Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

منهج النظر في الحالة الثورية العربية (2-3)

بقلم: د. طه جابر العلواني.

هناك تفسيرات غيبيَّة للفتنة، تعمل على إحالة سائر مَا يحدث إلى أسباب غيبيَّة؛ لتعفيَ تلك التفسيرات أصحابَها ومَنْ يتبنَّاها من أعباء التحليل والنقد والمراجعة، ومن معاناة فهم الواقع، ومن تحليل عناصره ومعرفة صلة كل جانب أو عنصر من عناصر الواقع بالآخر.

الإحالة على الغيب لدى هؤلاء ليست بدافع الإيمان، بل بدافع العجز عن تقديم تفسيرات منطقيَّة معقولة متَّصلة بواقع الناس، ونحن لا ننفي صلة الغيب بما يحدث نفيًا مطلقًا، بل ننفي مبدأ إعفاء الناس من مسؤوليَّتهم عمّا يحدث إعفاءً تامًّا؛ لأنَّنا نرى أنَّ أيَّ حدث تلتقي في عمليَّة صياغته وإخراجة في الواقع عناصر ثلاثة -يشملها «التدبير الإلهيّ الغيبيّ» في تأثيراته- هي الزمان والمكان والإنسان، بمستويات عديدة مختلفة، بسطناها في مواضع أخرى.

التفسيرات الغيبيَّة والاستقالة العقليَّة

وهناك البيئات والطبيعة المسخّرة، وما تقدّمه من أسباب وتيسيرات وتسهيلات وقواعد ومقوّمات لإنتاج «الفعل الإنسانيّ»، ثم يأتي دور «الفعل والممارسة الإنسانيّة»، التي تبرز الفعل الإنسانيّ إلى الوجود  انطلاقًا من التفكير فيه ثم الدواعي له، ثم العزم على إيجاده في الخارج؛ «النية»، ثم تنفيذه.

وقد يغفل الإنسان عن فعل الغيب، وعن مواقع الطبيعة من الفعل، فلا يرى إلا الجانب الإنسانيّ منه، فيغتر “إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي” (القصص:78)، فإذا أراد المكر لإبعاد المسئوليّة عن نفسه أو نفيها، قال: “لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ” (الأنعام:148)، أمّا عباد الله الصالحون فهم على إدراك دقيق لتعدّد الأدوار مع التفاعل بينها.

ولذلك فإنّهم إذا علموا شيئًا قالوا: “لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (البقرة:32)، وإذا فعلوا خيرًا قالوا: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ” (الأعراف:43)، وإذا انتفعوا بما سخّر الله -تعالى- لهم قالوا: “سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ”(الزخرف:13)، وإذا أخطأوا في شيء: “فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا” (النساء:64)، “رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” (البقرة:286).

والعبد الصالح يتحرَّى ألا يفعل أو يقول قولًا يستبد به، بل يفعل حين يفعل «عملًا صالحًا»، ويقول حين يقول: «قولًا سديدًا»، فهو على ذِكْر لنعمة ربه فيما أعطاه ومكّنه واستخلفه فيه، وهو -في الوقت نفسه- يتحمّل مسؤوليّة مَا يفعل أو يقول، فيستغفر الله -تعالى- إذ لم يتأكد من موافقة قوله أو فعله لمراد الله سبحانه وتعالى.

مفهوم الفتنة في لسان القرآن المجيد

«الفتنة»: من «فتن»، أصلها إدخال الذهب النارَ؛ لتظهر جودته من رداءته، ولإزالة مَا يكون قد خالطه من معادن أخرى: “يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ” (الذاريات:13)؛ تشبيهًا لأهل النار به، حيث خالط فطرَهم نزغ الشيطان، فأبعدهم عن الصراط، وفِتْنَتهم على النار تجعلهم أكثر أسفًا وألـمًا على إتّباعهم لهمزات الشياطين، وتخلّيهم عن نداءات الفطرة السليمة.

ويقول الله -جلّ شأنه- لهم: “ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ” (الذاريات:14)؛ أي: جزاء تعذيبكم عبادي في الدنيا؛ لصدّهم عن السبيل. وقد قال تعالى في المنافقين: “لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ*وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ” (التوبة:48-49). ويُخاطب الله موسى -عليه السلام- وهو يصنعه على عينه: “إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى”(طه:40)؛ أي: اختبرناك اختبارًا لتكون خالصًا لما اخترناك للقيام به من تحرير بني إسرائيل، وإخراجهم من ذلّ العبوديَّة لفرعون مصر إلى عزّ العبوديَّة لنا.

والدنيا «فتنة»؛ أي: دار فتنة واختبار: “كُّل نفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” (لأنبياء:35)، و: “اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ”(البقرة:191)؛ أي: تعذيب المؤمنين لإكراههم على تغيير دينهم أشد من القتل. وشرع القتال دفاعًا عن حريَّة العقيدة، ولمنع هذا النوع من الفتنة، قال تعالى: “قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ” (البقرة:193)، وقال تعالى: “فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ” (يونس83)، أي: أن يُعذّبهم لإكراههم على العودة إلى عبادته “إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ” (البروج:10).

وتأتي «الفتنة» بمعنى الإلجاء إلى الانصراف عن شيء بالإكراه أو بالتزيين والإغراء: “وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا” (إسراء:73)، “وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ” (المائدة:49). و«النعم» و«النقم» في الدنيا تجري مجرى الاختبار والتمحيص للبشر: “َاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ” (الأنفال:28).

وقد تُظهر «الفتنة» في هذا المجال أنّ بعض الأزواج والأولاد أعداء من حيث تأثيرهم السلبيّ على الأزواج والآباء وإسقاطهم في الفتنة: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (التغابن:14). والناس -جميعًا- في هذه الحياة الدنيا في حال ابتلاء: “يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا” (الملك: 2)، “الم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت:1،2)، “وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَة” (لمائدة:71). و«المفتون»: مَنْ استجاب لدعاوى الفتنة فسقط فيها: “بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ” (القلم:6).


حقيقة الفتنة في اللغة

إنّ هذه الاستعمالات المتنوّعة في لسان القرآن تنبّه إلى أنّ مادة هذا المفهوم اللسانيّة دائرة به بين «الاختبار، والابتلاء، والتمحيص، والصرف عن الشيء، والإضلال عنه، والعذاب، والرخاء، ولوازم بعض هذه الكلمات أو المصطلحات ومقدّماتها»، وحين نبحث عن هذا المفهوم خارج الاستعمال القرآنيّ نجد أنّ الاستعمال قد انتقل -لدى المحدثين ثم الفقهاء- إلى لوازم تلك المعاني، فحذيفة -رضي الله عنه- كان ذا عناية بحفظ سرّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في المنافقين(1).

وهناك مَا عُرف بـ«ـأحاديث الفتن»، و«فتنة الهَرْج»؛ أي: القتل، ترد كثيرًا في الأبواب التي تتناول «أشراط الساعة وعلاماتها»، وسنأتي على ذكر بعضها،ولدى الفقهاء يكثر التعبير بقولهم: “إذا خيفت الفتنة”؛ أي: الافتتان بجمال المرأة الدافع إلى الرغبة فيها. ويقول بعضهم: بأنَّ على المرأة الجميلة تغطية وجهها إذا خيفت «الفتنة» بذلك المعنى.

ويكثر استعمال «الفتنة» في الشِّعر العربيّ في الغزل والنسيب. و«الفتنة» أوسع من ذلك وأشمل -كما تقدّم- لكن المعنى الأجمع هُوَ «الابتلاء» بأنواعه للتمحيص، ولإمضاء السنن الإلهيَّة، لا للجزاء؛ لأنّ الجزاء أخرويٌّ -كلّه- في هذه الشريعة مَا عدا الحدود، إذا أُقيمت في الدنيا على الجاني رُفعت العقوبة عنه في الآخرة.

عموم البلاء في الفتن

ولذلك فإنّ الجماعة أو الأمَّة التي تسمح لأيّ فريق منها بالظلم -في أيّة صورة من صوره- ولا تأخذ الطريق على الظالمين والمفسدين وتمنعهم منه فإنّها تؤخذ بجريرتهم، وتصيبهم -جميعًا- «الفتنة»:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(الأنفال:25)، وقد ضرب الله لنا في القرآن مثلًا بـ«ـأصحاب السبت» لنأخذ منه العبرة والدرس: “وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ*وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ*فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ*فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ” (الأعراف: 163-166).

إنّ القرآن أراد أن يُوجد مجتمعًا متكافلًا متضامنًا كالبنيان المرصوص، فلا يتقبّل القرآن المجيد تلك النماذج القاعدة الكسلى، التي ترى الظلم والفساد يُحيط بكل مَا حولها فلا تحرِّك ساكنًا إلاّ إذا أصابها بشكل مباشر؛ خوفًا على النفس أو الرزق أو المال والولد.

وفي هذه الأحوال تكون هذه الأمور من «الفتن التي يفتن الناس بها» في هذه الحياة الدنيا، فالقرآن ينبّه على أنّ إنكار المنكر والوقوف بوجهه -مهما كان ثمنه- فإنّه أقل من ثمن السكوت عنه، وعدم مقاومته، فيعمّ العذاب المجتمع كلّه، فكأنّ الآية الكريمة تضع أولئك -الذين لم يقعوا في الظلم ولم يشاركوا فيه، ولكنّهم سكتوا عنه- بين خيار الإنكار والرفض مع تحمّل مَا قد يجرّه ذلك عليهم، أو عدم الإنكار والسكوت بانتظار العذاب الَّذِي سيعم الجميع، وينالهم نصيبهم منه، فذلك «قانون اجتماعيّ قرآنيٌّ» لا مفر منه، فالإنكار يُنَجّي المنْكِرَ من عذاب الله: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ” (الأعراف:165).

مجتمع الإيمان

إنّ القرآن المجيد أنبأ بما عاهد عليه المسلمون الله -تعالى- أن يقيموا مجتمعًا مؤمنًا موحّدًا، مزكّى طاهرًا، يُعمر الأرض ويُقيم فيها العدل والحريّة والعمران، مجتمعٌ كَفَلَ القرآنُ المجيد بيانَ منهجِ إقامته؛ ليكون المجتمع النموذج، وأرسى دعائم القواعد والأصول والمبادئ التي تكفل إقامته على أقوى الدعائم، وأمتن الأسس؛ لحفظه، وإنماءه وتقويته، مجتمع يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق به أن ينتسب إلى الله. مجتمع تقيّ القلب، نظيف المشاعر، سليم اللسان، عفّ السريرة وطاهرها. مجتمع أو عالم له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره، أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه.

وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظّمة لأوضاعه، وله نظمه القرآنيَّة التي تكفل صيانته، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الإيمان بالله وتوحيده والأدب معه، فيتوافق باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائع هذا المجتمع ومشاعره، وتتوازن فيه دوافعه وزواجره، وتتناسق فيه أحاسيسه وخطاه، وهو يتجه ويتحرك إلى الله -تعالى- باسمه، ولا يوكل بناء وتنظيم ذلك المجتمع لمجرد التشريع والتنظيم، بل يتضافر فيه الإيمان ويقظة الضمير، ونظام المجتمع وشرائعه، والقوانين الحاكمة فيه.

فلا يسبق العبدُ المؤمن إلهَه في أمر أو نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم، ولا يتجاوز مَا يأمر به وما ينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيًا مع خالقه؛ تقوى منه لله وخشية ورغبة ورهبة منه له -سبحانه- وحياءً منه وأدبًا معه، مجتمع له أدب خاص مع خطاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقوم على توقيره وتعزيزه.

وهو مجتمع له منهجه في التثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصادرها، وحماية وصيانة شرف كل فرد فيه. هذا المنهج داعٍ إلى تقوى الله، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله، في غير مَا تقدم بين يديه، ولا اقتراحَ لما لم يطلبه ولم يأمر به، ولا استباق له: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ*وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ*فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم” (الحجرات:6-8).

وهو مجتمع بشريٌّ مهما سما؛ ولذلك كانت له نظمه وإجراءاته العمليَّة في مواجهة مَا يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات تُخَلْخِل كيانه لو تُركت بغير علاج، وهو يُواجهها بإجراءات عمليَّة علميَّة منبثقة من قاعدة الأخوّة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه: “وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”(الحجرات:9،10).

وهو مجتمع له آدابه النفسيَة في مشاعره تجاه بعضه البعض، وله آدابه السلوكيَّة في معاملاته بعضه مع بعض: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (حجرات:11).

وهو مجتمع نظيف المشاعر، مكفول الحرمات، مُصان الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بِظنَّة، ولا تُتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرماتهم وحرّياتهم وخصوصيَّاتهم فيه لأدنى مساس: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيم” (الحجرات:12).

وهو مجتمع له رؤيته وفكرته الكاملة عن وحدة الإنسانيَّة؛ المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب، وله ميزانه الواحد الَّذِي يقوم به المجتمع، إنّه ميزان الله المُبَرّأ من شوائب الهوى والاضطراب: “يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات:13).

هو المجتمع النموذجيّ الرفيع الكريم النظيف السليم، يحدّد معالم الإيمان الَّذِي باسمه دُعي المؤمنون إلى إقامة ذلك النموذج، وباسمه هُتف لهم ليلبّوا دعوة الله الَّذِي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل، الَّذِي يؤسّس الحافز إلى التلبية والتسليم: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…” ذلك النداء الحبيب الَّذِي يخجل مَنْ يُدعى به من الله أن لا يجيب النداء، والذي يُيسر كل تكليف ويُهون كل مشقة، ويُشوق كل قلب فيخبت ويلين ويسمع ويستجيب.

إنّه مجتمع وهبه الله للبشريَّة ليكون نموذجًا لها، تُشعرها رؤيتها له بعظم تلك الهبة الإلهيّة، والتي جعلت من هذه الأمَّة خير أمّة أخرجت للناس، أمّة وسطًا استحقت -بكل الصفات التي ذكرها الله تعالى- أن تكون وسطًا بين الأمم، شاهدة على الناس(2).

أمّة القرآن

إنّها أمَّة بُنيت بتوجيهات القرآن الكريم، وبالتربية النبويّة الحكيمة لإنشاء وتربية تلك الأمّة المسلمة، والتي مثَّلت ذلك المجتمع الرفيع الكريم النظيف السليم، الَّذِي وجدت حقيقته يومًا على هذه الأرض، فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثاليَّة، ولا حلمًا طائرًا يعيش في الخيال!

لقد نَمت هذه الأمَّة نموًّا طبيعيًّا بطيئًا، كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور، وأخذت الزمن اللازم لنموّها، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطّرد الضروريّ لهذا النمو، واحتاجت إلى العناية الساهرة، والصبر الطويل، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب، والتوجيه والدفع، والتقويّة والتثبيت، واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعيَّة المريرة، والابتلاءات الشاقَّة المضنية، مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات، وفي هذا كلّه كانت تمثّل الرعاية الإلهيَّة لهذه الأمَّة المختارة -على علم- لحمل هذه الأمانة الكبرى، وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض. وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل -«جيل التلقي»- وفي الظروف والأحوال المهيّأة له على السواء، وبهذا -كلّه-أشرقت تلك الومضة الرائعة في تاريخ البشريَّة، ووُجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنّها حلم مرفرف في قلب، أو رؤيا مجنّحة في خيال(3)!

نقض الميثاق

هذا العهد والميثاق بين الله -تعالى- وبين هذه الأمَّة، لم تستقم الأمَّة طويلا عليه، فالحوارات التي جرت في السقيفة -إذا سلَّمنا صحة نقل المؤرخين لها كما نقلوها- كانت فيها مؤشرات لم تظهر فيها مضامين الرسالة والقيم التي جاء القرآن بها وعاهدوا الله عليها: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة:111).

إنّ الإخلال بهذا العهد الإلهيّ، والميثاق الربانيّ، مدخل وباب واسع للولوج إلى تلك الفتن، والتّـردي في دركاتها، فحين يتجاهل الإنسان ذلك الميثاق، وينصرف عن الوفاء به، تتوقف قوانين التسخير الكونيَّة عن الاستجابة له، والتجاوب معه، وتتمرّد الطبيعة عليه كما تمرّد على خالقه، وتصبح مثل خلايا السرطان، تعمل بعكس الاتجاه الطبيعيّ، فتصبح حركاتها مصدر ضرر وتدمير لما كان عامرًا من الجسم.

هذا النوع من الفتن الناجم عن ذلك هِيَ «الفتن الكبرى» التي تموج موج البحر، لا تهدأ يومًا إلّا لتنطلق من جديد، تستنظق العرب، وتُهلك خيارهم، يكثر فيها القتل دون معرفة الأسباب، لا يدري القاتل لـِمَ قَتل ولا المقتول لِـمَ قُتِل؟ وقد تذكر أسباب، لكنّها ليست أسبابًا حقيقيَّة، يبدو زيفها أو ضعفها عند أول اختبار!

هذه الفتن لا تدع أحدًا إلاّ لطمته، ترتدي مختلف الأشكال، فتبدو مرّة كفتنة دينيَّة أو طائفيَّة أو مذهبيَّة، وقد تبدو بثياب اقتصاد أو ثقافة أو سياسة، أو أيّة ثياب أخرى؛ لأنّ تلُّونها ذلك جزء منها؛ لتورث بذلك الناسَ مزيدًا من الحيرة والاضطراب؛ لأنّ «الفتنة» -في هذه الحالة- مُسَخَّرة وفق منهج معيَّن، ولتحقيق أهداف محدّدة، فكأنّها تتحرك وفق عقل ومنطق وقدرة على الاختيار، اختيار أهدافها بدقة «تدمّر كل شيء بإذن ربّها»، هِيَ نوع أو فصيل من جند الله: “وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ” (المدثر:31).

إنّ مَا لم يذكره القرآن، بل لعلّه أضمره في سياقه، نحو: ومن الذين قالوا إنّا مسلمون أخذنا ميثاقهم، فنقضوه وجلسوا في السقيفة يُساوم كل منهم الآخر، ولم يلبثوا إلا قليلًا ثم اقتتلوا، واستحل بعضهم دماء بعض، وتركوا الكتاب وراءهم ظهريًّا، وحملوه بطريقة مَنْ سبقهم: “مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (الجمعة:5)، ونسوا حظًّا مما ذُكّروا به في القرآن، فطال عليهم الأمد، ولم يرجعوا ولم يتوبوا، فقست قلوبهم، فصار يقتل بعضهم بعضًا، ويُكفّر بعضهم بعضًا، ويفتن بعضهم بعضًا، ولن تتوقف تلك الفتن فيهم حتى يتوبوا؛ لأنّنا أجرينا فيهم سننًا في الذين خلوا من قبلهم: “فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (المائدة:14).

إحالات مرجعية

(1)- راجع الوافي بالوفيات (4/95) ترجمة ابن اليمان وتهذيب الكمال للتمريّ (5/499) باب من «اسمه حذيفة وحذيم» والاستيعاب لابن عبد البر (1/98) باب حذيفة وفقًا لما ورد في المكتبة الشاملة/ الاصدار الثاني (2009م).

( 2 )- في ظلال القرآن، تفسير «سورة الحجرات» بتصرّف.

(3)- المرجع نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *