د.طه جابر العلواني
أولاً أودّ أن أشير إلى أنَّ الإنسان كما يحتاج إلى مَنْ يُحبه، ويضفي عليه سامي عواطفه، وجميل مشاعره، هو في حاجةٍ إلى مَن يبغضه ويصبّ عليه جام غضبه وشديد بغضه، وسائر المشاعر السلبيَّة لديه، وينسبه إلى كل الرذائل، وينسب كل الرذائل إليه؛ ولذلك فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أمرنا أن نتّخذ الشيطان عدوًّا نصبّ عليه غضبنا، وسائر المشاعر السلبيّة لدينا؛ لأنَّه أصل كل منقصة، ومصدر كل رذيلة، فهو مَنْ يأمرنا بالسوء ويحرّضنا عليه ويدعونا للوقوع فيه. ومَنْ لم يتّخذ الشيطان عدوًّا فلابد له من عدوٍّ آخر، وهذا العدو الآخر قد يكون ممّن لا يستحق عداوته، ولا ينبغي له أن يُفرغ مشاعره السلبيّة عليه، ولكن تلك طبيعة الإنسان.
ومن أوسع أودية الباطل والخصومات بين الناس «الغلو»؛ والغلو أن يبالغ الإنسان في شيء ويغلو به، فإذا بلغ الإنسان في شيءٍ مستوى المغالاة فإنَّه يرمي كل مَنْ أنكر عليه أو حاول ردّه إلى الاعتدال، أو دعاه إلى الرجوع إلى الحق «اتخذه عدوًّا»، وإذا فشى هذا النوع من الغلو وانتشر في أُمَّةٍ فإنَّه يسوقها نحو الهلاك. إنَّ المغالي لا يطيق سماع كلمة الاعتدال أو الحق أو الوسط، إنَّه يُسمع نفسه ما تريد فيمَنْ يحب، ويُسمع نفسه ما تريد فيمَنْ يبغض، ويرفض الإنصات إلى أيّ أحدٍ آخر، والمعتدلون قد يجدون في جرأة أهل الغلو وسلاطة ألسنتهم وإقدامهم على تجريح مخالفيهم ما يدعوه إلى الانكماش والانطواء، ويُثبّطه عن الإنكار؛ وآنذاك يخلو الجو للشيطان ليلعب في عقل ذلك المغالي وقلبه ونفسه، ويسوقه نحو الهلاك ونحو تدمير مقوّمات الاعتدال والوسط في مجتمعه وفي أُمَّته.
والمسلمون والمسيحيّون في العراق وفي الشام وفي مصر والسودان والبلدان المغاربيَّة وغيرها عاشوا مع المسلمين جنبًا إلى جنب، ولقد اختبر المسلمون في منطقتنا وزلزلوا زلزالاً شديدًا أثناء حروب الفرنجة التي استمرت مئتي عام، ومع أنَّ الفرنجة قد سمّوا تلك الحروب بالحروب الصليبيَّة؛ طمعًا في كسب نصارى المنطقة، وتحويلهم إلى طابورٍ خامس -كما يُقال- لكنّهم لم يفلحوا ووجدوا من نصارى المنطقة رفضًا، بل زادهم ذلك التصاقًا بالمسلمين جيرانهم وإخوانهم، وقاتل كثيرون مع المسلمين أولئك الغزاة الذين جاءوا ليحتلوا البلاد ويسبوا العباد ويسيطروا على القدس وما جاورها من أرضٍ بارك الله حولها. والمسلمون عرفوا لجيرانهم ذلك الحق، واعتزوا به، ولم ينظروا للمنتمين إلى هذه الديار إلا نظرة إخاء ومودة، فبادلوهم صداقة بصداقة، وولاء بولاء، ووفاء بوفاء. وقد استمرت الوحدة قائمة رغم تلك الأعاصير وذلك التحدي الكبير. وحين حدث الاستعمار، وانتُهكت ديار المسلمين، وحاول المستعمرون أن يجدوا ثغراتٍ -مثل ثغرة اختلاف الدين- لينفذوا منها، لم يجدوا إلا عددًا قليلاً وفي بلدانٍ معيّنة، ليس منها مصر ولا بلاد الشام، ومع ذلك فقد كانت هناك أدبيّات تظهر بين الحين والآخر في ظروفٍ تاريخيّة معيّنة يغلب أن تكون ظروف حروب وتوتر واختلاف وغزوٍ خارجي، تظهر أدبيّات لا تخلو من ثقافة كراهية، تعمل على زرع الحظر والخوف، بحيث يبدأ الأخ في الحذر من أخيه والشك فيه، وتبدأ الروابط التي كانت وثيقة ف الانهيار والتآكل؛ لتفسح مكانها لأنواعٍ من البغضاء وانعدام الثقة ومشاعر الشك، لتحقق للشيطان وأعوانه أهدافهم في تفكيك الروابط وإغراء بعض الناس في البعض. ففي مرحلةٍ من المراحل كتب الشيخ ابن تيميّة -يرحمه الله- كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم»، وكتب بعض الناس كتاب «الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب»، وكتب ثالث «النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار»، وقد عُنيتُ في فترةٍ زمنيّة معيّنة بتتبع هذا النوع من الكتابات، فوجدتها كتاباتٍ وأدبيّاتٍ تصدر عن كتّاب من مختلف الطوائف داخل الكيان الاجتماعي الواحد؛ لتحذير طائفة من الطوائف الأخرى، أو بذر بذور الشك وإيجاد أزمة ثقة بين مكوّنات كيانٍ واحد؛ ولذلك فقد اعتبرت تلك الكتب والدراسات -سواء صدرت عن علماء مسلمين أو كتّاب من النصارى أو غيرهم- أنّها أدبيّات مرحلة معيّنة أملتها ظروفٌ جعلت كل طائفة تحاول أن تحيط نفسها بحاجز نفسي يفصل بينها وبين طوائف المواطنين الأخرى، وأنَّ هذه الأدبيّات حين تُقرأ خارج سياقها الزمنيّ والتاريخيّ فإنّها تؤدي إلى إيجاد ثقافة غلوٍّ ورفض الفئات الغالية بما يسوّغ لها غلوّها فيما هي عليه، وربما يسوّغ لها أن تضطهد الطوائف الأخرى وتجور عليها إذا كانت في موضع القدرة، وذلك كفيلٌ بتفكيك الكيانات، وتدمير الدول، وإعانة الشيطان على الإنسان بدفعه إلى الفتنة والدخول في مجالات الاحتراب.
إنَّه ما من بلدٍ من بلداننا العربيّة والإسلاميّة إلا وفيه أقليّاتٌ دينيّة أو مذهبيّة أو عِرقيّة أو سواها، يجمع الجميع في هذه الحالة “كلكم لآدم، وآدم من تراب”، و”لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”، فتصبح الأمّة مطالبة بإيجاد ثقافةٍ تثقّف أجيالها بها من رياض الأطفال إلى أعلى المستويات، تقوم على مبدأ “كلكم لآدم وآدم من تراب”، وعلى مبدأ “يا أيها الناس…”، ومبدأ “ادخلوا في السلم كافة”، ومبدأ “دعوا العصبيات فإنّها منتنة”، ثقافة تستطيع -بما تشتمل عليه من مكوّنات- أن تُخرج الناس من ظلمات الغلوّ والتعصُّب إلى نور الاعتدال والتآخي، ثقافة تنظر للإنسان على أنّه كفؤٌ لأيّ إنسان آخر في الإنسانيّة والآدميّة، وأنّه لا يقلل من قيمة الإنسان إلا انحرافاته الأخلاقيّة والسلوكيّة، وطرائق تعامله مع الآخرين ونظرته إليهم، واستعلاؤه عليهم واستبداده بشأنهم، فإذا لم يكن على هذه الصورة فاختلافاتنا الأخرى معه -في اللغة أو العرق أو المذهب أو الدين- اختلافات تنوّع لا تضاد، تقتضي مزيدًا من الفهم من كلٍ لسواه، ومزيدًا من الوعي، ومزيدًا من التقوى والبر.
إنّ منطقتنا العربيّة بالذات تواجه تحديًا في غاية الخطورة، وهو تحدٍ يحتاج إلى طاقات الأُمَّة كلها ووعي الأُمَّة جميعها بما يُدبّر ويُحاك ويُهيأ لها، فهناك كيانٌ غريب تم زرعه في هذه المنطقة كرهًا، فحُمِل كرهًا ووُلِد كرهًا وعاش كرهًا، هذا الكيان قد وُلِد ولادةً قيصرية شائهة، وُلِد وهو يعتقد أنَّ أمنه وسلامته، بل وحياته ووجوده، لا يمكن تحققها، أو حمايتها بعد تحققها، إلا بتفريق مَنْ حوله وتمزيقهم، وإثارة الفتن بينهم، وإيجاد الفوضى بأنواعها، خاصةً تلك التي يُسمّيها بـ«الخلّاقة»، فتلك كلها بالنسبة له أمورٌ لابد منها لكي يستطيع أن يحيا حياةً تستجيب لطموحاته وتلبّي له احتياجاته، فإن لم يعِ الجيران المحيطون بهذا الكيان لهذه الحقيقة فسوف يُصدّر إليهم -بأخبث الوسائل وأخطر الأساليب- المشكلة تلو الأخرى، مستغلاً أجواء التوتر، مسخّرًا الغلو والأحقاد والغفلة عن الشياطين لينفث سمومه تحت شعارات مختلفة وبأسماء مختلفة. إنّ كياناتنا الاجتماعيّة هذه أحوج ما تكون إلى تحصين جبهاتها الداخليّة، وحمايتها من أي اختراق خارجي مهما يكن، والمخترِق هذه المرة شيطانٌ إنسيّ، يتعاون مع شيطان آخر ليفسد كل شيء، فهم يسعون في الأرض فسادًا، لا يرقبون في أحدٍ إلًّا ولا ذمّة، لم يتـركوا لنا وطنًا واحدًا آمنًا مستقرًّا، يسعون لتدمير الجميع، ولا يمكن مواجهة هذا الخطر إلا بإعادة بناء كياناتنا الاجتماعيّة وتعزيز وحدتِها، وتحصين جبهاتها كلها، والحيلولة دون أيّة عمليّة اختراق يريد هؤلاء القيام بها واستثمارها.
إنَّ ما حدث للكنائس العراقيّة، وما حدث في الاسكندريّة، وما قد يحدث في أي بلدٍ آخر صادرٌ عن مصدرٍ واحد، هو صاحب المصلحة في كل ما حدث وما قد يحدث؛ ولذلك ينبغي أن توجّه جميع المشاعر السلبيّة نحو ذلك المصدر الحقيقيّ.
إنَّ الهياج لن ينفع في معالجة هذه الأحوال، فالهياج يحوّل الأمر إلى نوعٍ من مصارعة الثيران، فالثور قويٌّ ولا شك، وهو أقوى من المصارع دون ريب، ولكنّ المصارع -بحكم إتقانه لمصارعة الثيران وخبرته وتجاربه- يجعل الثور بعد أن يُهيّجه ويتجه نحو الخرق التي يفردها أمامه، وهي خرقٌ لا قيمة لها، ولا يستطيع الثور أن ينتقم من المصارع بنطح تلك الخرق التي ينشرها، والمصارع -في النهاية- سوف يجعل قوى الثور تخور، ويوصّله إلى مستوى الانهيار، ثم يجهز عليه ويعلن انتصاره، مع أنّ الثور -من حيث القوة الجسديّة- أقوى بكثير من ذلك المصارع، فلو استطعنا -في ظروف المحن كتلك- أن نوجّه الهياج والغضب باتجاه مَن يستحقه، وباتجاه مَن دبّر الفتنة وأثارها -لا باتجاه الخِرَق التي يفردها في وجه الثور لينطحها- لاستطعنا أن نوقف هذه المحاولات، ونحرم هؤلاء الأعداء والخصوم من أن يسجّلوا علينا أي انتصار لا يستحقونه. إنَّ المستفيد من تدمير الروابط بين المسلمين والنصارى في بلادنا العربية هو الكيان الطارئ، المزروع كرهًا، والموجود كرهًا، فلا ينبغي أن نخسر عدّة مرات؛ فنخسر وحدتنا ونخسر في عمليّة الاهتداء إلى مثيري الفتنة ومدبري المشكلات لكياناتنا العربيّة المسلمة.
إنّ التوقيت الذي اختاره الشياطين المدبرون للاعتداء على الكنيسة في الاسكندرية توقيت في غاية الخطورة، وفيه رسالة كامنة لا بدّ أن نحسن قرائتها، فالتوقيت يجري قبل استفتاء جنوب السودان على الانفصال بأيام قلائل والطبول تدق لتحقيق انفصال لن يكون في مصلحة أحد لا في السودان ولا في خارجه؛ إلا ذلك الكيان المزروع كرهًا، وكأنّه يقول لأتباع الكنيسة المصريّة القبطيّة الذين اتخذت قيادتهم من ذلك الكيان موقفًا مشرفًا يريد أن يقول لهم: انظروا إلى ما يحدث في السودان وإنّكم مهما فعلتم قد تجدون أنفسكم مقتنعين بأنّ هؤلاء المسلمين لا يمكن التعايش معهم، وأن الانفصال عنهم والبعد عنهم غنيمة وحلّ لهذا النوع من المشكلات، فاستوعبوا الدرس وخذوا الأمر من بدايته لتتجنّبوا مزيدًا من الخسائر. فهي لحظة تاريخيّة خطيرة أراد هؤلاء الشياطين أن يوجّهوا فيها هذه الرسالة.
إنّ جميع أبناء مصر ومؤسساتها الدينيّة والمدنيّة مطالبة برفع درجة الوعي في هذه اللحظات التاريخيّة وتحصين الجبهة الداخليّة وتدعيم الوحدة الوطنيّة بكل وسائل التدعيم والتحصين للحيلولة دون هؤلاء الشياطين واختراق هذه الجبهة.
تعازينا إلى ذوي الضحايا في بغداد والموصل والإسكندرية وغيرها. سائلين العليّ القدير أن يُجنّب مصر العزيزة وسائر بلاد المسلمين وسائر البلاد العربيّة الفتنَ والمحنَ وعوامل التمزّق، إنّه سميعٌ مجيب.