Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ماذا بعد الربيع العربي؟

بقلم د.طه جابر العلواني

منذ نجاح الثورتين التونسيَّة والمصريَّة، وتفجُّر الثورة الليبيّة واليمنيّة ثم السوريَّة، والنّاس يتساءلون: ماذا بعد؟ ما الذي سيحدث؟ ما الذي حدث وكيف؟ ﴿… أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ (الجن:10)، أهناك سوابق تاريخيَّة يمكن استلهامها في تاريخنا وتراثنا شبيهة بهذا الذي حدث؟ أثورة الشعب الإيراني التي طردت الشاه وأسلمت زمام إيران للإمام الخميني هي التي منحت الثّقة لهذه الشعوب في كونها تستطيع أن تفعل مثلما فعل الشعب الإيراني، والذي استمرت دماؤه تتدفق في شوارع طهران حتى أصبح الجندي الإيراني أو الشرطي أو العامل في منظمة الساﭬـاك يستطيع أن يرى مزيدًا من الدماء والأشلاء، فألقى سلاحه، وأسلم الشاه ونظامه ورجاله الكبار إلى مصائرهم. فهل تأثر هذا الجيل العربي بهذه الخبرة -كما يحلو للإخوة الإيرانيين دائمًا أن يرددوا- فتكون الصّحوة الإسلاميَّة والعربيَّة مدينة للثورة الإيرانية بالسبق الذي حقّقته، أم ماذا؟

بالنسبة لإيران، فهي ذات تقاليد وإرث رسميّ قائم على تراثٍ ساسانيّ فارسيّ، معدّل بإماميّ إسلاميّ، ومعدل مرة أخرى بإرث صفويّ، فهذا هو الذي قد حفر في الذَّاكرة العربيَّة والإسلاميَّة فكرة قوة الشعب حين يثور، وقدرة دمائه -إذا تدفَّقت بغزارة- على إحداث الهزيمة النّفسيَّةِ لدى حُرَّاس النِّظام؛ ليُلقوا بأسلحتهم ويُسلّموا النِّظام ورجاله إلى مصائرهم. كل ذلك وارد، وهذا الهاجس هو الذي جعل الخوف يراود جميع أولئك الذين يريدون أن يروا مصر علمانيَّة مسالمة، دائمة التطلع إلى تحقيق الحداثة والالتحاق بالركب الحداثيّ، سواء قادته أمريكا أو أوروبا أو كلتاهما. والخوف من الإخوان المسلمين أو التيار السلفي أو من يقظة الأزهر وصلاحه، أو من أيّ توجّه إسلاميّ في مصر قد يكون راجعًا إلى عقل باطن ما زالت أحداث الثورة الإيرانيّة -وما أعقبها- ماثلة أمامه. فمع نجاح الثورة الإيرانيَّة في إقامة نظام ديمقراطيّ، وتوزيع مهام السلطة لضمان عدم قيام دكتاتوريَّة فرديَّة إلا إذا التحفت بالمقدّس وتمثلت بولاية الفقيه، ولكن يبدو أنّ ثمّة مؤسسات أخرى يُراد بها ومنها ألاّ تسمح بقيام دكتاتوريَّة إلا على ذلك المستوى -مستوى الولي الفقيه- وهذه أيضًا محكومة بتراث الأئمة ورقابة المراجع. إنّ إيران لم تستغرق وقتًا طويلًا لإقامة مؤسسات النِّظام الجديد، فقد نجحت في استكمال مؤسّساتها وتصحيح مسار ما ورثته من مؤسّسات النِّظام السابق لينسجم مع التغيّرات التي حدثت. أمّا بالنسبة لمصر وتونس وليبيا فإنَّهما حتى الآن تسيران على مبدأ سدّ الذّريعة والأخذ بالأحوط والسير بحذر شديد تجاه بناء المؤسّسات الجديدة، والتي يمكن -إذا قامت- أن تُشكّل النِّظام الجديد.

لا شك أنَّ هناك خبرة مصريّة وتونسيّة كان لكل منها أثرها في إثارة بعض المخاوف، فالخبرة المصريّة رأت كيف استمرأ الضبّاط -الذين أطلقوا على أنفسهم عام (1952م) الضباط الأحرار- السلطة وقرروا الاستئثار بها، وترك ثكناتهم إلى الأبد، والتضحية بشيخهم -الجنرال محمد نجيب- الذي كان شديد التصميم على أن  يعود الجيش إلى ثكناته، وعلى مَنْ يريد ممارسة السياسة من الضباط، فعليه أن يسلك سبيل السياسة المتعارف عليه في البلاد، فيغادر الجيش ويدخل الانتخابات أو يشكل حزبًا أو ينتمي إلى حزب حاكم. المهم أن يأخذ بالوسائل المتاحة ويمارس العمل السياسي من خلالها. فالخبرة المصريَّة تخشى أن يتكرر ما حدث من الضباط، خاصّة وأنَّ المؤسسة العسكريَّة صار من بعض مهامها غير المعلنة أن تُفرز بدائل للسلطة والحاكمين في كل بلد لم تنضج فيه التجارب السياسيَّة، ولم تُبن فيه المؤسّسات الكفيلة بإنتاج نظام ديمقراطي أو شبيه بالديمقراطي يلجأ النّاس فيه إلى وسائل توافقوا عليها لتداول السلطة وتبادل النفوذ.

إنَّ المخاوف إذا استبدّت بأناس فإنّها تجعل أفكارهم جميعًا مرتهنة بالخوف والحذر وكثرة التوقّعات، والحساسيّة المفرطة للأفعال تجعل لها ردود أفعال قد تتجاوزها في الفعل وفي الاتجاه. ولا شك أنَّ عوامل القلق هذه لا تسمح بتحوّل طبيعي تجاه بناء المؤسَّسات وترسيخ دعائم النظام، فالخوف والحذر والتوقعات وإرهاف السمع للشائعات وللتحليلات أيَّــــًا كان مصدرها، حتى تحليلات الخصوم والأعداء ومن يكون الناس على يقين من أنَّهم لا يريدون في البلد خيرًا، هذه الحالة النّفسيّة لا تسمح إلا بتحرّكات قائمة على جسّ النّبض سعيًا وراء ما يكشف عن المجهول أو يُقدّم مؤشرات قد تساعد على فهمه، وهذا هو ما نلمسه في الحالة المصريَّة، وإلى حد ما في الحالة التونسيَّة، وتبقى أسئلة العامّة والجماهير معلّقة تكاد تنحصر في سؤال؛ تُشتق منه وتُبنى عليه تساؤلات كثيرة؛ منها: ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ وما الذي تغيَّر ولم لم نلمس هذا التغيّر؟ وهل هناك جهات يهمها أن تقنع الناس بأنَّ تغيُّرًا كبيرًا قد حدث، في حين أنَّ التغيير لم يتجاوز رأس النّظام وبعض أركان حكمه؟ كذلك تساؤلات يُثيرها اللّيبرالي في وجه الإسلاميّ، والإسلاميّ في وجه الليبراليّ، وسائر الفئات المهتمة بالعمل السياسيّ تصوغ أسئلةً وتطرحها على الآخرين، وقد تحصل على إجابات، سُبقت بتصميم على عدم قبولها ودراستها مسبقًا.

 مرةً أخرى: أين نحن الآن، وإلى أين نتّجه؟ الجواب: نحن الآن في بداية طريق تغيير؛ إمَّا أن يكون إلى الأفضل وإمَّا أن لا يكون، لكنَّه لم تعد أمامه فرص ليكون تجاه الأسوأ، ولعل هذا أحسن ما في الأمر فما من أحد يقبل أو يرضى أو يسمح بالرجوع إلى الأسوأ. والأسوأ يتمثل في أن يستمر الفساد وتبقى فرص المفسدين للاستيلاء على مقدّرات النّاس فرصًا واسعة، ومن هنا فإنَّ شعبنا في مصر وفي تونس -ويمكن أن يًقال عن ليبيا واليمن وسوريا وأي بلد آخر معرّض لأن ينتفض شعبه- إنَّ المطلوب أولًا هو توافق على مشروع حضاريّ نهضويّ إصلاحيّ يرسم نموذجًا مقترحًا لما نريد تحقيقه في المستقبل على جميع المستويات؛ كأن نقول: ما شكل مصر من حيث التقدم والتخلّف، التعليم والجهل، العدالة والظّلم، السياسة والاستغلال والاستبداد والفساد؟ لا شك أنَّ أيّ مواطن يعيش على هذه الأرض الطيبة يتمنّى أن يرى مصر نقيَّة بريئة قد تطهّرت من سائر صنوف الفساد والرشوة، والاستبداد والاستغلال، والفرديَّة والأنانيَّة والاستسلام للشهوات، والخضوع لإرادة الأجنبي وقبول الدنيّة، وتبديد الموارد وتسوّل المساعدات. فكل منا يؤمن أنَّ البلد مهما كثرت نفوسه فإنّ موارده -في داخله وفي عمقه الاستراتيجيّ وفي الفرص المتاحة أمامه- تسمح له لا بأن يصل حد الكفاية فحسب، بل قد يستطيع تجاوزه نحو شيء من الرفاهية، وألاّ يكون 45% من أبناء الشعب تحت خط الفقر بأيّ حال من الأحوال. والأمر ممكن ومتاح إذا وُجدت القيادة الحكيمة؛ والقيادة الحكيمة لا ينبغي أن نتصور أنَّها قيادة ينبغي أن تنزل من السماء أو تنفرج عنها الأرض، بل هي قيادة يمكن أن تكون من رجال البلد الذين يتحلّون بالعلم والخبرة والقدرة والمعرفة، إضافة إلى الخصال التي لا بد من توافرها فيمن يقوم بالشأن العام. وبالتالي فلا ينبغي أن ننتظر مخلِّصًا من الغيب؛ لأنَّ المخلِّص بعد الله هو الأمَّة بكل مَنْ فيها. فإذا أحسنت الأمة اختيار ممثّليها وقياداتهم، وأوجدت المؤسسات القادرة على مراقبتهم وتقويم سياساتهم، فتلك هي القيادة الحكيمة التي نتمناها، نقول: إذا وُجدت القيادة الحكيمة وأقامت دعائم سياساتها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والتعليميَّة والثقافيَّة والتدريبيَّة والإداريَّة والتنمويَّة -بصفة عامّة- على أُسس الرشادة والبُعد عن الفساد والتحصّن والتحصين ضدّ كل ضروب الفسادِ.

لسنا الشعب الوحيد الذي خرج من حالة حروب، مع كل ما تفرضه الحروب من تدمير للاقتصاديات وكثير من جوانب الحياة. فإنَّ التخريب الذي أصاب ألمانيا في الحرب العالميّة الثانية كان مدمّرًا بكل المقاييس، لكن الشعب الألماني حين وجد في أدي ناور قائدًا استطاع أن يُعيد بناء اقتصاديات ألمانيا بسواعد أبنائها، إذا بألمانيا -خلال ثماني سنوات (1946م-1954م)- تتجاوز محنتها كلها، وتخرج من أزماتها، وتصبح أقوى اقتصاد موجود في أوروبا كلها، بما في ذلك اقتصاديات أولئك الذين انتصروا عليها وهزموها. وإنّ مصر بطاقات أبنائها وسواعدهم لقادرة على أن تحقّق شيئًا مماثلًا -ولا نقول أفضل- مما حقّقت ألمانيا. وهناك الكوريتان ونمور آسيا، ولكل منها قصة لا تقلّ في دروسها وعبرها عن قصة ألمانيا، ومصر قادرة بإذن الله ألاّ تكون أقلّ من أحد من هؤلاء.

وبعد بناء التصوّر المطلوب الذي نستطيع أن نقول عنه: إنَّ ذلك هو الشكل الذي نريد أن نرى عليه الإنسان المصريّ والأرض المصريَّة بعد عشر سنوات؛ في سياسته واقتصاده وعلومه ومعارفه وثقافته وتكافل شعبه وتضامنهم ووعيهم بأدوارهم الإقليميَّة والعالميَّة، فإنّنا نحتاج أن نضع مشروعنا الحضاريّ النّهضويّ بشكل علميّ قائم على دراسة أرضنا وشعبنا ومواردنا وثقافتنا، ومعرفة موضع الخلل وكيف يتمّ الإصلاح، وليحشد لكل جانب من جوانب الحياة أفضل العلماء ليقوموا بدراساتهم  العلميَّة في وضع هذا الجانب أو ذاك من نظم الحياة في إطار المشروع الشامل. إنَّ كندي حينما رأى تغلّب الاتحاد السوفيتيّ على أمريكا حين سبقها بإرسال أول إنسان إلى القمر أعلن استنفارًا عامًّا لتغيير نظام التعليم في أمريكا، بحيث يجعل الإنسان الأمريكي أقدر من الروسي وغيره على الاستفادة من معطيات العلم، وقد حشد أفضل الطاقات الأمريكيَّة التربويَّة، وجعلهم يعملون ليل نهار لإعادة النّظر في كل ما يتعلّق بنظام التعليم. وحينما فعل ذلك وأنفق أولئك العلماء ثمانية عشر شهرًا ليخرجوا لأمريكا نظام تعليم يضمن لأبنائها التفوّق على سائر الموجودين على الكرة الأرضيَّة استطاع أن يبعث إنسانًا إلى القمر ويسبق الاتحاد السوفيتي في أبحاث الفضاء وتزدهر ناسا وتصبح الآن المحضن العلمي الذي يتابع كل شيء لصالح التفوّق الأمريكي. ولا تعدم البشريَّة فائدة من أبحاث ناسا وما تتوصل إليه.

وفيما يتعلّق بالسياسة والسياسيّين، فالسياسة ليست هواية وليست تملّقًا لنخبة أو جماهير أو عسكريين أو مدنيين، أو لمعتنقي هذا الدين أو ذلك المذهب. بل هي فنّ تنظيم الحياة وقيادة الناس تجاه ما يصلح لهم ويحقّق طموحاتهم ويجعلهم يُصلحون في الأرض ولا يُفسدون، ويُعمّرونها بالحق والعدل والخير، ويُوجدون الإنسان المزكّى بالعلم والمعرفة والخبرة والإيمان والتجارب والوعي، بحيث لا تتكرّر الانحرافات، وتوجد آلية لضبطها عندما تحدث وللتخلص منها قبل أن تستشري، ولنا من تراثنا الدينيّ والتاريخيّ وثقافتنا تجارب عديدة وخبرات كثيرة يمكن أن تصبّ في هذا الإطار لتوجِد السياسيّ الذي يرى أنَّ السياسة هي العناية بشؤون الأمَّة وتحقيق مصالحها والدفاع عنها وإيصال الشعب -بكل مكوناته- إلى حقوقه، وتمكينه من أداء واجباته وتحقيق الـمثل الذي يُفترض أن يكون مرتسمًا في ذهنه بالتعليم والتربية ووسائل الإعلام والتثقيف.

وأمَّا النّظام الاقتصادي فإنَّ مهامّه كبيرة في معرفة موارد البلد، وإمكاناته في محيطه الجغرافيّ الخاص الشامل لترابه ومياهه وهوائه وأجوائه، دون إغفال لإمكانات عمقه الاستراتيجيّ وموقعه الجغرافي ومحيطه وكيفيّة الاستفادة به وتوظيفه للوصول إلى ما هو مطلوب، والحيلولة بين هذا الشعب وبين أن يجوع أو يعرى أو تغرق مدنه في الظلام والفوضى، أو يعجز إنسانه عن المحافظة على صحته أو العثور على الدواء عندما يحتاجه أو الطبيب والمستشفى حينما يكون به حاجة إلى زيارتهما. إنَّه الإنسان الذي لا يكون كَلًّا على أحد؛ لا بوصفه فردًا ولا بوصفه شعبًا، الإنسان الذي أينما توجّهه يأتِ  بخير، الإنسان الحرّ القادر على أن يأمر بالعدل ويطالب به ويحقق جميع الضمانات لتحقيقه، الإنسان القادر على الإنفاق على نفسه وأسرته ومَنْ يعول، والمساهمة في بناء المجتمع والوطن أو البيئة الجغرافيَّة التي يعيش ذلك المجتمع فيها، هذا المشروع لا تستطيع فئة واحدة أن تبنييه، بل لا بد من تضافر جهود العلماء كافّة، ولا بد من استنفارهم جميعًا لبناء ذلك المشروع الحضاريّ التوافقيّ الذي سيعطي للناس الأمل ويمتص عوامل الخوف والقلق ويُخرجنا من دائرة ردود الأفعال والمزايدات ومحاولة هذا الفريق أو ذاك جسَّ نبض الآخرين ليُزايد عليهم أو يهجوهم، ويعمل على التقرّب إلى الجماهير بالتقليل من قيمتهم وإعلاء قيمة نفسه.

كنت أتمنّى أنَّ ما عُرف بوثيقة الأزهر وما صدر من بيانات من كثير من السياسيّين ودعوات من المجلس العسكري أن تتركز كلّها حول بناء هذا المشروع الحضاريّ الإصلاحيّ، وحشد جميع الطاقات لوضع مفرداته، ثم إعداده ليدخل في برامج التعليم والإعلام والتثقيف والتوعية، وليجعل أمام الجماهير أهدافًا توافقت عليها وعرفت بداياتها ونهاياتها، وتعلّمت وتدرّبت على كيفيّة السَّعي لها، آنذاك يمكن أن تسقط كثير من المخاوف والأحوال النفسيَّة التي نخشى أن تفترس جميع المشاعر الطيبة التي استقبل النّاس بها الثَّورة والثَّائرين.

اللهم أبرم لهذه الأمَّة أمر رشد، إنَّك على ذلك قدير، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *