طه جابر العلواني
لستُ معلقًا رياضيًّا ولا واحد من قضاة الرياضة وحكَّامها، لكنني مجرد مواطن آتاه الله شيئًا من الفهم والفقه يرى أن الأمانة تقتضي أن يقول ما فهمه أو فقهه لقومه ولأمته، فإن كان خطأ صوَّبوه، وإن كان صوابًا فليأخذ به من شاء. لقد عرفت الإنسانية منذ فجر تاريخها الفرق بين الجد واللعب، وأظهرت هذا الفرق في أعرافها وعاداتها وتقاليدها وثقافاتها، وعبَّرت عنه في لغاتها، فيقول لك: هذا جد وهذا لعب، هذا لهو وسخرية وذلك حق ثابت. كما عرفت البشرية رياضات، فإن الحياة لو خلت من ساعات لهو ولعب فإنها تبدو جافة مملة لا يلبث الإنسان فيها إلا قليلا فيصيبه الملل والسأم، ويُعرض عن الجد نفسه، ويرى الحياة كأنها مجرد كرٍّ للجديدين -الليل والنهار- وتكرار ممل لهما، وأن اليوم مثل الأمس وأن الغد مثلهما لن يختلف عنهما، ولذلك فقد رأت الأمم منذ تاريخ سحيق أن تكون لها أوقات لهو ولعب، وأوقات تخلط فيها الجد بالهزل، وأوقات جادة، والذي ينظر في ثقافات الأمم يجد مصداق ذلك، والأمم الذكية تربط أحيانًا بين ألعابها ورياضاتها وبين أمور مفيدة لها، فتجعل من رياضاتها -إذا كانت في نحو الهند والمناطق التي تكثر بها الفيلة- الاستمتاع بحركات الفيلة المدربة والركوب عليها وربط أنواع من الألعاب يقوم الراكب على ظهر الفيل بها، وهي أمور يمكن الاستفادة بها في القوة البدنية وفي الحروب كذلك، واستعملت الخيل والإبل والحمير والبغال في ذلك، واستخدمت الطيور المدربة والجوارح من صقور وشواهين وما إليها، واستخدمت الطاقات الإنسانية، وكيف يدرب الإنسان نفسه ويقوي عضلاته بحيث يكون قادرًا على التغلب على أسد أو نمر أو ثور هائج أو ما إلى ذلك.
وقد حاولت الحداثة أن تُلطِّف من ذلك، فأوجدت بدائل عن رياضات قديمة منها السباقات المختلفة في الركض وفي السباحة وعلى حيوانات ومن غيرها، ثم التسلق لجبال ولأشجار وصخور وما إلى ذلك،. ثم دخلت في لعبة الكرة فتفننت فيها لتكون الكرة الطائرة وكرة السلة وكرة القدم وكرة الماء والكرة التي تستخدم في ساحات الجليد والتزلج وراءها والتنس وما إلى ذلك. بعض هذه الألعاب طورتها أوروبا لتكون فيها بعض المخاطر، وذلك للتدريب على الصلابة من ناحية ولإمتاع المشاهدين والمتفرجين الذين تتغير أذواقهم من حين لآخر، فما يمتعهم اليوم ويشد انتباههم قد يشعرون بالحاجة إلى تغييره غدًا أو إضافة شيء إليه يدفع الملل والسأم. وقد أخذت كرة القدم في السنوات الأخيرة شعبية عالية، وتأسست لها النوادي في مختلف أنحاء العالم، ومن الشعوب التي عرفت بها وبالعناية بنواديها في فترة سابقة من هذا العصر الشعب البريطاني. والإنسان الذي ألف العناية بالتركيب والمركبات، وقد يُثير عنده الغموض شيئًا من المتعة ابتكر مع أنواع الرياضات المختلفة فكرة المراهنات من المتفرجين على الألعاب واللاعبين ليشبعوا رغبة أو رغبات أخر، فلا تكون متعتهم ساذجة بسيطة، بل يكون فيها نوع من سباق آخر يمارسه المتفرج إضافة إلى فرجته وهو سباق المراهنات، فيراهن على هذا الفريق أو ذاك، وتلك المراهنة تشعره أحيانا بأنه لم يعد مجرد متفرج بل هو شريك لاعب ومتفرج في الوقت نفسه، فيمنحه ذلك شيئًا من الإشباع. وقد كانت الرياضات حتى بداية القرن الماضي تستهدف هدفًا أساسًا هو المتعة؛ متعة اللاعبين في ممارستهم ومتعة المتفرجين وتزجية شيء من الوقت في أمر لا يخلو من متعة ولا يخلو من فائدة بدنية للاعب وللمتفرج، وقد يضيف البعض إلى فوائدها فائدة أخرى هي توثيق العلاقة بين الشعوب من خلال الدخول في منافسات سلمية تتيح الفرصة لتلك الشعوب للتعارف والتآلف، وتنفس عن الرغبات المكبوتة في الغلبة، والانتصار بشكل سلمي لا دماء فيه ولا عداوات ولا بغضاء، يُهنئ الخاسرُ فيها الفائزَ لأن الأصل فيها هو التدرب وملاحظة فن اللعب أو اللعب بفن ومهارة، وهذا الخاسر مادام قد أتقن وأحسن اللعب فهو مرشح لأن يكون غالبًا في دورة أخرى، فلا مرارة ولا أحقاد.
هذا لا يعني أن صفحات الرياضات قد صارت عبر تاريخ البشرية رخاء هكذا، لا سلبية فيها، فإن في الشعوب المتحضر والأقل تحضرًا، والمثقف والأقل ثقافة، وفيها الشعوب التي تمتلك قيمًا، وشعوب قد تكون أقرب إلى المرحلة الأحيائية، وذلك أمر معروف تاريخيًّا. والشعوب المتخلفة التي تنظر إلى العنف على أنه قيمة من القيم العليا، وترى فيه حلا لمنازعاتها واختلافاتها، قد تحول حفلات اللعب والرياضة إلى حروب وصراعات، وتجعل من الساحات الرياضية ساحات لنـزف الدماء والتعبير عن العنف وإثارة البغضاء والشحناء، فعلت ذلك روما حين كانت تلقي بالمصارعين الأشداء إلى زبى الأسود الجائعة ليصارعوها، وغالبًا ما تكون الغلبة لتلك الحيوانات المفترسة ويجد المصارع الإنسان نفسه تحت أقدامها ممزقًا بمخالبها وأنيابها، وقد يهوِّن أولئك المتفرجون على أنفسهم مناظر الدماء والأشلاء بأن ذلك المصارع -الذي خُيِّر بين أن يصرع الأسد فينجو من عقوبة الموت أو يصرعه الأسد فيموت ميتة مشرفة بين أنيابه ومخالبه- هو ميت في سائر الأحوال وحالة ميؤوس منها، والعرب في جاهليتهم مارسوا سباق الخف والحافر، وذات مرة أطلقت قبيلتا (عبس) و(ذبيان) فرسين وهما داحس -وهي فرس لقيس بن زهير من قبيلة عبس- والغبراء -وهي فرس لحذيفة بن بدر من قبيلة ذبيان- وفي السباق الذي تم بينهما سبقت داحس، فأطلق أحدهم سهمه عليها حنقًا وغضبًا وانتقامًا منها لسبقها ناقة قومه، فأطلق الآخرون سهامهم على الغبراء، واقتتل الحيَّان لمدة أربعين سنة، وما حدث في روما وبعض المناطق الأخرى من الأرض وبين عرب الجاهلية دليل على استعداد الإنسان للانحراف بأي شيء، وتحويل اللعب إلى جد والجد إلى لعب، وإيجاد أسباب النـزاع والعنف وما إلى ذلك. ويبدو أن العرب في وضعهم الحالي قد اضطربت عندهم المقاييس واختلت الموازين، وتراجع الفكر وأُلغي العقل، وصار كل شيء في غير موضعه، وغيرت اللغة وتدهورت المفاهيم، فبعد أن كانت صفة البطولة لا تُطلق إلا على من قام بعمل يكاد يكون خارقًا للصالح العام في درء مفسدة عن شعبه أو جلب مصلحة أو إنقاذها من خطر محقق، ولو بالتضحية بنفسه أو بمن أو بما يحب، صارت البطولة تُطلق على فنان يلعب دورًا في فيلم أو مسرحية بُغية كسب مادي أو تشجيع أو ما إلى ذلك. كما يُطلق على لاعب كرة أو ممارس رياضة، كأن هناك استهدافًا لحقائق المفاهيم وترويضًا لها لمسخها، كما امتهن مفهوم الفوز والنصر والهزيمة، وقد يتذكر أبناء جيلي أننا بعد الهزيمة المذلة المخزية في خمسة حزيران/يونية ابتكر لنا بعض المنافقين من الكتَّاب كلمة (النكسة) بدل (الهزيمة) لتخفيف وقع كلمة الهزيمة، وابتكر بعض آخر تفسيرًا جديدًا لم تعرفه أي لغة من لغات العالم للهزيمة، حيث قال فضَّ الله فاه: “إنه لو هزمت الأنظمة وسقطت وتغيرت لكانت هزيمة، أما وقد سلمت الأنظمة ورؤوسها فإنها مجردة نكسة”، وطرح بعضهم -وهو يقلل من أهمية ما حققه أبناء مصر في السادس من أكتوبر- كلمة (التحريك) بدل (التحرير)، وقال هؤلاء: إن تلك الحرب لم تستهدف التحرير بل استهدفت التحريك، ويعلم الجميع أن هذه الحرب قد حطمت -بتحطيم خط بارليف- حاجز الخوف العربي من إسرائيل، وكذَّبت الأسطورة التي بناها الإعلام العالمي في الضمير العربي بأن إسرائيل لا تُغلب، وإذا لم يكن فيها إلا هذا فذلك يكفي كي نعتبرها بداية تعبير عن حالة نفسية مغايرة لما سبقها منذ قيام دولة إسرائيل، وأنها حررت وحركت في الوقت نفسه، فكان ينبغي أن تُعطى حقها في البحث والدراسة والتحليل، لا أن يُوضع بين النفس المصرية والعربية وبين ما تحقق من تحرير للأنفس ثم للأرض من حواجز تحجب عنها حقيقة ما حدث. إن لمصر ثقلها في العالم العربي والإسلامي، وثقلها هذا تستمده من تاريخ طويل عريض في خدمة العروبة والإسلام وخدمة البشرية، ولديها الكثير مما تستطيع أن تفخر به، فقد ساهمت في هزيمة الصليبين، وقادت عمليات المقاومة ضد التتار، وحققت انتصارات على جميع المستويات للعروبة وللإسلام قديمًا وحديثًا، وما ينكر عليها ذلك منصفٌ أو باحثٌ يتحرى الدقة والنصفة والعدالة، وحين قامت ثورة الجزائر احتضنتها مصر، وشجعت جامعة الدول العربية والدول العربية أن تُعينها على الانتصار وتحقيق أهدافها، وأنفقت كثيرًا من المال والجهد في سبيل ذلك، وأعانت الجزائر على المحافظة على ثورتها وعروبتها وإسلامها انطلاقًا من إدراك مصري عميق لأهمية ذلك ولأهمية الجزائر باعتبارها بوابة هامة تربط بين أفريقيا وأسيا العربيتين المسلمتين وبين أوروبا، وأنها ثغرة لابد من تأمينها بعد تحريرها وتقويتها وشدِّ أزرها، والجزائر في ظل ابن بلة وهواري بو مدين عرفت لمصر فضلها ولم تنسَ جميلها، وحاولت بقدر ما استطاعت ردَّ الجميل، ومصر في حالة السلم مع الجزائر -وبعد انتصار ثورتها- لم تقصِّر في تزويدها بآلاف المدرسين والأساتذة لإعادة العربية إليها من جديد، وكان موقف بو مدين في إعادة الجزائر إلى العربية موقفًا مشرفًا، فقد فرض العربية لغةً أولى على شعب كان الذين يعرفون العربية منه ينحصرون في حملة العلوم الإسلامية، لكنه استطاع -وبمساعدة مصر ومدرسيها وأساتذتها- في فترة قياسية أن يُعيد للجزائر عربيتها وعروبتها، وحينما وقعت حرب الأيام الستة حاول الجزائريون أن يردُّوا شيئًا من الجميل إلى مصر، لكنهم كانوا ما يزالون ضعافًا لم ينالوا استقلالهم إلا من وقت قريب، فكان الدعم المعنوي منهم كبيرًا، ولكن في حرب السادس من أكتوبر التحريرية أرسلوا أسرابًا من طائراتهم لتُقاتل مع إخوانهم المصريين تعبيرًا عن الإحساس بفضل مصر والمصريين على الجزائر، وتقديم شيء من واجب الشكر لمصر وللتعبير عن أن ما زرعته مصر لم يكن في أرض بور، فهي زراعة مثمرة واستثمار ناجح.
لكن الجزائر الآن تمر بظروف خاصة، فنسبة الشباب فيها منذ تحررها أصبحت تتجاوز خمس وستين بالمئة من مجموع شعبها، وأوروبا تنظر إلى هذه الثروة البشرية على أنها مصدر خطر شديد، وخاصة فرنسا، ففرنسا التي أخرجتها حرب التحرير من الباب حاولت الرجوع من الشباك؛ ولذلك فإنها بدأت تعمل على العودة إلى الجزائر موظِّفة جميع الخبرات المتراكمة في أرشيفها عن الشعب الجزائري والأرض الجزائرية، فوحدة الجزائريين الوطنية كانت من أول أهداف فرنسا، فحركت البربر أو الأمازيغ ضد العرب، والبربر ليسوا طارئين على الجزائر وليسوا عددًا قليلا يمكن محاصرتهم وإلغاء وجودهم، بل هم شركاء في الجزائر، وكانت القيادات الجزائرية قبل التحرير كثيرًا ما تدعو إلى الوحدة الوطنية مقرونة ببعض الإجراءات، فتدعو الناس إلى الصلاة في المساجد من العرب والبربر ليدعو بلسان واحد وفي تناغم موسيقي جميل:
ياربنا يا قادر……….لا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر
فكانوا يرددونها في المساجد في المناطق البربرية وفي المناطق العربية وكأنهم يرددون أورادًا وذكرًا لدى الصوفية، ليُذكِّروا أنفسهم بوحدتهم ويتجاوزوا ويستوعبوا كل محاولات التفريق بينهم، لقد حاولت فرنسا أن تُغري بعض القيادات البربرية “الأمازيغية” بإعلان جمهورية مستقلة أو مملكة -إن شاؤوا- في الجبال وفي الصحراء، وأن البترول الجزائري إنما هو في صحرائهم وأراضيهم، وبالتالي فستستطيع فرنسا أن تُعينهم وتُسيطر على البترول بهذه الطريقة، والذي أفشل تلك المحاولات إخلاص تلك القيادات البربرية والأمازيغية لله ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم لوحدة الجزائر الوطنية والترابية، فرفضوا العرض الفرنسي، ولقد لَقيتُ بعضَ زعماء الصحراء -من أصول بربرية ومذهب إباضي في وادي ميزاب في الصحراء الجزائرية- واستمعت إلى رواياتهم وقصصهم عن محاولات فرنسا اختراق الجزائر من خلالهم، وإعطائهم الوعود الكثيرة، فأبى إسلامهم وإيمانهم الاستجابة لفرنسا، وأصروا على قبول الوحدة مع إخوانهم حتى لو أن تلك الوحدة لم تلبِ سائر طموحاتهم ولم تعطهم سائر حقوقهم، ثم دخلت فرنسا -والكنائس التي تعمل ليل نهار على نشر النصرانية في الجزائر- من مدخل آخر هو مدخل التفريق المذهبي بين الإباضيين والمالكية، ومع وقوع بعض الحوادث المؤسفة في بعض المناطق فإن الوعي لدى شيوخ الإباضية وشيوخ المالكية حال دون تفاقم الأوضاع، ولم تيأس فرنسا ولا الجهات الراغبة في إخراج الإسلام والعروبة من الجزائر، فما زالت الجهود مستمرة، وما زالت جهود تفريغ الشباب الجزائري من محتواه وشغل تلك الآلاف -بل الملايين- العاطلة عن العمل بسفاسف الأمور، وإن استطاعت أن تُدخل كل الموبقات من مخدرات وجنس وما إليها لتحطيم جبهتها الداخلية. ومعظم البلدان الأوروبية تشعر بمخاطر المخزون الشبابي الجزائري -الذي لم تستطع الحكومات الجزائرية تحويله إلى عمالة فنية مدربة قادرة على المشاركة في إعادة بناء الجزائر والحصول على فرص تكافئ فرص العمالة اليابانية والكورية والصينينة وما إليها- على أمنها واستقرارها الآن وفي المستقبل، وتتمنى لو رأت هذا المخزون يُبدد ويُستهلك فيما لا طائل تحته. إن كثيرًا من الدول الأوربية تُعاني من تهديد خطير بتراجع السكان الأصليين وتنامي الحاجة إلى دماء جديدة، حتى إن بعض الدول الاسكندنافية فتحت أبوابها للأكراد العراقيين وغيرهم، وأشاعت لإقناع شعوبها أن أكراد العراق وغيرهم هم من الجنس الآري، ولذلك فإنهم يستحقون التجنس الفوري بجنسيات تلك الدول، وحينما خوطب رئيس وزراء إحدى الدول الاسكندنافية في ذلك قال لمن اعترض على سياسته تلك بأن الإنجاب في بلاده قد ضعف وقل لانشغال الجنسين -الرجال والنساء- بالمتعة الجنسية دون رغبة في تحمل أعباء الحمل والولادة والتربية والتنشئة، وتلك المسؤوليات المشتركة بين الجنسين، وأن بلاده خلال خمسين عامًا لن تجد أعدادًا كافية من السكان تملأ الفراغ وتحافظ على البلاد، فهو مضطر لاستيراد هؤلاء الأكراد ومنحهم الجنسية وإعطائهم سائر التسهيلات لكي يكونوا مصادر إنتاج لمواليد جديدة تربيها بلاده وفقًا لثقافتها، لتسد ذلك الفراغ الذي تركته الاتجاهات الإباحية في بلاده…!
إن قرب الجزائر من أروربا -وفيها ذلك المخزون الشبابي الضخم- يجعل أوروبا في حالة خوف من الجزائر، لذلك فإن استنفاذ الثروة الشبابية في الجزائر، أو إشغالهم بما لا ينفع، هدف من أهداف تلك الجهات، فلابد من إيجاد تيَّارات تشغل الأوقات وتُبدد الطاقات وتُدمر الإمكانات أو تُحيّدها، ولابد من تهميش الثقافة العربية والإسلامية في الجزائر ومحاصرتها، وإشعار الجزائريين بأن العروبة والإسلام مقترنتان بالقتل وتكوين جماعات العنف والإرهاب، وأن الإسلام لا يعود على الجزائر إلا بمصادر صراع، كالصراع بين الإباضية والمالكية والأمازيغية والعربية وما إلى ذلك.
هنا يبدو أن العلاقة بين مصر والجزائر لابد أن تكون مستهدفة، فمصر -التي حافظت فيما مضى على عربية الجزائر وعروبته وأعادت اللغة العربية إلى السوح الجزائرية- لابد أن يُدق إسفين ما بينها وبين الجزائر، وإن أمكن أن تفتعل مع مصر معارك تؤدي إلى المقاطعة والجفاء بين الشعبين والبلدين والحكومتين فذلك هو المطلوب، وهنا يُصبح الأمر مفهومًا جدًّا، فحينما تأخذ لعبة كرة القدم والانتصار فيها موقع قيمة عُلْيا لدى الشباب العاطل -الذي لا يجد ما يُنفقه ليحتسي فنجان القهوة على مقعد في مقهى في أي شارع من شوارع الجزائر- تُصبح عملية الانتصار فيها -الذي أُلبس ثياب البطولة- هدفًا، خاصة إذا وجد مَنْ يُهيجه ويأخذه من مقاهي الأزقة إلى طائرات تنقله إلى بلدان أخرى بوصفه مشجعًا متوشحًا بأعلام بلاده، فذلك أمر يُعيد له شيئًا من الإحساس بالذات والشعور بالقيمة، ويصبح من السهل جدًّا على أي عنصر مدسوس أن يجعل هذه الجماهير تتجه ذات اليمين أو ذات اليسار. وتجربة الشارع العربي منذ أواسط القرن الماضي -في عمليات الاندساس بين الجماهير الغافلة وقيادتها من الشيوعيين ومن الصهاينة- كانت من أهم الخبرات والتجارب التي يعلمها هؤلاء الصهاينة والشيوعيون، خاصة لعناصر معينة يُدربونها على الاندساس في المجامع الشبابية الكبرى وتحويل توجهها، فلقد رأينا مظاهرات كانت تبدأ قومية -وأحيانًا إسلامية- ثم تنتهي بهتافات وممارسات شيوعية أو صهيونية، ولا شك أن الجماهير التي هدَّدت وكسَّرت وداست بأقدامها على أعلام -هي بعض أعلامها- وأخافت وأدخلت الرعب على الآخرين لا يمكن أن تكون إلا جماهير تعرضت لمحاولات اندساس كالتي أشرت إليها، إنني أناشد مصر ومفكريها ومثقفيها أن يلتفتوا إلى هذه الحقائق، فلا نريد أن ينتصر علينا أعداؤنا في الجزائر ويستلبوا الجزائر منا فنخسرها، وبذلك تخسر العروبة والإسلام ويخسر الجزائريون كثيرًا مما يتصفون به، كما نتوقع من مثقفي الجزائر وعقلائها وأهل العلم والدين فيها أن يدركوا حجم المخاطر التي تتهدد الجزائر، وأن يتذكروا زيارة رئيس فرنسا السابق شيراك والمليون جزائري الذين خرجوا لاستقباله، فكانوا بذلك يعبرون عن مقولة مضمرة نستطيع الكشف عنها بأنه إذا كسبنا حرب التحرير وخسرتها فرنسا فإن الجهود السلمية يمكن أن تأتي بأفضل مما تأتي به الحروب، فها نحن نخرج لاستقبال رمز فرنسا بالأذرع المفتوحة معربين عن استعدادنا للترحيب بفرنسا، وأن على فرنسا أن ترحب بنا وتقدم لنا فرص العمل والدراسة في بلادها، إن رفع الوعي بين الشباب ضمانتنا الأكيدة للمحافظة على وحدة أمتنا وبقاء قيمها، إننا لا نريد أن تتعرض الجزائر لنوع من العزلة تُلقي بها بعيدًا عن العروبة والإسلام وعن أفريقيا، فيكفي أنها قد عُزلت عن محيطها المغاربي، فافتعلت بينها وبين المغرب الأزمات، وكذلك مع تونس إلى حد ما، وموريتانيا وغيرها، كما تعرضت مصر إلى محاولات العزل -غير الذكية- التي جرت بعد زيارة الرئيس الراحل السادات للقدس، فكانت تلك الإجراءات المتعجلة غير المدروسة سببًا في عزلة مصر وتحجيم دورها، ولو أن العرب قدموا لمصر ربع ما خسروه في الهزات المالية التي تعرضت لها أرصدتهم وشركاتهم في الغرب لكانت أمتنا حافظت على مصر في كل ما تُمثل، وجعلت منها مصر الرائدة والقائدة، فلعل ما حدث يُعطينا درسًا وعبرة، ويُخرجنا من دائرة ردود الأفعال السطحية لنبحث عن الجذور والأسباب الحقيقية، فلا نعطي لأعدائنا والطامعين في خيرات بلادنا الفرصة لأن يُحققوا أهدافًا سهلة لا نستطيع استعادتها بملايين الأهداف الرياضية، إن أملنا كبير في القيادات الفكرية والثقافية والمعرفية في أقطار أمتنا المختلفة أن تواجه هذه المحاولات بما تستحقه، وألا تسمح لنفسها أن تسلِّم الأمةَ لها… والكلمة مسؤولية… وفقه الكلمة مسؤولية أكبر.