Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

منهج النظر في الحالة الثورية العربية (3-3)

بقلم: د. طه جابر العلواني.

إنَّ «الفتنة» التي نحتاج أن نتناولها في الدراسة والتحليل هِيَ «الفتنة» بمعنى البلاء والعذاب الَّذِي قد يتجاوز مستحقيها إلى سواهم:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:25)، فهي فتنة تتناول الأمَّة -كلّها- وتشمل الخاصّة والعامّة بحرائقها، كالفتنة الدائرة في العراق وأفغانستان والصومال وفلسطين واليمن والجزائر والباكستان، ويوشك أن تندلع فتن مماثلة أخرى في بلدان مسلمة تالية، هذه الفتن كثيرًا مَا ينسبها المحلّلون السياسيّون إلى أسباب دنيويَّة مختلفة، منها أسباب طائفيَّة واقتصاديَّة وطبقيَّة ووجود فئات مهمّشة… إلخ، وما إلى ذلك من ظواهر، ويتجاهلون علاقة الخالق العظيم وفعل الغيب في الواقع، فتأتي تلك التحليلات قاصرة غير مقنعة.

إنّ الله -تبارك وتعالى- قال:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)(الأنعام:65)، وقال جلّ شأنه:(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(الأنعام:159)، فهناك نسب القرآن المجيد تحول الأمم إلى شيع، إلى «إلباس إلهيّ» (الآية:65)، وفي (159) نسب التحول إلى «شيع» إلى الناس أنفسهم:(وَكَانُوا شِيَعًا)(الروم:32)، فهل يعني ذلك أنَّ الله -تعالى- ألبسهم شيعًا، فكانوا شيعًا، أو فصاروا فرقًا ومذاهب، أو أنّهم هم الذين بادروا بعمل مَا يقتضي الفرقة فتفرقوا؟!

لعلّ تدبُّر مَا يأتي يحمل الجواب أو شيئًا منه، يقول سبحانه: )َلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)(المائدة: 12) ثم يقول:(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا)(النساء:155).

الخطوات المؤدّية إلى السقوط في الفتنة

1- نقض الميثاق مع الله تعالى، فإذا لم تتب الأمَّة وترجع تأتي الخطوة التالية، حيث…

2- تعقبها لعنة إلهيَّة، و«اللعنة»: طرد من الرحمة، فلا تجد الفتنة في وجهها رحمة إلهيَّة تعطّل آثارها أو تصدّها وتدفعها، بما أخلفوا الله مَا وعدوه بنقضهم الميثاق، فإذا لم يتوبوا ويرجعوا إلى رشدهم…

3- تظهر قسوة في القلوب على مستوى الأمَّة تترتَّب على اللعنة، وتوقف الرحمة عن العمل، وتهيّؤها تلك القسوة لتغيّر الرؤية، وقبول التحريف، وضعف الفهم والفقه في الكتاب وفي الواقع: )وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ) (البقرة:78).

4- ثم تحريف الكلم عن مواضعه، وتغيير المفاهيم حتى ترى الجماهير الحق باطلًا والباطل حقًا، وتنعدم قابليّة الصحوة واليقظة والرجوع إلى الله.

5- ثم يلي ذلك نسيان أو تناسي أو تجاهل جانب ممّا ذُكّروا به، ربما يكون من تلك الجوانب التي لم يستطيعوا تغييرها وتحريفها، وآنذاك تكثر خياناتهم لله ولرسوله، فيحق عليهم القول، إلا إذا أحدثوا توبة، ثم تأتي الآية (14) من السورة؛ لتُعيد مثل مَا حدث من سنّة إلهيَّة مع يهود بني إسرائيل مع النصارى منهم: )وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14)، وذلك مع النصارى من بني إسرائيل ومَنْ سواهم.

6- ثم تبرز أنواع من الغبش والزيف تُزاحم الحق وتُحاصره…

7-ثم تفتح على الناس أبواب الدنيا والتنافس فيها، ويُحيط الرين بالقلوب، فتفقد البصائرُ رؤيتَها وفعاليّتها.

الفتنة والظلم وشمول النتائج

أ‌ولا: الفتنة السياسيَّة: الأصل في السياسة المضافة إلى أيَّة أمَّة من الأمم أن تكون رعاية لشؤون تلك الأمَّة، وتحقيقًا لمصالحها، ونفيًا للمفاسد والمضارّ عنها، والعناية بترقيتها، يقوم عليها ساسة متَّقون، يشكرون الله -تعالى- على تمكينه لهم، ويسألونه -سبحانه- تسديد خطاهم، وترشيد سياساتهم، يُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وينهون عن الفساد في الأرض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا يُريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا؛ ولذلك بُنيت عمليّة اختيار القيادة السياسيَّة على التراضي بين الأمّة ومَنْ تختارهم، فليس لأحد أن يفرض نفسه على أمَّته دون إرادة منها ورضا، والحاكم أجير لأمّته بعقد مبرم بينهما، يُبيِّن الحقوق والواجبات، وذلك معنى «البيعة»؛ ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: “مَنْ أمّ قومًا وهم له كارهون”(1).

وبعض القادة قد يفرض نفسه على أمَّته، وقد يفتئت عليها، ويستبدُّ بشأنها، ويُخالف شروط بيعته، ويرفض أيّ نصح أو دعوة إلى التغيير والالتزام بما عاهد أمّته عليه، ويغلق نظامه، فلا يعود ذلك النظام قادرًا على استيعاب القوى والطاقات الجديدة التي يُفرزها المجتمع، ويسد قنوات التعبير والتغيير، فتحدث حالة اختناق، أو احتقان، يؤدّي إلى الانفجار والفوضى والفتنة والهَرْج؛ أي: القتل، فحين تكون هناك قوى في المجتمع مثل الجيوش أو القبائل أو الأحزاب السياسيّة القادرة على إحداث التغيير يكون الانفجار العشوائيّ؛ ولذلك تحرص الأمم المتقدمة أن تكون لها على الدوام قنوات للتعبير، ووسائل وأدوات سلميَّة للتغيير، وما «الديمقراطيّة» ووسائلها إلّا محاولات إنسانيَّة لتجنُّب الوقوع في فوضى الانفجارات العشوائيّة، وما كانت «الشورى» شريعة إلهيَّة وفريضة لازمة إلا لتحقيق المشاركة الإيجابيَّة من أبناء الأمّة كافّة في سائر شؤونها.

والمسلمون في بدايات تجاربهم السياسيَّة لم يؤسسوا المؤسّسات والقنوات الكفيلة بتنظيم ذلك الأمر، ولم تؤسس للشورى المؤسّسات الكفيلة بترسيخها، والتأسيس لثقافتها؛ لمعالجة الأزمات والتحدّيات التي تواجه الأمّة، فسادت الفرديّة والاستبداد، فوقعت بينهم الفتـن، فتنظيم شئون الأمم لا يعتمد على حُسْن النوايا وصلاح بعض الأفراد، بل على المؤسّسات المتينة الراسخة، المدعومة من الأمّة القادرة على إحداث التغيير فيها حينما لا تكون عن التغيير مندوحة.

ثانيا: الاستبداد والفتنة: لعلّ الاستبداد أهم -أو من أهم- أسباب نشوء الفتن، ودوام الفتنة بأشكالها المختلفة واستمرارها؛ لأنّ الأصل في السياسة أنّها رعاية شؤون الأمَّة والعناية بها، والمستبد لا يمكن أن يُعنى بشؤون الأمَّة؛ لأنّ الاستبداد أهم مداخل الطغيان: (كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6،7)، ولقد هفا السيد الأفغاني -وهفوات الكبار على أقدارهم- حين قال: “لا يصلح لحكم الشرق إلّا مستبد عادل”(2)، فلو تأمّل -يرحمه الله- هذه الآية الكريمة لما قال مَا قاله؛ لأنّ هناك تناقضًا وتنافيًا بين العدل

والاستبداد، ومن أمثال ذلك قول ابن تيمية: “ظلم سنة ولا فوضى ساعة”. ومثل هذه الأطروحات هي التي خدّرت جماهير المسلمين عبر العصور، وجعلتهم يخضعون للمستبدّين، وبذلك يجد المستبد -لنفسه- حماية من الثورة ضده أو الانتفاض عليه.

والمستبد طاغية خدع نفسه عن نفسه، أو خدعته جماهيره الغافلة الذلول عنها، فظنّ نفسه فوق البشر، فما يخدع الطغاة شيء مَا تخدعهم غفلة الجماهير وذِلّتها وطاعتها وانقيادها، وما المستبد الطاغية إلّا فرد لا يملك -في حقيقة الأمر- قوة أو سلطانًا، إنّما هِيَ الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرَها فيركب، وتمد له أعناقها فيجر، وتحني له رؤوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى(3 ).

والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى، وهذا الخوف لا ينبعث إلّا من الوَهَم، فالطاغية فرد لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنّها شعرت بإنسانيّتها وكرامتها وعزّتها وحريّتها، وآمنت بالله حق الإيمان، ووحّدته حق التوحيد.

والوقوف بوجوه الطغاة ينبغي أن يحدث قبل أن يصبح الطاغية طاغية ويستبد، وذلك بغلق منافذ الطُّغيان. وقد أسس القرآن المجيد لذلك بركن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وجعله الركن السادس من أركان الإسلام، لكن الأمَّة -لأسباب كثيرة- لم تستطع تفعيل هذا الركن وتحويله إلى مؤسّسات قادرة، وحين استعملت «الحسبة» فإنّها لم تتحوّل إلى مؤسّسة فاعلة في كل زمان ومكان، وبحسب كل عصر وأدواته، وكذلك فكرة «أهل الحل والعقد»، والفريضة الغائبة «الشورى»، فكلّها أخذت أشكالًا هلاميَّة خاصَّة بعد انفراط عقد طرفي «أولي الأمر» -العلماء أو النخبة والأمراء- ليصبح كل منهما في شق، ويشد باتجاه معاكس لاتجاه الآخر.

وحينها بدأت ظواهر الطغيان تبرز، حتى تجرّأ أحد خلفاء بني أميَّة أن يقول: “مَنْ قال لي «اتق الله» قطعت عنقه”؛ لأنّ الإنكار على الطغاة تحوّل إلى مهمة فرديَّة، يقوم بها عالم متطوّع، إذا حاول أن يتجاوز حالة الإنكار اللفظيّ المجرد تناوله أعوان الطاغية بكل مَا يُسكته، كما أنّ كثيرًا من أولئك الذين مارسوا الاستبداد أخذوا يشجّعون مَنْ لا يستطيعون إسكاتهم بسهولة على أن يقدموا نصائحهم إليهم بشكل مباشر وفي دواوينهم الخاصّة المغلقة؛ لئلا يُثيروا الجماهير، ولقد برز عندنا مَا عُرف بـ«ـنصائح الملوك»؛ ليكون بابًا من أبواب الأدب الإسلاميّ الهامّة ولا شك، لكنّ آثاره كانت محدودة.

ثالثا: منشأ فكر العزلة وحرمان الأمّة من طاقات أبنائها: من أهم السلبيّات التي تزخر الفتـن بها دفع عناصر الأمَّة النقيّة إلى «العزلة»، أو المغادرة إلى بلاد أخرى، أو المهاجرة، وحين بدأت الفتـن بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- خاصّة بعد انسلاخ حكم الشيخين، الذين شُغل الأول منهما بحروب المرتدين الذين شكّلوا أخطر تهديد للجماعة المؤمنة الناشئة، وانشغل الخليفة الثاني بالفتوح ودرء الأخطار، وأمّا الخليفة الثالث فقد مرّت السنوات الست الأولى من خلافته دون فتنة، ولكن سرعان مَا بدأت المشكلات تتـراكم، وحالة الاحتقان تنمو، حتى انتهت بقتله في بيته بذلك الشكل المأساويّ، ثم بدأت الصراعات، واستمرت، ولم تتوقف حتى بعد اتفاق الْحَسَن ومعاوية الَّذِي سُمّي «بعام الجماعة».

ولم تتحقق وحدة الجماعة، وتتابعت الثورات، مثل «ثورة الحسين»، و«ابن الزبير»، و«محمد ذو النفس الزكيّة»، ثم ثورة «ابن الأشعث» و«القراء»، فلما رأى علماء الأمّة أنّ كل تلك المحاولات قد أخفقت في إعادة بناء وحدة الأمّة، وتعديل نظامها، ورأوا حجم المآسي المتـرتّبة على تلك الثورات نادى بعضهم بقبول الأمر الواقع، وإشاعة مقولة «الخلاف شر»، التي سرعان مَا تحولت إلى شعار شبه عام، وساهمت في ذلك أحاديث شاعت روايتها في تلك المرحلة، منها حديث: “الخلافة بعدي ثلاثون”(4 )، وقابله الشيعة «بحديث الغدير»(5 )، وأحاديث أخرى تُشير إلى اثني عشر إمامًا من ذريته -عليه الصلاة والسلام- آخرهم المهدي، ومدّت الشيعة عصر النص ليشمل زمن الأئمة كلهم، فيبلغ قرنين وزيادة.أمَّا سائر النظم التي قامت فهي باغية مفـتأتة مستبدة في نظرهم.

                                       الملاحم والفتن                                      

إنَّ أحاديث وأخبار «الملاحم والفتن» قد صارت مطلبًا من مطالب كثير من رواة الآثار والأخبار والواعظين والقصاصين والمشغوفين بثقافة «الترغيب والترهيب»، فهناك أحداث جسام كثيرة تحدث فتبهت الناس وتدهشهم، وتظل أبصارهم وبصائرهم شاخصة متقلّبة تبحث لها عن تفسير أو مغزى أو معنى يُزيل الحيرة، وينفي الاضطراب، ويُهدئ من ثائرة التساؤل، وما من شيء يُحدث ذلك في النفس ويتـرك أثره في الوجدان مثل أن يُربط بين الحدث وإشارة قرآنيّة أو حديث نبويّ؛ ولذلك حملت مدوّنات الحديث المتنوّعة أحاديث كثيرة تندرج تحت هذه العناوين؛ بل كُتِبَت كُتب خاصَّة في هذه الفتن، عُرفت بـ«ـكتب الملاحم والفتن»، كثيرًا مَا كانت فئات الواعظين والقصّاصين توظفها لتعزيز اتجاهات «الترغيب والترهيب» لدى الناس، خاصَّة في الأحوال التي يفشو فيها التـرف، وتنتشر فيها الغفلة.

وحين تبرز ظواهر يمكن أن تنبّه الوعي الإنسانيّ إلى فكرة الإحساس بالفتنة، والشعور ببعض مظاهرها، فالقرآن المجيد مَا عُني بشيء -بعد تحديد «مقاصده العُليا الحاكمة»- عنايته بالتوكيد على «وحدة الأمّة»، وضرورة المحافظة عليها بالاعتصام بحبل الله، وعدم التفرّق، وتجنّب كل مَا من شأنه الإخلال بوحدة الأمَّة أو تهديدها، أو تعريضها للخطر.

ويربط القرآن المجيد بين توحيد الله -سبحانه- ووحدة الأمَّة وبين وحدة الأمَّة وخيريَّتها ووسطيَّتها وشهادتها على الناس، وحدّد مصادر كل مَا من شأنه أن يُضعف هذه الوحدة القائمة على الاعتصام بحبل الله، والالتزام بأخوة الإيمان ورابطة الإسلام، وحملت «سورة الحجرات» تفاصيل دقيقة لتعزيز هذه الوحدة والمحافظة عليها، إضافة إلى آيات أخرى في مختلف السور القرآنيّة بُثّت في سياقات عديدة لتؤكد على وحدة الأمّة وضرورة المحافظة عليها.

الفتنة في الأخبار والآثار تأويلًا للقرآن المجيد

لم تكن الأحاديث النبويّة الواردة في الفتـن مثل مَا عُرف في تراث الأمم السابقة من نبوءات تعدّدت وتنوّعت أهدافها، بل هِيَ من رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- دائرة بين المهمّتين الأساسيّتين من مهامّه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وهما «البشارة» و«النِّذارة»، وفي سائر الأحوال كان -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- ينطلق في كل منهما من «تعليم الكتاب والحكمة» والتحذير من الغفلة عن «التزكية» التي تحققت في «جيل التلقي»، وذلك بقراءة «السنن الإلهيَّة» في الاجتماع والعمران كما وردت في كتاب الله تعالى.

فقد يرى رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- بوادر أو مظاهر تُشير إلى ضعف في الوعي ببعض تلك السنن، فيُوقظ -عليه الصلاة والسلام- الوعي بتلك السنن بالتحذير من النتائج والمآلات، فيبدو مَا قاله -صلوات الله وسلامه عليه- وكأنّه قراءة مستقبليَّة؛ لأنّ تلك الظواهر -وهي في بداياتها- مَا تزال براعم لا يستطيع رؤية نهاياتها أو نتائجها إلا النبيّ الأمين -صلّى الله عليه وآله وسلم- الَّذِي ينظر بنور الله بنبوّته ورسالته، وإدراكه لتجارب النبيّين والمرسلين الذين سبقوه، فهو بذلك قادر على تلك الرؤية، وإدراك أنَّ تلك البدايات الصغيرة مثل مستصغر الشرر، إذا لم تُعالج فستتحول إلى حرائق ضخمة تأكل اليابس والأخضر.

لذلك نراه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- كثيرًا مَا يلجأ إلى الدعاء للأمَّة من ناحية، وإلى تحذير الأمّة من ناحية أخرى عندما يستشعر خطرًا من هذا النوع، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا قرأ قوله تعالى: )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:65) اضطرب -صلوات الله وسلامه عليه- واستغاث بالله -سبحانه- قائلًا: “أعوذ بوجهك” أو: “نعوذ بك نعوذ بك… “( 6)، وكان يهرع إلى الدعاء.

فقد أخرج الطبري الحديث (13364)، وفيه أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- صلّى ذات يوم الصبح فأطالها… فسُئل عن سبب ذلك فقال: إنّها صلاة رغبة ورهبة وذكر، وأنّه سأل الله -تعالى- لأمته أن يحفظها ويمنعها مما جاء في ذلك الوعيد، وأجمعُ مَا ورد فيه الحديث (13368) وفيه: “… إنّ الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ مُلك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإنّي أُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنّي سألت ربي أن لا يهلك قومي («أمّتي» عند أَحْمَد عن ثوبان) بسنَةٍ عامّة، وأن لا يلبسهم شيعًا، ولا يُذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا مُحَمَّد، إنّي إذا قضيت قضاءً فإنّه لا يُرد، وإنّي أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنَةٍ عامّة، وأن لا أسلّط عليهم عدوًّا ممن سواهم فيهلكوهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، وبعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يسبي بعضًا.. “، وكان تعقيب رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أن قال: “إنّي أخاف على أمّتي الأئمَّة المضلّين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة”؛ لأنّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- يعلم أنّه خاتم النبيّين، لا نبيّ بعده تجتمع عليه الكلمة وتوقف الفتن.

وللحديث ألفاظ أخرى كثيرة، وروايات عديدة، وأورد الطبريّ في (13361) حديث أبي العالية في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:65)، قال أَبُو العالية: “فهن أربع، وكلّهن عذاب، فجاء مستقر اثنتين بعد وفاة رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعًا، وأذيق بعضهم بأس بعض، قال: وبقيت اثنتان، فهما لا بد واقعتان… “(7 ).

إنّ خاتمة الآية) انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، فتصريف الله هذه الآيات في أمم سبقت -قست قلوبها، ونسيت وتناست مَا أنزل الله -تعالى- فيها من كتب- سنّة ماضية، لا تقع في أمّة إلا حدث فيها ذلك، ومنعه -صلى الله عليه وآله وسلّم- إجابة دعوته في عدم إلباس أمّته شيعًا، واختلاط الأمور عليهم إذا تراخت قبضتهم عن كتاب الله -تعالى- فالتبست عليهم الأمور، واختلفت قلوبهم، واختلطت أهواؤهم، وصاروا أحزابًا متفرقة هُوَ أمر منوط بهم، وبفقههم للآيات التي صرّفها الله فيمن سبقهم، وهي لا بد جارية فيهم.

إنّ الأمَّة لو تمسّكت بالكتاب لما فرّطت بوحدتها ولا توحيدها، ولا رضيت بتسلّط الظالمين من فوقهم عليها؛ ولذلك لم يُبعد ابن عباس حين قال في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) (الأنعام:65) الأمراء الظلمة أو أئمة السوء أو: (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)؛ يعني سفلتكم؛ أي: من أعوان الظلمة وأدواتهم. وفي إعلان رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- منع الباري رسوله من إجابة دعائه في هذا الأمر تذكير بسنن الله التي لا تبديل لها، وقوانين الله الثابتة، مثل سنّة «التدافع» وسنّة «الاعتصام بحبل الله» أو «التفريط» بذلك.

إنّ فتنة إلباس الناس شيعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض سنّة إلهيّة ماضية في أولئك الذين أوتوا كتبًا فلم يستمسكوا بها، وأُرسل إليهم رسلٌ فغيّروا في حياتهم؛ مثل بني إسرائيل، أو بعدهم؛ مثل أمّة مُحَمَّد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- فإنَّهم وفقًا لتلك السنن يذقون من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون: )فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ*أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (الزخرف:41،42).

وقد أورد الطبري أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- بعد نزول هاتين الآيتين قام فراجع ربه -سبحانه- وقال: “أيّ مصيبة أشد من أن أرى أمتي يعذّب بعضها بعضًا؟”، فأوحى الله -تعالى- إليه: (الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:1-3)، فأعلمه أنَّ أمّته ليست استثناءً من هذه السنّة، وأنّها ستُبتلى كما ابتليت الأمم، إذا لم تستمسك بما أنزل الله، ثم أنزل سبحانه عليه معلّمًا إياه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كيف يدعوه في هذا الشأن: )قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ*رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون:93،94)، فتعوّذ بها رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- فأعاذه الله -سبحانه- فلم يشهد في أمَّته حتى وفاته إلا الجماعة والألفة والطاعة، ولم يشهد فتنتهم واختلافهم وفرقتهم رحمة منه -سبحانه وتعالى- بنبيّه الرؤوف الرحيم صلّى الله عليه وآله وسلَّم.

وفي حديث زيد بن أسلم لدى الطبري (13378) قال: “لما نزلت: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:65)، قال رسول لله صلّى الله عليه وآله وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف”، فقالوا مستغربين: “ونحن نشهد أنّ لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله؟!” قال: “نعم!!”، فقال بعض الناس: “لا يكون هذا أبدًا!!”، فأنزل الله تعالى (.. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ*وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ*لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأنعام:65-67)، لقد رحم الله نبيّه من شهود تلك المواقف الحرجة، فاستأثر به ورفعه إليه قبل أن يتغيّر القوم، وقبل حدوث الفتنة التي توعّد الله -سبحانه وتعالى- بها: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:25)(8).

لقد أدى الأمانة -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وبلّغ الرسالة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وبيّن أنواع الفتـن فيما بيـّن، فهناك فتـن يُفتنها الإنسان في أهله وماله ونفسه، يكفّرها الصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك فتـن كبرى، تموج كموج البحر، تُصيب الأمّة كلّها. لا تدع أحدًا إلا لطمته، كلّما قيل انقطعت أو توقفت قامت من جديد وتمادت، يُصبح الإنسان فيها مؤمنًا ويُمسي كافرًا، يتمايز الناس فيها في الأمور والشؤون والمواقف على اختلافها، يكون القابض فيها على دينه كالقابض على الجمر، وأخطر مَا فيها ذلك الغبش والتباس الأمور والتياثها، واضطراب المفاهيم، واختلاط الأمور والتباس الحق بثياب الباطل، والباطل بثياب الحق، وذلك مَا يجعل الحليمَ حيرانًا؛ وهذه الظروف يشهد الناس فيها تذبذبًا في المواقف والرؤى لا عهد لهم به في مختلف فتـرات التاريخ، وهنا يجد الناس أنفسهم بين أمرين لا ثالث لهما؛ إمّا القرآن وإمّا الدجاجلة والشيطان.

فتنة اللبس والاختلاف، واضطراب الرؤى

«اللّبس» و«الاختلاف» و«اضطراب الرؤى» أن يلتبس المعروف بالمنكر، والمنكر بالمعروف، والخير بالشر، والشر بالخير، بحيث يُصبح من العسير أن يتمحَّض المعروف أو الخير خالصين من دون أن تشوب كلًّا منهما شوائب من المنكر والشر، ولا يتمحض الحق -خالصًا- من دون أن تشوبه شوائب من الباطل، وليس سهلًا رصد تلك الشوائب أو الدخن، وتخليص الخير والمعروف والحق منها، فذلك يحتاج إلى علماء ربّانيّين أكفّاء لهم من الخبرات والتجارب وأنوار البصائر مَا يُمكّنهم من تلك الـمَلَكة؛ فإنّ أخطر طاقات شياطين الإنس والجن تكمن في تلك القدرة الهائلة على «التلبيس» و«الخلط»؛ وهي قدرة تقوم على عمليّات معقّده نبّه القرآن المجيد إليها في قوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (العنكبوت:38)، وقال تعالى: (شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).

مدخل التزيين والفتنة

ومدخل «التزيين» هذا مدخل في غاية الخطورة، فهناك «الزينة» الحقيقيَّة، وهي مَا لا يُشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهي أمر مرغوب ومطلوب فطرةً للإنسان، وهناك مَا قد يُزيّن الإنسان في حالة، ويُشينه في حالة أخرى، وهي أمور تُدرك بالمعرفة والخبرات والتجارب؛ ولذلك قيل: “حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين”، فتكون زينة وشينًا نسبيّين في الأحوال والأشخاص والمعاني، و«الزينة» قد تكون نفسيَّة؛ كالشجاعة والعلم والمعرفة والأفكار والتصورات والاعتقادات الحقّة.

وهناك زينة تتعلق بالبدن؛ كالصحة والقوة وطول القامة واعتدالها وما إلى ذلك. وهناك الزينة الخارجيَّة؛ مثل المال والبنين والجاه والسلطان وما إلى ذلك. وقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات:7) إشارة إلى تزيين الله -سبحانه- الإيمانَ لُطفًا منه -سبحانه- وتفضّلًا ومنّة من الله على الإنسان أن يُحبِّب له الإيمان، ويشرح صدره له، ويُكرِّه إليه الكفر، ويحمله على ضيق الصدر به، وذلك من «الزينة النفسيَّة والقلبيَّة» إن شئت.

وفي قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32)، وهذه في الزينة الخارجيَّة، ويمكن أن يُراد بها العموم في غير مَا نهى الله عنه وكرهه. وقوله تعالى: )فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79)، وهي زينة خارجيَّة يخرج بها الملوك والقادة على أقوامهم في مناسبات وأعياد قد تُسمَّى بـ«ـيوم الزينة»، ومنها الأعياد الدينيَّة والقوميَّة وما إليها.

وأُطلق على الحلاّق في بعض البلدان «المزيِّن» لعنايته بتزيين من يحلق له زينة خارجيَّة، وقد يخذل الله -تعالى- بعض العصاة بمعاصيهم، فيكون خذلانه لهم وعدم حمايتهم من تزيين الشياطين وإضلالها لهم بمثابة «تزيين» منه -جلّ شأنه- لأعمالهم في أعينهم، وهو من قبيل السخريَّة بهم.

وأحيانًا ينسب الضالّون ضلالهم وعدم استقامتهم؛ انسياقًا منهم مع وساوس شياطينهم إلى الله -سبحانه- كأن يقولوا: )سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148)، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (الأعراف:28،29).

وقد يتوهم الضالّون أنّهم يُمارسون ضلالهم تعبيرًا عن تمرّدهم وخروجهم على مشيئته -سبحانه- يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (النمل:4)، فهؤلاء الذين سوّل لهم كفرهم وكبرهم أنّهم سبقوا يُصيبهم الله -سبحانه- بحسرة أكبر بأنّهم لم يخرجوا بكبرهم وغرورهم وكفرهم عن دائرة الألوهيَّة والربوبيّة، فلو شاء الله إكراههم على الإيمان به وطاعته لما استطاعوا الخروج عن ذلك، لكن خذلانه -سبحانه- لهم لأنّهم نسوا الله فنسيهم، وأنساهم أنفسهم، وزيّنت الشياطين لهم كفرهم ومعاصيهم، وأوهمهم أنّهم يفعلون ذلك بإرادتهم واختيارهم، فقال سبحانه: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:108)، فلا يُفهم من هذا أنّه -سبحانه- قد حملهم -بذلك «التزيين»- على الكفر، بل وردت الآية في سياق بيان سنّة ماضية في البشريّة، وهي رؤية كل أمَّة حسن وصحّ مَا هِيَ عليه.

فالله -تبارك وتعالى- يقول لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم: )اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ*وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:106-108)، كما وردت في وعيد الشيطان لبني آدم: )قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39)، ونحوه: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:48).

وقال جلّ شأنه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)، وهنا بُني الفعل للمجهول، ونحوه: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (التوبة:37)، وكذلك في قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)، وقوله: )وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:137)، وقوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (فصلت:12)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (الملك:5)، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات:6)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (الحجر:16).

وهناك زينة معقولة يختص بمعرفتها الخاصّة. وتزيين الله للأشياء قد يكون بالتخلية بين شياطين الإنس والجنّ وبين الناس، فيمارسون مَا يمارسون تزويقًا باللسان ومدحًا، وذكرًا للشيء بما يرفع من شأنه، وقد ينسب «التزيين» إلى الله -تعالى- بذلك المعنى؛ لأنّه -سبحانه وتعالى- «لا يأمر بالفحشاء» ولا يُزيّنها لأحد، وقد يُنسب إلى الشيطان، وتلك أهم وسائله، وقد يُنسب للمجهول، ويحدّد السياق المراد.إنّ أخطر الفتـن تلك التي تلتبس على الناس، فلا يتمخض الشر فيها، بحيث يظهر شرًّا مكشوفًا يستطيع الناس إدراكه، ومعرفة مَا فيه.

فتنة الحكم

لقد حدثت «فتنة الحكم» في وقت مبكّر من تاريخ الإسلام؛ في شكله، وكيفيّة توزيع الصلاحيّات، والمسئوليَّات، والواجبات، والتعيين، والعزل، والحقوق والواجبات، وإمامة المتغلّبين والمماليك وما إليهم، ولو ردّوه إلى الله -تعالى- وإلى الرسول -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لوجدوا المحجّة البيضاء، ولكن بدلًا من أن تؤخذ الحلول من القرآن المجيد، والتفعيل والتأويل النبويّ له، بالحكمة التي آتاه الله -تعالى- وعندها كانت لتمنع ما حدث من تراكم مشكلات تلك الفتنة وتعقّدها واستبسالها، وتحوّلها لبؤرة ومصدر لتوليد فتـن أصغر وأكبر، فتحوّلت إلى مطحنة تطحن الأمّة، ودوّامة تتخبط الأمّة فيها وتتـردّى في كل عصر ومصر، وتتـراكم ظلماتها. وتجارب الفرق والطوائف المختلفة فيها لم تقدّم حلولًا.

وأعلن الواقع فشل تلك التجارب، ذلك وإن لم يحفز الأمّة لتجاوز تلك التجارب الفاشلة والعودة إلى الأمر الأول. وليت الأمر وقف عند تلك الحدود، لكنّه لم يقف عندها؛ بل تجاوزها إلى حد التلاعب بالمصادر الهادية؛ وذلك بالتفسير والتأويل المنحرف لنصوص الكتاب الكريم، وإدخال الأحاديث الموضوعة على السنن، وبقيت الحركات الإصلاحيّة المختلفة تتخبط يُمنة ويسرة، وكثيرًا مَا تحسب السراب ماءً حتى إذا جاءته لم تجده شيئًا، فمتى تجد الله -عنده- ليوفّيها الحساب، ويعلمها حكمه فيما تختلف فيه؟

إنّ الله تعالى دلّنا على الطريق، ومنّ علينا بحبل ممدود إليه، إذا تمسّكنا به أوصلنا إليه، لكن صبر البشر على ذلك محدود، وقدرة الناس على الإمساك بحبله -سبحانه- قليل منهم مَنْ يمكنه الصبر عليها، ويحتمل متطلبات ذلك الاستمساك والاعتصام بحبل الله -تعالى- العاصم من التفرق الحامي من الفتن، والـمُخرج منها بإذن الله تعالى.

ختامًا.. هل تُعدّ الأحداث الجارية في البلدان العربية من قبيل الفتن كما صرّح البعض؟ أم هي شيء آخر؟

لقد تبيّن مما تقدم أنّ «الفتنة» أمر عام شامل، يشمل الذين ظلموا ولا يقتصر عليهم، بل يتجاوزهم إلى الآخرين من أبناء الأمّة، وقد تغمر الفتنةُ الأمةَ كلّها، و«الفتنة» أمر تلتبس فيه الأمور، لا يُعرف فيها الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والاستقامة من الانحراف؛ لكثرة التأويلات وتشعّب التفسيرات، وانتشار وتفشي الدعاوى التي يستنصر بها المتجادلون، وعدم ظهور وجه الحق الصريح في أي منها، فإذا ظهرت وجوه الحق فإنّ الأمر لابد أن يجري التفكير فيه وفقًا لموازين الحق والباطل، والخطأ والصواب، والضلال والهدى.

وما يجري في الوقت الحاضر من الواضح أنّ فيه ما يُبيّن أو يُنبّه -ولو على مستوى الإماء والإشارة- إلى أنّ الحق مع فريق ظُلم واغْتصب حقّه وصُودرت حريّته، وأنّ مَنْ يُقابله فريق متغلّب استخدم القوة والسطوة التي لا يُفترض أن يستبدّ بها، وجعلها وسيلة لتمكين لنفسه، والاستبداد بشؤون الناس، وبالتالي فمن الصعب إضفاء صفة الفتنة على تلك التحرّكات مهما كانت الخسائر، إذ إنّ الاستبداد هو أخطر ما يدمّر إنسانيّة الإنسان، ومقاومة الإنسان للاستبداد فيها معنى الدفاع عن إنسانيّته وعن حريّته وكرامته.

لقد قصّ القرآن علينا من قصص بني إسرائيل الكثير، وبيّن لنا الدروس والعبر من تاريخهم، فهذا الشعب حين أُخضع للاستبداد الفرعوني انمحت إنسانيّته، حتى حين حرّره الله تعالى من فرعون، وأغرق فرعون بأشكال خارقة للعادة، ومَنّ عليهم بنبيّ ورسول هو قائد قوميّ في الوقت نفسه، ربّاه في قصر فرعون لكي لا يكون فيه أيّ أثر لعبوديّة قومه لفرعون، مع ذلك أخرجهم إلى الأرض المقدّسة، وأبدلهم بموسى قائدًا ونبيًّا ورسولًا، وجعل -جلّ شأنه- من نفسه حاكمًا لهم في أرض قدّسها لاتصالها باسمه الشريف، لكن ذلك كله لم يستطع أن يُطهّر نفوسَهم من آثار الاستبداد، فكانوا يحنّون إليه ويرجعون إليه من وقت لآخر؛ ولذلك عبدوا العجل، وطلبوا من موسى أن يُريهم الله جهرة، وفعلوا كثيرًا مما سجّله القرآن المجيد عليهم باعتباره جزءًا من تاريخهم الواسع.

إنّ الاستبداد استعباد من الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا الاستعباد يمحق إنسانيّة المستعبَد والمستعبِد، فالمستعبِد تُزيّن له نفسه وتخدعه عن حقيقته، ويرى في نفسه امتيازًا عن البشر لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، والمستعبَد تُسحق إنسانيّته تمامًا، فيكون أبكمًا لا يقدر على شيء، كلًّا على مولاه، لا يُحسن التصرّف في أي شيء؛ لأنّ الاستبداد يحوّل الإنسان إلى شيء من الأشياء؛ ولذلك فإنّه لا يمكن للإسلامي أن يسوغ الاستبداد مهما كان نوعه، ولا أن يُطالب الناس بالخضوع إلى المستبِد، كما أنّ المستبِد يستحيل أن يكون عادلًا كما مر؛ لأنّ: (كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6،7)، والاستبداد يجعل المستبِد يرى أنّه مستغنٍ عن شهبه، لا حاجة له فيه، وأنّ شعبه هو المحتاج إليه دائمًا. والله أعلم.

إحالات مرجعية

(1) – نص الحديث: «من أمّ قومًا وهم له كارهون؛ فإنَّ صلاته لا تجاوز ترقوته»؛ (صحيح بمجموع رواية جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة)، انظر الترغيب 171 / 1، وانظر السلسلة الصحيحة – الألباني، رقم 2325.

( 2)- وقد تأثر تلاميذته بهذا حتى قال رشيد رضا في مقالته بعنوان «الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد»:  «لا مانع من التسليم بوجود القائد الداعي للإصلاح، المستبد العادل، الذي يسوق الناس إلى النهضة والعلياء سوقاً، لكونه يحكم أمة خاملة ورعية جاهلة فيحملها بالقهر والإلزام على ما يُطلب ويُرام».

( 3) – في ظلال القرآن تفسير «سورة النازعات».

( 4) –  أخبرنا أبو يعلى حدّثنا عليّ بن الجعد الجوهريّ أخبرنا حمّاد بن سلمة عن سعيد بن جهمان: عن سفينة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تكون ملكا».

قال: أمسك خلافة أبي بكر رضي اللّه عنه سنتين وعمر رضي اللّه عنه عشرا وعثمان رضي اللّه عنه اثنتي عشرة وعليّ رضي اللّه عنه ستّا. [ص:79] قال عليّ بن الجعد: قلت لحمّاد بن سلمة: سفينة القائل: أمسك؟ قال: نعم

= (6943) [8: 3]. [تعليق الشيخ الألباني]، حسن صحيح – تقدم (6623).

الكتاب: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وتمييز سقيمه من صحيحه، وشاذه من محفوظه.

مؤلف التعليقات الحسان: أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، (المتوفى: 1420هـ)، رقم (6904).

( 5)- حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سلمة بن كهيل قال سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم شك شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وقد روى شعبة هذا الحديث عن ميمون أبي عبد الله عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وأبو سريحة هو حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.

تحقيق الألباني: صحيح، الصحيحة ( 1750 )، الروض النضير ( 171 )، المشكاة ( 6082 ).

الكتاب: صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم (3713). المؤلف: محمد ناصر الدين الألباني.

( 6)- تفسير الطبري محمود شاكر ومراجعة أَحْمَد شاكر. دار المعارف بمصر (11/422-423). وتفسير الآية والآثار الواردة حولها تبدأ بصفحة (416-434) من الجزء نفسه.

(7)- المصدر السابق (11/421). وهنا يقتضي الأمر بحوثًا مستفيضة دقيقة تتتبّع كل مَا حدث في جيل الصحابة بعد وفاة سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ورصد مختلف التغيّرات التي طرأت، وأدت إلى كسر الأبواب والسدود التي كانت قائمة في وجه الفتنة، وتحديد مَا أدى إلى ذلك.

(8) – إنّ استجابة الأمّة السلبيَّة لهذا التحذير الإلهيّ ثم النبويّ كانت للأسف استجابة عكسيّة، بل سلبيَّة لافتة للنظر، فهي بدلا من أن تنهض على قدم وساق لاتخاذ الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون الطغيان والاستبداد الَّذِي يوجد أسباب الصراع والفتن والاقتتال ذهبت تنسحب بقيم الإسلام من أمام الطغاة لتمهد لهم الطريق فترفع شعار «الخلاف شر» ولا تدعو المتسلط لينزل عن سلطانه لصالح الأمّة، بل تدعو الأمّة لتسكت عنه. وأخذت تشرّع بعد ذلك لإمامة المتغلب والمتسلط وصاحب العصبيَّة فكانت فتنة أخرى ولو رجع الناس إلى كتاب الله –تعالى- وردّوا الأمر إلى «الأمَّة الشاهدة» وجعلوه شورى حقيقيَّة بينها تختار وتنظر إليهم على أنّهم أجزاء لديها. ورفضت «ولاية المغتصب والمتغلّب» أيّا كان، وأجرت على «الشورى» وفرضت إقامة المؤسَّسات التي تنظمها وتحميها، وتضمن لها الاستمرار لتحمي حريّة الأمَّة ومشاركتها، وتداول شئونها بين المتقين الأكفاء العدول المتميزين من أبنائها، وتحملت الأمّة الشاهدة مسئوليّاتها الكاملة في مراقبة حكامها بعد اختيارها وعزل من يثبت خطؤها في اختياره، لا الاستسلام له «خوف الفتنة» لهم، لو فعلت ذلك وتمسّكت به لتجنَّبت الفتنة، ولما سقطت فيها، ولما دفعت أرواح الملايين عبر تاريخها ثمنًا للاستبداد والطغيان.

إنّ المؤسف أنَّ العودة إلى كتاب الله كانت آخر مَا يتجه مَا عرف «بالفكر الإسلاميّ» إليه. فالشيعة ظنُّوا أنّ اللّجوء إلى «النصِّ» سوف يحسم الخلاف فحمّلوا «حديث الغدير» مَا شاؤا حتى بلغ آخر شرح له ستة عشر مجلدًا. وحين أرادت إيران أن تقيم دولتها المعاصرة لم تجد إلا التحايل على «مبدأ النص على الولاية» بطرح «ولاية الفقيه» لتسمح لصناديق الاقتراع أن تأتي بحكام معاصرين يستمدون شرعيّتهم من لجان صنعوها وصيغ ابتكروها. ولما أراد بعض المفكّرين الإسلاميّين السنّة أن يركبوا موجة انقلابات عسكريّة ليصلوا إلى السلطة التي عز عليهم الوصول إليها بغير ذلك الطريق نبشوا في التراث السنيّ ليجمعوا بين قواعد «المصلحة وسد الذرائع، وجواز إمامة المتغلّب» وما إلى ذلك، وإرضاء الله ليس مشكلة كبيرة إذ أنّه سبحانه متعطش في نظرهم –تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- لبضعة جالونات دم من دماء المرتدين وبضعة اكف تقطع، ولا مانع من قطع بعض الأرجل من خلاف إذا اقتضى الأمر لإرضائه. وذلك هُوَ «تطبيق الشريعة» في نظر بعضهم كتطبيقها من محترفي القرصنة والقتل من الذين قد يسمّون أنفسهم في بعض الأحيان بالمجاهدين زورًا وبهتانًا وما هم –والله- إلا أصحاب فتنة: «ألا في الفتنة سقطوا». وكذلك القتلة المنتشرون في مختلف أنحاء الأرض يجنّدون ذوي العاهات من شباب ضائع أضاعته النظم ودفعته نحو كل موبقة ليهلك، لأنّه عبء عليها فمن هلك بالجنس والمخدرات فقد أراح واستراح وإلا فليهلك بذلك الَّذِي يسمّونه «جهــــاد» افتراءًعلى الجهاد والمجاهدين. يذهب أحدهم فيقتل أهله وذويه بسيارة مفخخة أو أيّ أداة إجراميّة أخرى، والقاتل والمقتول ربح لإبليس ولأعوان إبليس في الدنيا والآخرة. والقاتل وقود للنار التي وقودها الناس والحجارة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *