د. طه جابر العلواني
فُجعتُ وأنا أشاهد تجمهر أهلي «زفتى» من أولياء أمور طلاب وطالبات الروضة التي أُحيل معلم فيها على القضاء بعد نشر صورته وهو يضرب أطفال الروضة، يشد البنات من شعورهن ليضربهن على ظهورهن وعلى صدورهن وأيديهن، ويشدُ الصبيان من أذرعهم ليفعل الشيء نفسه. كانت فجيعتي بموقف الأهل –أهل أولئك البراعم- من ذلك المعلم أكبر من فجيعتي به، حيث ذهبوا متجمهرين إلى المحكمة ليقولوا أمام المحكمة: إنّهم راضون بكل مَا كان يفعل المعلم بأبنائهم، وأنّهم مؤيدون له في ذلك وموافقون؛ بل صرّح بعضهم بأنّه كان سعيدًا وهو يرى المعلم الجلاد يضرب ابنته أمام عينيه.
فاستعمال ذلك المعلم الجلاد الضرب كان شهادة له عند كل أولئك الذين يسمّون بأولياء الأمور بأنّه معلم ناجح، بل معلم فاضل، بل معلم جاد، وجاءوا بشاهد من الأطفال في العاشرة أو دونها ليشهد بأنّ المعلم الجلاد إنّما ضرب الجميع لأنّهم لم يفعلوا واجباتهم، واعتبر ذلك عذرًا شرعيًّا للجلاد أن يفعل مَا فعل.
لم يكن عند الجلاد وقت لأن يسأل أي طفل أو طفلة من طلابه عن الأسباب الحقيقة التي حالت دون قيام الطفل بالواجب المدرسيّ، وما إذا كانت أسبابًا معقولة، كأن لا يكون في البيت أي أسباب تشجع الطفل على عمل الواجب، أو أنّ البيوت تفتقد كل الوسائل التي يمكن أن تسمح بذلك أو أنّ شجارات الأبوين واستبدادهما حال بين أولئك الأطفال الأبرياء وأداءهم لواجباتهم، فذلك كلّه لم ير الأستاذ الجلاد أن يهتم به أو يسأل عنه ولم يتجشّم عناء ذلك، وقد وجد أسرًا تأتيه بأولئك البراعم وهي تحمل نفسيّات العبيد لتقول له: «لك اللحم ولنا العظم». وأقسم أن تعليمًا كهذا لم يحفظ لحمًا من النتن ولا عظمًا من الانسحاق.
إحدى المتحمسات للمدرس الجلاد قالت: إنّها محاميّة ومربية وأنّها لا تؤيد المدرس في كل مَا فعله فقط؛ بل تطالبه أن يستمر على ذلك.
لقد تذكرت قول سيدنا نوح على قسوته لكنّني سآخذه إلى القول بأنّ العبيد لا يمكن أن يلدوا أحرارًا، فالعبيد الذين يستمرئون العبوديّة وينشَّئون عليها ويدعمونها بالطريقة التي رأينا من أهالي الأطفال في «زفتى» لا يلدون إلاّ عبيدًا مثلهم ومثل المدرس الذي وصفوه زورًا بأنّه مربي فاضل، ولو كانوا أحرارًا لطالبوا بحبسه وتأديبه؛ بل وضربه أمام الأطفال أنفسهم وإخبارهم بأنّه يُضرب لأنّه ضربهم، وأنّ الضرب اعتداء ينبغي أن ينال فاعله جزاءه.
إذا بُرئ مدرس فاشل مثل هذا بعد كل مَا فعل وأطلق عليه أنّه مربي فاضل وتضامن معه العبيد من أولياء الأمور الذين لا يصلحون أن يكونوا أولياء أمور، فذلك يعني أن ليس لنا أن نلوم الضابط أو العسكريّ الذي يضرب متهمًا أو يعذبه لأنّ الضابط والعسكريّ في هذه الحالة والمحقق يمكن أن يعتبروا مؤدبين لذلك المتهم المشاغب الذي لم يقم بواجب الاستكانة والذل والخضوع والخنوع المستسلم للسلطة.
صدقوني مَا شعرت بخطر على ثورة مصر كما شعرت وأنا أتابع مشهد محاكمة المدرس الفاشل ومواقف ذوي الطلاب والطالبات منه. لقد أشعرني ذلك بالخطر لأنّ العبيد لا يكون سهلا عليهم التمتّع بالحريّة، فالحريّة بالنسبة لهم انفلات وتدمير، إنّني أستطيع القول بأنّ «البلطجيّة» مَا هم إلاّ ثمار مُرّة من تلك الثمار التي زرعتها أيادي مدرسين ومدرسات فاشلين وفاشلات من أمثال مدرس «زفتى»، ذلك يعني أنّ علينا أن نوجد وعيًا بالحريّة وتدريبًا على ممارستها لئلا تتحوّل إلى فوضى أو انفلات، فأمام نظم تربويّة وتعليميّة تسمح لذلك المدرس الفاشل أن يشد صبيّة قد لا يجاوز عمرها الرابعة من شعرها ليضربها على أماكن مختلفة من جسدها سوف تستسلم وهي زوجة لضرب زوجها وتعتبر ذلك أو يعتبره أهلها نوعًا من التربية والتأديب.
إنّ مجتمع الأحرار يصنع الحريّة في الطفولة، وأنا وإن كنت لا أتفق مع شاعرنا الجاهليّ في مغالاته حيث قال:
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ * * * تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
لكنّني أقول بأنّ تربية الأحرار على الحريّة أمر في غاية الصعوبة يقتضي أن تتضافر الجهود كلّها عليه، وأنّ أولياء الأمور في حاجة إلى توعية وإلى تربية وإلى إعادة تربية وإعادة تأهيل، وتربية الزوجين الرجل والمرأة على معنى الأسرة ومعنى الطفل ومعنى التربية، وهذا يسمى في الغرب اليوم «parenthood» حيث يهيئ الراغبان في الزواج ذكورًا وإناثًا ببرامج تربويّة وتدريبيّة على ممارسة الوالدية والأمومة، وكيفيّة إيجاد أطفال أحرار.
إنّ أهم مَا تمتاز به علينا الشعوب الديمقراطيّة، وهو السبب نفسه الذي يجعل ديمقراطيّتهم ناجحة وديمقراطيّتنا فاشلة، أنّ أبنائهم يُعدّون إعدادًا على الاستقلاليّة وقوة الشخصيّة وعدم قبول الإهانة منذ الصغر.
أذكر أنّ أصغر أبناء ابنتي رفع أبوه صوته عليه وهدده بالضرب وكنّا نقيم في فيرجينيا بأمريكا كان الولد في طريقه إلى الخامسة من عمره وبعد أن فرغ أبوه من شتمه والصراخ عليه وتهديده، التفت الولد إليه بهدوء وقال له: أبي؛ سأسامحك هذه المرة، ولكن أحذرك أنك لو فكرت في تكرارها فسأكلم (911) وهو رقم تليفون النجدة وسأخبرهم بأنّك أهنتني وصرخت عليَّ وهدّدتني. مَا إن قال الولد ذلك وبلهجته الطفوليّة حتى دهشنا جميعًا، وأكثرنا دهشة كان والده، فإذا به يقول: سأحاول ألا أفعل وأنت لا تعصّبني مرة أخرى. وإذا بالولد يرد: مهما كانت الأسباب فلا أسمح لك يا والدي بتكرار ذلك. وجلست إلى الولد وتعلمت منه ومن غيره كيف تربي المدرسة في الصغار منذ نعومة الأظافر معاني الحريّة والكرامة والاعتداد بالنفس والاعتماد عليها.
ولا بأس أن أذكر واقعة أخرى هنا؛ نحن ننادي دائما بضرورة قبول الآخر والتعدديّة واحترام الآخرين، ولكن كيف نمارسه؛ لا نعرف، فنحن ننادي به إلى أن بحّ الصوت، ولكن حين نأتي للممارسة لا نستطيع أن نمارس ذلك، لكنّني وجدت مُدرّسة تعلم أطفالا في إحدى المدارس في أوروبا كيف يقبلون الرأي الآخر، كانت بين يديها لوحة متوسطة الحجم وضعت بها صورتان؛ صورة حيوان في المقدّمة، وصورة شجرة في الجانب الآخر، فكانت تأتي بمجموعة من الطلاب وتريهم الوجه الأول من الصورة، وتأتي بفريق آخر وتضعهم على الجانب الآخر، ثم تسأل الفريق الأول مَا الذي تراه؛ فيضجّون: نرى حيوانًا. فيخطئنهم الآخرون، ويقولون: هذه شجرة. وتتركهم حتى يحتدم النقاش بينهم، ويصرّ الفريق الأول أن الذي في اللوحة حيوان ويصرّ الفريق الثاني أنّ الذي في اللوحة شجرة، فتغيّر من وضع الصورة ثم تسأل، فيضحكون جميعًا، ويعرفون كم كانوا مخطئين حين أصرّ كل منهم على كون مَا في الصورة صورة حيوان أو صورة شجرة. ثم تبدأ تشرح لهم أنّ الأمور نسبيّة، وأنّ قدرة الإنسان على رؤية جميع جوانب الشيء غير ممكنة، فهو يرى من جانب شيئًا، ويرى الآخر من جانب شيئًّا آخر يغايره، فلا ينبغي المسارعة برفض الآخر؛ بل ينبغي إعطاءه الحريّة الكاملة لأن يقول مَا لديه ويذكر الأسباب التي أدت به إلى ذلك الرأي أو تلك المقولة، إنّنا في حاجة إلى مربين ومعلمين على هذا المستوى، ولكي لا يظل الثائرون ثائرين، ولا نضطر إلى تكرار الثورات مرة بعد مرة؛ بل نهدم الفساد ثم نهدأ لنبني الأمجاد كما قال الشيخ الشعراوي –يرحمه الله تعالى، لا بدّ لنا من إعادة النظر في العمليّة التعليميّة كلّها وإعادة بنائها لبنة لبنة، بعد بناء النموذج الحر الذي نريد أن نراه في أبنائنا وشعوبنا. فهل من مستجيب؟