بقلم: د: طه جابر العلواني.
منذ فترة طويلة قد تمدد إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان، ثم ولده يزيد، والأمّة يُرفع في وجهها دائما سيف ذو حدين، حد يسمى “الاستقرار”، وآخر يسمى “الجماعة”. أما الحدّ المختص بالاستقرار فخلفاء بني أميّة عدا عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- كانوا دائما بحجاجهم وبزياد ابن أبيه وبابن أمه وغيرهم يرفعون فوق رقاب الأمّة سيف الاستقرار وثبات حال الأمّة على مَا يكونوا عليه وفقًا لصياغات الخليفة ومن حوله من حاشية يقل فيها ويضعف جانب المصارحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن جاء رجل يقول للخليفة: السلام عليكم أيها الأجير؛ ويذكّره بأنه أجير لدى الأمة، سارعت الحاشية المتملقة إلى ذلك الجريء المجترء على الخلافة لتقل له بل قل: أيها الأمير. ويصرّ ذلك الرجل الَّذِي أدركته نفحة من نفحات النبوة على تسمية ابن أبي سفيان بالأجير وتصرّ الحاشية على وجوب مناداة بالأمير حتى يتدخل الأمير الأجير بما عهد عنه من دهاء ليقول: دعوا فلانًا ليخاطبنا بما يراه فقد صدق.
تحول القدوة.. من القرآن للنموذج البيزنطي
لكن أولئك الخلفاء كانوا ينظرون إلى الدول من حولهم البيزنطية وغيرها باعتباها النموذج ولا ينظرون إلى مجتمع المدينة التوافقي الذي أسسه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلّم- على أنه الأسوة والمثال. ويرون أن أخذهم بالمظاهر التي تأخذ بها تلك الدول أمر تستكمل به شكليّات الدولة ومواصفاتها المدنيّة فيصوّغون لأنفسهم اتخاذ القصور والحجّاب والحرّاس والتصرّف المطلق بالمال وما إلى ذلك. وتحت عصا الاستقرار والمحافظة على وحدة الجماعة جرت عمليّات مصادرة وقمع الأصوات الحرة التي لم تعد تجد لها متنفسًا إلا في قصور بعض الخلفاء؛ بل تحت ذلك السيف قطعت رقبة الحسين وقمعت ثورات الأشعت والقراء والنفس الذكية وما إليها. وعلى أن يكون الأمر بين ذلك العالم الناصح وبين ذلك الأمير أو الخليفة نفسه، ثم الخليفة والأمير بالخيار إن شاء قبل، وإن شاء رفض وزجر ذلك الناصح، وإن شاء رشاه وملئ فمه ذهبًا وسخر منه وجفاه، حتى نأى علماء الأمّة المخلصون بأنفسهم عن غشيان بلاطات أولئك الخلفاء وتركوها وتركوهم نهبًا للمتملقين والدجالين والمداحين والندماء والمضحكين ومن إليهم.
وفجأءة وجدت الأمّة نفسها دون نظام سياسي، ودون فقه سياسي يبث الوعي ويعلم كيف تكون التنشئة السياسيّة ويساعد على حماية وحدة الأمّة وحسن تدبّر شئونها، وكم من عالم عاملا ورع تقي تُرد بل اتهم في دينه وربما ألقي في السجن أو شرد به أو حمل على الهجرة إلى أقاصي الأرض، لمنعه من قول كلمة حق أمام أولئك الذين رفعوا في وجه الجميع سيف الفتنة وعدم الاستقرار وتفريق الجماعة وما إلى ذلك، بل فبركوا أحاديث موضوعة لا أصل لها، وقووا مأثورات ضعيفة لا سند لها، وصححوا وحسّنوا بسرٍ ناقص كثيرًا من تلك الأخبار؛ ليجعلوا منها سندا لمقولتهم تلك، وسياساتهم المستبدة، فتم التأصيل للاستبداد والحكم المطلق وصُدرت الشورى وحرية التعبير التي أمر الله تعالى بأن تتاح، وجعلها من صفات عباده المؤمنين “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” (النحل:75-76) فالأبكم المحروم من حريّة التعبير لا يتصف بالعبوديّة الصادقة لله تعالى.
قمع ثقافة الحرية بثقافة الاستقرار
إن حجب هذه الحريّة عن الإنسان يرده إلى العبوديّة إلى إنسان مثله وهو الَّذِي أعطى لنفسه حق حجب الحريّة عن الناس أو منحهم إياها، ومن المؤسف أنّ المسلمين إلى يومنا هذا تهيمن على عقول كثير منهم تلك الثقافة المريضة ثقافة الاستقرار أيًّا كان نوعه حتى وإن كان استقرار الأموات، والجماعة أيًّا كان نوعها حتى ولو كانت مثل تجمعات الغثاء عندما يجرفه السيل، وما أراد الله سبحانه ذلك بما أمر به من الالتزام بالجماعة، فالجماعة في نظر القرآن هِيَ تلك الأمّة التي أعدت على عين الله -جلّ شأنه- وصنعت بعنايتة وبنيت لبناتها بوحيه فصارت خير أمّة أخرجت للناس وخير جماعة عرفتها البشريّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وهذه الجماعة لا استقرار لها إلا والحق منتصر وكلمة الله هِيَ العليا وكلمة الكفر هِيَ السفلى، ولا يمكن لأمّة كهذه أن تعرف الاستقرار والناس يفتك بها الظلم والاستبداد والديكتاتوريّة والجهل والمرض والفقر وسوء التوزيع واستباحة المال العام وما إلى ذلك.
نفس المنطق السابق ينطبق على مفهوم الاستقرار؛ فالاستقرار من القرار ألا وهو الثبات (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار) (إبراهيم:26) أي: مَا لها من ثبات.
والاستقرار لا يمكن أن يتحقق دون الحق والعدل والتزكية والعمران؛ ولذلك فإنّ ملاحظة هذا الأمر قد تخرج المسلمين من تلك الثقافة الهجين الغريبة عن روح الوحي وأهداف الرسالة والدين القيم، وقيم الدين، نريد استقرار؛ نعم. ولكنه استقرار الأحرار الأخيار الذين ينتمون إلى خير أمّة، استقرار الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يقول تعالى: “الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر” (الحج:41).
بين الحفاظ على الجماعة والاستبداد
إن القاتل وهو يَقتل يتمنى أن لا يقاومه القتيل، وأن يستسلم القتيل له، لكي يقتله وهو مستريح دون مقاومة ودون أن يعكر صفوه باهتزاز جسد القتيل أو تناثر دمه على ثياب القاتل، فذلك مزعج للقاتل مخلا باستقراره ويتمنى لو ثبت هذا المقتول واستقر كي يسهل عليه مهمته.
والالتزام بالجماعة وعدم التفرق يصبح كذلك من أهداف ذلك الَّذِي تغلّب على الجماعة واستبد بها وتصرف بها كيف يشاء، وزعم أنّ المحافظة على الجماعة هُوَ ألا يُقاوم فسقه وفجورة مقاوم، ولا ينكر عليه منكر، هذه ثقافة بعيدة عن الإسلام والمسلمين أصّل لها أئمة الجور من طاغة بني أميّة وبني العباس ومن جاء بعدهم من الذين أخرجوا رسالة الإسلام من طريقها الَّذِي رسمه الله ونفذه رسوله، وهو طريق الدعوة إلى طريق الفتح وإقامة الدول والسلطنات والحكومات ومشابهة دول الجور فيما قامت عليه ناسين أو متناسين أنّ هذه الأمّة هِيَ أمّة دعوة ورسالة، لا أمّة فتح وقهر.
كم نتمنى على تلك الأصوات التي ترتفع كلّما قام مصلح يدعو إلى الإصلاح، فأزعج حاكم من الحكام بدعوة تلك الحاكم إلى الإصلاح، فيسارع المتملقون إلى رمي الداعي بكل مَا في قواميسيهم من بلايا ورفع سيف الجماعة والفرقة وتهديد الاستقرار وضمان الأمن.
إنّ الموت استقرار وثبات ولا شك ولكنه موت، أمّا الحياة فهي بطبيعتها متحركة دائمة التحرك سائرة إلى الأمام، والإنسان كادح إلى ربه فملاقيه، وسائر إلى الأمام للقاء ربه، فهل بعض هؤلاء يربعون على أنفسهم ويتوقفون عن إطلاق هذين السهمين في وجوه المصلحين والدعاة إلى الخير ويكونوا إلى جانب الأمّة وقضاياها لا إلى جانب السلطان عدل أو فجر؟!