د. طه جابر العلواني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد.
فالسودان بلد أحببته قبل أن أزوره بسنين، فقد كنت طالبًا في القاهرة منذ سنة 1953م، ولم تكن الملكيّة في مصر أُلغيت بعد، حيث كان ابن فاروق أحمد فؤاد قد نودي به ملكًا لمصر والسودان كما كان أبوه وذلك بعد إقالة أبيه وترحيله، وتابعت –وأنا طالب عربيّ- قادم من بلد ينظر عربه إلى الوَحدة بين أي بلدين عربيين أو مسلمين على أنّها هدف يستحق أن يضحى من أجله بالغالي والنفيس، وهو في قمة قيم المسلم، عربيًا كان أو غير عربي، فوحدة الأمّة مشتقة من التوحيد، والتوحيد هو المقصد القرآني الأول للنبوات كلها وللكتب السماويّة جميعها، فإيجاد الأمّة الواحدة أمر له قدسيته في قلب أي مؤمن وضمير أي موحد. وقد استقر في ذهني ارتباط مصر والسودان وفي عقلي منذ ذلك التاريخ، وكان يعجبني كثيرًا من يقول: “شمال الوادي وجنوب الوادي”، فمصر والسودان يجمعهما وادي النيل، مصر في شماله والسودان في جنوبه.
ثم بدأت خطوات استقلال السودان عن مصر، وكانت هناك مجموعة من التراكمات التي حدثت عبر عقود، خاصّة بعد احتلال الإنجليز للوادي بشماله وجنوبه، فالإنجليز لأهداف يعرفونها كانوا يتخذون من مصر شرطة لهم في السودان، أو جندًا، أو موظفين، يستعينون بهم وهم يمارسون استعمارهم للسودان واستضعافهم لأهله، ويجعلون هؤلاء الجند المصريين والشرطة في الواجهة. بحيث ينظر السوداني البسيط لأخيه المصري على أنّه هو من يحتله أو يحتل بلاده، وهو من يمارس اضطهاده والسيطرة عليه، والتهوين من شأنه، وكان هناك إصرارٌ على البقاء في إطار الوحدة، وحدة وادي النيل لدى العديد من المخلصين من السودانيين والمصريين رغم كل ذلك. وحينما وقعت ثورة يوليو 1952م كان هناك إصرارٌ طيلة فترة رئاسة محمد نجيب -الذي كان يُحبه السودانيون حبًا شديدًا على الاستمرار في وحدة مصر والسودان-. وحين أُقيل نجيب بالطريقة التي أُقيل بها، وتفرد الرئيس ناصر بالسلطة كانت الضحيّة الأولى لذلك “وَحدة الوادي” أي وَحدة مصر والسودان، ويبدو أنّ العسكريين بطبيعتهم حين يحكمون ويدخلون في المجال السياسي يفضلون أن يُحكموا السيطرة التامّة على كيانٍ محدّد، بحيث لا يخرج عن قبضتهم شيء فيه أو منه؛ لأنّ العقليّة العسكريّة لدى “الانقلابيين العرب” لا تعرف إلا مبدأ القيادة والجنديّة، فمن تبوّأ موقع القيادة فلا يرضى من الآخرين إلا أن يكونوا جنودًا فحسب، فلا مجال للشورى إلا إذا كانت تأييدًا ومباركة لما يقوله أو يراه القائد، فالجندي ليس له إلا أن ينفّذ، وإذا كان لديه ما يقوله، فليقله إن شاء بعد التنفيذ. فأُوكل أمر متابعة وحدة وادي النيل إلى “الصاغ صلاح سالم”، وظنّ الصاغ كما ظنّ البكباشي … والفريق … أنَّ السودان عبء، وأنَّ ثورة يولية إذا تخلصت الثورة منه فإنّ ذلك قد يجعلها أقدر على إحكام سيطرتها على الإقليم المصري وحده، والتخلص من عبء الامتداد باتجاه عمقٍ استراتيجيّ خطير. وانفصلت السودان عن مصر. ووقع القدر المقدور، واستقلت السودان ومرّ الأمر بيسرٍ على الشعبين المصري والسوداني، ومن ورائهما سائر العرب والمسلمين وكأنّ شيئـــًا لم يحدث، ولم ينتبه أحد إلى أنّ ذلك سيكون له ما بعده، وسوف يشكّل خطورة كبيرة على مستقبل مصر وعلى مستقبل السودان معًا. ولما تحوّل عبد الناصر إلى وَحْدَويٍّ يدعو إلى الوَحْدة العربيّة، وينادي بالـ”وحدة والحريَّة والاشتراكيَّة” نسيَ أو تناسى أنّ سيادته قد فرّط في وحدة طبيعيّة كانت لها كل مقومات الوحدة مع بلد متصل بمصر ملتصق بها، وليس هناك أي فواصل طبيعية بينه وبينها، يجمع بينه وبين مصر الماء والتراب والدين والثقافة والتاريخ، وسائر الروابط، وهي أضعاف الروابط التي تجمع بين مصر وسوريّة، فأنشأ وحدته مع سوريّة، ولم يُثر أحد في تلك المرحلة سؤالًا لماذا فرّط مَن فرّط في وحدة مصر والسودان ثم يحُث على وحدة أخرى مع قطرٍ مختلف قبل إعادة بناء الروابط بين شمال الوادي وجنوبه، وحين قامت “ثورة الإنقاذ” في السودان كان هناك أمل أن يكون من بين أهداف هذه الثورة إعادة بناء وحدة وادي النيل على أسس إسلاميّة سليمة، وخاصّة أنّ مرشد ثورة الإنقاذ أ.د:حسن الترابي السياسي الإسلاميّ المعروف والإخواني القديم، ذا الثقافة الواسعة الغربيّة والإسلاميّة يدرك أنّ مصير مصر والسودان يتوقف على وحدة الوادي ترابًا ومياهًا وإنسانًا وأهدافًا وسياسةً، وكان المتوقع من ثورة أعلنت انتسابها إلى الاتجاه الإسلامي وتبنيها للإسلام أن تبادر إلى العمل على إعادة توحيد مصر والسودان والعمل على إقناع ليبيا بالانضمام إلى تلك الوحدة، فوحدة كهذه سوف تكون لا في مصلحة البلدان الثلاث وشعوبها فقط بل في مصلحة العرب كلهم والمسلمين كافّة، وكذلك في مصلحة أفريقيا كلها.
وكان من الممكن أن تفتح أمام العقل العربي المجال واسعًا لإقامة وحدة خليجيّة، ووحدة لبلاد الشام والعراق، ووحدة للبلدان المغاربيّة وكان يمكن لتلك الوحدات المحدودة أن توجِد من التنسيق والتضامن والتكافل ما يجنّب سائر هذه البلدان مخاطر الانفصال والتمزّق كتلك التي أدت إلى إنهاء العراق وتمزيقه وتهديد كل جيرانه ومن حوله. لكنّ ثورة الإنقاذ اتخذت لنفسها مسارًا آخر، وظنت أنّها -بدلًا من ذلك- تستطيع أن تبني نموذجًا لدولة إسلاميّة حديثة تقدمه للآخرين ليقتدوا بها. ومن المؤسف أن نراها بعد أن دخلت العقد الثالث من سنين حكمها تسلّم بتقسيم البلد إلى شمال وجنوب، وكان السودان كلّه جنوبًا لوادي النيل ومصر شماله، وبدلًا من الوحدة رأينا تمزقًا، فهذا الجنوب يعلن الرئيس البشير ترحيبه بانفصاله ثم لا يجد من ينكر عليه، أو يقول له: إنّ التسليم بالانفصال مثل الدعوة إليه أو العمل على تحقيقه، وهو في نظر الإسلام خيانة لوحدة الأمّة وجريمة لا تغتفر بقطع النظر عن السياسات والأسباب، ولا أدري كيف سوغت الحركة الإسلاميّة في السودان لنفسها وبأي دليلٍ شرعي تقبلت هذه النتائج حتى أوصلتها إلى هذه النهاية، إنّ أي ثمن يدفعه السودانيون للمحافظة على وحدتهم هو أرخص بكثير من الثمن الذي سيدفعه لهذا الانفصال النكد.
فهذا الانفصال لن تقتصر أضراره على شمال السودان ولا على مصر ولا على العرب ولا على المسلمين، بل سيتعدى ضرره إلى أفريقيا كلها بكل ما تمثل وإلى مستقبل الإسلام فيها، ولو أنّ حكومة الإنقاذ تنازلت عن السلطة أو خسرتها أو حدث لها أي شيء فإنّه أرخص بكثير من ذلك الانفصال النكد، لكنّ شعار آخر خليفة عباسي يبدو لا يزال مسيطرًا على العقل السياسي الإسلامي وغيره، فخليفة بني العباس اللاعب بالطيور والمنشغل فيها كان يقول كلما تقدم التتار خطوة باتجاه بغداد وأخبره الناس بها: كان يقول: “أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها علي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضا يهجمون علي وأنا بها، وهي بيتي ودار مقامي”، ويبدو أنّ زعماء دولة الإنقاذ شعارهم اليوم: الخرطوم تكفيني ولا يستكثرونها عليّ إن أنا تركت لهم الأطراف.
أذكر أنّني حين لقيت بعض المسئولين الإيرانيين على هامش مؤتمر مجمع التقريب في طهران، قلت لهم: لماذا لا تردون الجزر الثلاث طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى إلى الإمارات، وتكسبون العرب والخليجيين إلى جانبكم، ولماذا تصرون على وجوب تسميّة الخليج بـ”الخليج الفارسي”، وتجرمون أيّ صحفيّ أو إعلاميّ يقول: الخليج العربي، وتستنكرون قول من يطلق ويقول الخليج فحسب، فقال لي ذلك المسئول المقرب جدًا لمرشد الثورة وللسلطة: لقد ورثنا الجزر الكبرى الثلاثة عن الشاه ولا نستطيع أن نسوغ أمام شعبنا تنازلنا عنها؛ لأنّه سيقول –آنذاك- إنّنا قبلنا ما رفض الشاه، وفرطنا بالوحدة الترابيّة لبلادنا، وهذا ما لا نسمح لأحد أن يصِمنا به، والخليج عندنا هو خليجٌ فارسيّ كما هو في التسميات القديمة ولن نتنازل عن هذا، قلت له: ولكنّها عصبيّة قوميّة فارسيّة، فأين هي الروح الإسلاميّة التي كنا نفترض أنّكم استبدلتم بها قوميّة الشاه وفارسيّته، ولماذا لا تسمونه بـ”الخليج الإسلاميّ” وتنهوا الموضوع؟ فلم يستسغ قولي، ولكن هكذا كانوا يفكّرون.
أمّا حكومة الإنقاذ!! فقد سلّمت بانفصال الجنوب السوداني بتلك البساطة. والرئيس البشير حاول أن يعوض الشعب المسكين في السودان وفي مصر وفي العالم العربي والإسلامي عن جنوب السودان بما سماه “تطبيق الشريعة”، وكأنّ تطبيق الشريعة رشوة تقدم للتكفير عن التسليم بجريمة الانفصال، ولعل فيها أيضًا تخديرًا لعوام هذه الأمّة وبسطائها، وإذا به يُعلن أنّه إذا انفصل الجنوب “فمع السلامة”، وذلك سيتيح لنا فرصة تطبيق الشريعة “وسنطبـﮓ الشريعة كاملة”، وحين طبق نميري الشريعة ولحق به صدام بعد ذلك كنت أعتبر أنّ إعلان الحاكم عن تطبيق الشريعة هو دليل على إفلاسه السياسي، فهو بعد أن يفلس سياسيًا ولا يبقى لديه ما يفعله، وتفشل سياساته، ويقود بلاده نحو الهلكة فإنّه يعلن عن تطبيق الشريعة، ويقصد هؤلاء بالشريعة الإسلاميّة حين يعلنون عن تطبيقها العقوبات أو النظام العقابي في الفقه الإسلاميّ مثل قطع يد السارق، ورجم الزاني وما إلى ذلك.
وأُقسم غير حانث أنّ كل هؤلاء الذين دعوا إلى تطبيق الشريعة من الحكّام في الباكستان والسودان والعراق ونيجيريا وغيرها ما فعلوها إلا ليُداروا فسادهم ويغطوا على انحرافاتهم، ويُحكموا قبضتهم على الناس باسم الشريعة وباسم الدين، فعلها نميري وفعلها صدام وفعلها آخرون، وها هو السيد البشير بعد أن حلف بالطلاق والعتاق وجميع الإيمان المغلظة أنّه لن يتنازل عن أي حكمٍ من أحكام الشريعة تنازل عنها لإرضاء الجنوبيين وقام بالتجميد، وها هو يعلن التمسك بها مرة أخرى، ويذكرنا بما قال أبو الطيب المتنبي عن جهلنا حين قال:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم *** يا أمّةً ضحكت من جهلها الأمم
كنا نتمنى على البشير والإنقاذيين ومن حولهم أن يدرسوا تاريخ بلادهم جيدًا وتاريخ المنطقة من عصر الفراعنة حتى يومنا هذا، فإنّ السودان دائمًا كانت عمقًا استراتيجيًا لمصر، ومصر عمق استراتيجي للسودان، ومن فرط بوحدة الوادي فإنّه يهون عليه تسليم البلاد:
ومن أخذ البلاد بغير حربٍ *** يهون عليه تسليم البلاد
ويبدو أنَّ كرسيّ الحكم في بلداننا عديمة الشورى والديموقراطية والبعيدة عن كل ما يتعلّق بتداول السلطة إذا ما جلس عليه جالس فإنّه يصبح عنده أغلى من أي شيء، من الدين، ومن الوطن، ومن الدنيا، ومن الآخرة. وليت البشير ومَن حوله أدركوا أنّ أهم شيءٍ في الشريعة “وَحدة الأُمَّة” وأنَّ أيَّ نيلٍ من هذه الوَحدة يعتبر نيلاً من العقيدة ومن التوحيد، وأنَّ الأرض بعد أن تصبح جزءًا من دار الإسلام لا ينبغي لأحدٍ أن يفرّط بشبرٍ منها دون رضا وتشاور مع المسلمين كافة، فالأمر لا يتعلق بإقليم منفرد بل بأمّة كاملة. ولن يغني عن الشعب الذي يفرّطون بوحدته ويحوّلونه إلى مجموعة من المزق، ويحوّلون أرضه إلى مقاطعات ممزقة منفصلة رجم الزاني أو قطع يد السارق لا عند الله ولا عند الناس.
ونحن نرى ونشهد في كل لحظة جريمة التسليم وكيف تتم بسلاسة، وبتدخل أجنبي مباشر لم يستطع أن يستفز من طاقات الأمّة المهدَرة ولو مجموعة متظاهرين في الخرطوم أو في جوبا أو في غيرهما من حواضر العالم الإسلامي ليقول: لا للانفصال.
وإذا كنت أقولها اليوم فوالله ما قلتها إلا لوجه الله، ورغبة فيما عنده، ولئلا يجعل الله منا أمّة من القردة والخنازير ساكتة عن الحق خرساء عمياء عنه.
وأود أن أقول: إنّ هذه النتيجة لم تكن بعيدة عن ذهني منذ التسعينات، وأذكر لقاء جمعني “بمرشد الثورة السودانيّة” السيد حسن الترابي في منزل نائبه السيد إبراهيم السنوسي الذي زرته معزيًا بولده الشهيد، الذي استشهد في جنوب السودان، وكان قادة ثورة الإنقاذ جميعًا في ذلك العزاء يتقدمهم البشير، قلت لأخي الترابي وقد عهدته صاحب فكر: يا أخ حسن إنّ القتال لن يعالج مشكلة الجنوب، وأنّ هؤلاء الشهداء الذين يُقتلون في الجنوب من أبناء الشمال، وتُضفون عليهم صفات شهداء الصحابة، ويروج خطباؤكم على المنابر لمنامات مفتعلة: “فهذا غِسّيل الملائكة” “وذاك رؤي في المنام فسئل عن الصحة والأحوال فقال كذا وكذا وكذا” كما فعل عبد الله عزّام -يرحمه الله- مع شهداء الأفغان في كتابه الشهير “آيات الرحمن في جهاد الأفغان” وكان فيما ادّعاه -يرحمه الله- أنّ الأذان كان يُسمَع من بعض القبور متجاهلاً أنَّ الشهيد قد خرج من دار التكليف إلى دار التشريف. وأضفت: يا أخي يا دكتور حسن إنّ هذه الأمور أخشى أن تنقلب عليكم في المستقبل فإنّكم لن تستطيعوا استئصال ثورة الجنوب، كما فشل العراقيّون في القضاء على ثورات الأكراد في شمال العراق وبقيت الثورة الكرديّة وسيلة لتأديب الحكومات العراقيّة المتعاقبة، فكلما غضب الغرب من حكومة عراقيّة جلدها بسوط الحركة الكرديّة حتى تستجيب لمطالبه، فتهدأ الحركة وتوقّع هدنة حتى خلاف آخر بين الغرب والحكومة العراقيّة، وهكذا قضية الجنوب بالنسبة لكم، فابذل كل جهدك لمعالجة الأمور سلميّـــًا، وإلا فإنّ هذا التحريض على الجهاد سوف يجعل الناس بعد غد حينما توقفون القتال وتذهبون إلى طاولة المفاوضات يحقدون عليك وعلى الحركة الإسلاميّة، ويعتبرونكم قد غرّرتم بهم وقتلتم أبنائهم ثم جلستم تتفاوضون مع قاتليهم.
ولا أنسى يومًا حاول صديق لي أن يجمعني مع العميد الركن عبد العزيز العقيلي -رحمه الله-، وحينما وافقت وذهبت مع ذلك الصديق لزيارة العقيلي ومددت يدي لمصافحته ابتسم العقيلي ابتسامة خاصّة وقال: “أريد أن أتأكد أنّ آثار مصافحتك للبارزاني قد زالت من يدك؛ لأسلم عليك، فقد بلغني أنّك التقيت بإدريس البارزاني ورحبت به ويداه وأيدي أبيه وأهله ملوثة بدماء إخوانك الضباط والعسكريين من الجيش العراقي، فقلت له: ربما تجدني أحمل نفس المشاعر لأنّ يديك أيضًا قد صافحت آيادي كثيرة ملوثة بدماء أبرياء الأكراد من نساء وأطفال ومدنيين لا علاقة لهم بالقتال، وجلسنا ولم نستطع التفاهم، ذكرت ذلك للترابي، ولكنّ الترابي كان في وادي آخر، فهو مرشد الثورة وكان ينظر إلى الخرطوم وكأنّها المدينة المنورة في عهد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- وربما ذهب به خياله إلى نواحي أخرى، ليجد الدولة الإسلاميّة وعاصمتها الخرطوم قد امتدت لتشمل أسيا وأفريقيا وجنوب شرق أسيا وما شاء الله أن تشمل.
قلت في نفسي ما دمت قد فجرت الأمور مع الشيخ فلأذهب بها إلى مداها وليغضب الشيخ، فأنا لن أعود إلى السودان بعد ذلك حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، فقلت له: بلغني يا أبا صدّيق -وهي كنيته التي أحب مناداته بها- أنّك تعتزم استيراد مليون صيني؛ ليزرعوا لك الجزيرة في السودان، فهل هذا الخبر صحيح؟ قال: نعم، قلت: وماذا عن جيرانك وإخوانك المصريين، أليس الأولى أن تأتي بمليون مصري؛ ليزرعوا ويمتلكوا أرضًا هي أرضهم أيضًا كما هي أرضكم، بدلًا من ذهابك إلى الصين، مع اختلاف الثقافة والدين والجذور واللغة وكل شيء، وهل درست الآثار الثقافيّة والدينيّة؟ قال: درسنا كل شيء وأريد شعبًا يستطيع أن يتحدى السودانيين، ويخرجهم من دوائر الكسل التي يعيشون فيها، وما وجدت غير الصينيين في ذهني وسنبدأ بالخطوات العمليّة، وربما نأتي بعشرة آلاف أولًا للتجربة ثم نواصل، قلت له يا أبا صدّيق: من الواضح أنّ لديك عقدة من المصريين قد تعود إلى عهد الاحتلال الإنجليزي للوادي جنوبًا وشمالًا، فأنتم تنظرون للمصريين هذه النظرة وبعضهم ينظرون إليكم أيضًا نظرة قد لا تقل عن هذه، فأنت في نظرهم بعمامتك هذه “عم عثمان النوبي” الذي لا يصلح إلا أن يكون بواب عمارة أو سايس جراﭺ. وقد يكون من المفيد لكم ولهم أن يكون هناك مصحات نفسيّة كبيرة تتسع لشعوب البلدين، وذلك بأن يوضع كلٌ من الشعبين في مصح خاص؛ لعمل نوع من إعادة التأهيل والمراجعة النفسيّة، قلتها متضاحكًا ثم عرفت ألّا فائدة من مواصلة الكلام فسكت، لكن الدكتور الترابي لم يسكت بل دعى بعض حوارييه وقال لهم: إنّ الدكتور طه يعيش في أمريكا، وقد بعد العهد بينه وبين المنطقة فخذوه غدًا إلى الجبهة؛ ليرى الجهاد والمجاهدين بنفسه، وأعيدوه إلى الخرطوم بعد أسبوع، فإنّ ذلك كفيل بأن يغيّر نظرته وكثيرًا من آرائه، فقلت له: لقد رأيت في شمال العراق ما يكفي ولا أريد أن أرى في جنوب السودان مآسي مماثلة، وأسافر غدًا أو بعد غد عائدًا إلى أمريكا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.كانوا يسمون ليالي العزاء في الشهداء بليالي أعراس الشهداء، فلا يقولون: إنّنا ذاهبون لنعزي بفلان بل لنشهد عرس الشهيد فلان.
إنّ أي تفكك أو انفصال أو تمزيق لأي بلد موحد ينبغي أن يعتبر جريمة وخطًا أحمر لا ينبغي الاقتراب منه، إذ يكفينا التمزيق الذي حدث على يدي “سايكس بيكو”، اللهمّ إني أبرأ إليك من جرائم التمزيق في العراق، والتفريق القومي والطائفي، وأبرأ إليك من جريمة الانفصال في السودان، ومحاولات الانفصال في اليمن وفي غيرها، وإنّني لأرجو كل موحد لله مؤمن برسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- وكتاب الله القائل: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران:103) أن ينضمّ إليّ في استنكار التمزيق العرقي والطائفي، والتفريق بين عباد الله. إنّ الاستبداد لا يأتي بخير أيًا كان مصدره ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق:6- 7) فما ضر عمر البشير والإنقاذيين لو أقاموا الشورى وأنصفوا الجنوب “جنوب السودان” وشماله، وأقاموا العدل وضربوا للبشريّة المثل في عدل الإسلام وحرصه على الحريات وحساسيته للظلم، وذكّروا الناس بعمر –رضي الله عنه- الذي كان يقول: “لو أنّ جملًا على شط الفرات زلق فهلك ضياعًا، لخشيت أن يسأل عنه عمر لما لم يعبّد له الطريق”. ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا وهيئ لهذه الأمّة أمر رُشد يعز به أهل طاعتك ويذل به أهل معصيتك، وتعلو فيه كلمتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر إنّك على ذلك قدير.