقر بنسبية هذا الحديث، وتاريخانيته، إن صح، ولكن ما يزال في النفس شيء، ترى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستضعف في مكة يلقى عليه سلا الجزور، فلا ترفعه عنه إلا ابنته، رضي الله عنها، ترى لو واجه المشركين وصناديدهم بهذا ماذا كنت تظنهم فاعلين، لمن يتوعدهم بالذبح؟
وكان يقول للناس جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وربنا قال: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنبياء:10) أي شرفكم، وكما قال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف:44)، ومع ذلك حاولوا قتله قبل أن يهاجر، وقصة هجرته ومبيت عليّ في فراشه -صلى الله عليه وآله وسلم -لا تخفى عليك، يا رعاك الله على فرض صحة الحديث في تلك المرحلة فإنه ليس من الملائم أن يتداول في أيامنا هذه التي توجه الفضائيات فيها إلى نقد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ووصفه برجل السيف، الذي أباد بني قريظة وما إلى ذلك، لديكم أحاديث كثيرة، تغني عن تداول مثل هذه الأحاديث، فلما يروج لمثلها ولا يترتب عليها أمر ديني، ولا دنيوي، ألا تتفق معي أن على المعنيين بالحديث أن يحسنوا اختيار الأحاديث التي يروونها ويروجونها بين العامة، لئلا تؤدي إلى الإساءة إلى مقام النبوة والرسالة؟
وأما ما يتعلق بتصحيح كل ما في صحيح البخاري فهو أمر أرى أن على أمثالك وأمثال حبيبنا القوفي عبد الحميد أن تشتغلوا على اقتحام هذه العقبة، فالدارقطني كما تعلم استدرك على الإمام البخاري مائة وعشرين حديثا، صحيح إن ابن حجر حاول في تغليق التعليق أن يجيب الدارقطني ويثبت خطأه لكنه لم يفلح في جميع تلك الأحاديث، وأما مسلم فإن عددا من المعنيين بالحديث قد استدركوا ما يقرب من خمسمائة حديث فيه، فالتسليم المطلق بعد بروز كثير من أدوات النقد التي يمكن أن تحدث بمقتضاها مراجعات لكثير من المرويات تحتاج إلى طلاب علم متقين، حافظين يستطيعون أن يراجعوا القواعد التي وضعها الجهابذة -رحمهم الله أجمعين- باعتبارها قمة ما كان النقد قد وصله، وبعد مرور كل هذه القرون نحتاج منكم أنتم المعنيين بالدراسات الحديثية أن تدلوا بدلوكم، وقد تعلمنا من أولئك الرجال كيف يستدرك بعضهم على بعض ويلاحظ بعضهم على بعض دون حرج، فكثير من رجال البخاري لا نجد مسلما يوثقهم وكذلك رجال مسلم ورجال الكتب الأخرى.
كل ما نريده أن لا يعامل الحديث الذي يرويه الرجال باللفظ وبالمعنى معاملة القرآن المجيد المطلق المعصوم بحفظ الله، الذي تولى الله (تبارك وتعالى) بنفسه حفظه وجمعه وقرآنه، وأقرأ رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- آياته حتى جعل من المستحيل أن ينسى -عليه الصلاة والسلام- حرفا منها فبلغها كما تليت عليه، وتلاها وأنقذنا جميعا بها.
وبعد فإنَّ حديثك لي يتلخص في أنَّك ترى الحديث صحيحًا، ولا أشاركك بهذا التصحيح، وسأبيِّن لك ذلك حسب مناهج المحدثين لا مناهج الأصوليين ولا أهل الرأي، والأمر الثاني أنَّك خائف من النقد على احترام الآباء الذين نقلوا لنا الدين. أمَّا القرآن فقد ثبت بالتحدي والإعجاز، والرواية لا فضل لها كبير في كل ما يتعلق بالقرآن المجيد؛ لأنَّ الله (تبارك وتعالى) أعلن عن حفظه بنفسه، وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9)، وكذلك عمليَّة جمعه فإنَّه (جل شأنه )قال: ﴿ثم إن علينا جمعه وقرآنه * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة:17-19)، ولو أنَّ جيل التلقي تخلى عن نقل القرآن جملة لقيض الله له آخرين يتشرفون بحمله ونقله، وإيصاله إلى الأجيال كافَّة: ﴿.. وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد:38)، بل إنَّ الله (تبارك وتعالى) قال لرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ (الإسراء:74) فليس لأحد منَّة على الله (جل شأنه)، ولا فضل يمتن أو يدعيه عليه (تعالى) في أي أمر من هذه الأمور، فالمقامات محفوظة وذلك توفيق من الله (جل شأنه) لأهل ذلك الجيل وتشريفا لهم؛ ولذلك امتدح الله (جل شأنه) السابقين الأولين، ومن إليهم من المهاجرين والأنصار، لا لأنَّهم حملوا القرآن أو نقلوا الأحاديث، بل لأنَّهم استجابوا لله وللرسول، فآمنوا، والخير في محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمته إلى يوم الدين، ﴿كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء:20) ، وتكريم جيل الأولين لا يعني أن نلغي الخير من الأجيال الأخرى، فمن قال لك بأنَّك لو بذلت جهدك، وأفرغت وسعك وأمثالك من خدام الحديث أن لا تأتوا بأمور إضافيَّة في تصحيح أسانيد ومتون، والاستفادة من كل المناهج التي وُجدت لدى الأمَّة سواء أكانت أصولية أو حديثية أو فقهية أو تفسيرية أو ما إليها؛ لكي نثري هذه العلوم، بدلا من أن نعيش عالة على ما تركه المتقدمون، ولكيلا أذهب بعيدًا بك فإليك هذا الحديث الذي صححته بتقليدك إسنادًا ومتنًا حين درسته بعين الناقد ماذا وجدت؟
قد قلت ما لفظه: لم أجد من العلماء من طعن في سند هذا الحديث، ولاحترامي لعلمك وأملي فيك ورغبتي أن تكون أكثر تدقيقًا وتمحيصًا أقول لك: إنَّني درست ما قلته في الحديث وفقًا لمنهج المحدثين لا الأصوليين؛ فوجدت أنَّ هذا الحديث لم يرد إلا في موضعين، قبل أن يردده الآخرون، هما مسند أحمد وجامع ابن حبان، ولم يرو إلا من طريق واحد فقط، تفرد به إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق صاحب المغازي، عن يحيى بن عروة بن الزبير، وإبراهيم بن سعد هذا مدلس معنعن، لا تقبل روايته، وأمَّا إسحاق فقد اختلفوا فيه بين موثق في المغازي فقط وموثق فيما رواه في المغازي وغيرها، ومضعف ومكذب، والذين وثقوا إبراهيم بن عروة لأنَّ إبراهيم هذا مقل لم يوثقوه إلا بالسبر الذي ذكرت لك ما نريده به، وثقة بذلك النسائي وابن حبان، ولم يدركاه، فقد توفي إبراهيم هذا سنة 153هجريًا قبل ولادة أي منهما، أي النسائي وابن حبان، فمن أين حكمت عليه بالصحة، وهذا هو حال الحديث إسنادًا؟ ولما تتكلفون في توجيه الحديث ما تتكلفون من تأويلات بدلًا من أن تقوموا بما كان يقوم به سلف الأمَّة عندما تروى إليهم هذه الأحاديث، فمن أقرب إلى روح السلف منا، أنت وأمثالك، أم شيخك يا رعاك الله؟
كما أرجو أن تقرأ مقدمة شعيب الأرناؤوط والشهيد بشار معروف، لسير أعلام النبلاء، وكذلك التنكيل؛ لتستفيد في هذا الشأن كثيرًا، فكل ما أرجوه منك ومن أمثالك أن لا تعتبروا ما جاء في روايات السابقين ونقدهم وتوثيقهم وتضعيفهم مسلمات إيمانيَّة لا تجوز مراجعتها، بل أريدكم أن تثقوا بالله منزِّل هذا القرآن على قلب محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ليهديه ويهدي الناس كافة به، فتراجعوا تلك الأمور على نور وهدي وبينة منه، وأنَّ لأمثالي أن يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالذبح، والله (تعالى) يعاتبه على رقته وحنوه وعطفه فيقول حين فادى أسرى قريش قال له: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:67)، وحين قال له: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة:80)، قال: “والله لأزيدن على السبعين”، إلى أن نهاه الله (جل شأنه) نهيًا قاطعًا، وحين عرض عليه من عرض قتل شيخ المنافقين قال: لا يتحدث أن محمدا يقتل أصحابه. إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وللعالمين كافَّة هو رحمة، فأين هو الذبح، وأين هو القتل، وأين هي النزعة الدموية؟
لقد ألصقها بنوا إسرائيل به عليه الصلاة والسلام لكي ينفوا معنى خاتميته، ويبقوا الباب مفتوحًا لمسيح يهودي يأتي بعده من اللاويين من بني إسرائيل في عقيدة اليهود وإلى المسيح عيسى ابن مريم في عقيدة النصارى، والله (جل شأنه) نص على أنَّه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأنَّ ما يبقى بعده هو ذلك القرآن الذي إن تمسكنا به لن نضل بعده أبدًا، فلابد أن نقايس كل شيء إليه وبه، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضاه، وآمل أن أقرأ لك في وقت قريب جهودًا في نقد أسانيد ومتون نقدًا لا أريد أن تخرج به عن قواعد المحدثين، ولكن أريد أن تلتزم بها وبتطبيقها كما فعلت بالنسبة لحديث الذبح.
فكل ما يصح من سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يستحيل أن يخالف كتاب الله، وفقنا الله إياكم لما يحبه ويرضاه، ولعل ما ذكرته يجعلك حسن الظن بشيخك، وأنَّه لم يتغير بل فتح الله عليه، ووسع آفاق عقله ورؤيته ليس إلا، تحياتي لك.
[1] العالم والمتعلم، أبو حنيفة.