Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نحو بناء ثقافة الانتخاب

د. طه جابر العلوانى

لقد طرح عليّ بعض السائلين هذا السؤال: “لو كنت واحدًا من المنتخبِين الذين سيشاركون فى الانتخابات القادمة فى مصر أو في غيرها. فمَنْ ذا الذى سترشّحه، ومَنْ ذا الذى ستنتخبه؟” وقد أجبت بما وُفّقتُ إليه من قول، وأرجو أن يكون نشره نافعًا ومفيدًا.

السلطات وتقسيماتها بين الحضارتين: الإسلامية والغربية الحديثة

بعد مسيرة طويلة وكفاح شاقّ قضته بريطانيا وبعض الشعوب -التى شكّلت فيما بعد أوروبا_ باتجاه الديمقراطيَّات الحديثة، بدأت بعض النُّظم فى تلك القارة بإقامة نظام ديمقراطى قائم على توازن دقيق بين سلطات ثلاث:  السُّلطة القضائيّة «المحكمة العليا»،  السُّلطة التشريعية «البرلمانات»، السُّلطة التنفيذيّة «الحكومة».

وكل جهة من هذه الجهات تتوازن مع الجهتين الأخريين بدقّة بالغة لا تسمح لأيٍّ من الجهات الثلاثة أن تخرج عن أهدافها، أو تنحرف عن غايتها. وكل منهم يستمدّ شرعيّته -بطريقة أو بأخرى- من الشعب، فالشعب فى تلك الديمقراطيَّات هو صاحب الكلمة العليا، وهو الذي يمنح تلك المؤسَّسات الثلاث شرعيَّتها، وهو مَنْ يستطيع أن يسحب تلك الشرعية -إذا أراد- بطرق تمَّ تقنينها، وأعراف أخذت أحكام التقنين.

أمَّا بالنسبة لنا -نحن المسلمين- فقد عرفنا موضوع السُّلطات الثلاث فى تاريخنا فحصرناها بين طائفتين من أبناء الأمَّة، أطلقنا عليهما فى مختلف الفترات التاريخيَّة أسماءً وألقابًا تُنبِّه إلى وظائفهما؛ وهم «العلماء» و«الأمراء»، ويندرج تحت مفهوم «العلماء» القضاة والمفتون وأصحاب المدارس والمذاهب والمقالات الفكريَّة، كما يندرج تحت مفهوم «الأمراء» الخليفة ووزراء التنفيذ والتفويض وقادة الجيش وما إلى ذلك، في تفاصيل تُعرف معظمها من المصادر المتخصِّصة  في دراسة تلك النُّظم وتواريخها.

إنّ ذلك الترابط بين «العلماء» و«الأمراء»، أو«السلطات الثلاث» فى الديمقراطيَّات الحديثة هو الصيغة التى يرى فيها الشعب -بمختلف فئاته- كيف تتشابه وتتصل ألوان الحياة المختلفة -الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيَّة والفكريَّة- بالنظم والتشريعات عند الشعوب  تأثيرًا وتأثُّرًا، وكيف يُربط بينها برباط وثيق يجعل تلك المراحل -في بعض الأحيان- متناسقة في تحوّلها وسيرها باتجاه المستقبل، أو يجعلها متنافرة في مسيرة التحوّل، بحيث يمكن أن تؤدي إلى تطوّر ثابت راسخ الأقدام، أو إلى ثورة بمعناها الواسع.

إنّ كلاًّ من الفقيه المسلم على المستوى الإسلامي التاريخي، والمشرّع الأوروبي على مستوى التاريخ الأوروبي يحرص -بغضّ النّظر عن سائر أوجه الخلاف الدقيق بينهما- على جعل قوانين ونظم البلاد والتشريعات الحاكمة وأصولها أداة مرنة منظّمة قادرة على تنظيم الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بكفاءة ومرونة وقدرة تامة على تحقيق الأهداف العليا للشعوب. ومن المعروف أنّ ظروف الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة تتغير ولا تكفّ عن التغير، خاصة عندما تتقدّم التِّجارة وتتطور الصناعة وتزيد الاكتشافات العلميّة وما إلى ذلك.

ما بين النّظام البرلماني ونظام الشورى

إنّ «النِّظام البرلماني» يعتبر من أهم ما وصلت إليه البشريَّة لانفراد الشعب فى حكم نفسه وإعطائه فرصة التعبير عن ذاته، وإدراجه ضمن صُنّاع القرار. وقد يُطلق بعض مَنْ يكتبون في النُّظم على تلك المجالس النيابيّة أو البرلمانات اسم الجمعيّات الوطنيّة أو مجالس الشورى. إنَّ المنشغلين بهذا النوع من المعرفة –منذ ظهرت الديمقراطيَّة في أثينا أولاً- يتحدَّثون عن الجمعيَّة الوطنيَّة وممَّ  ينبغي أن تتألف، وعن الحضور والمشاركة، ومكان انعقاد الجمعيَّة، والتمييز بين اجتماعات الجمعيّة الهامّة والأقل أهميّة، وكيفيَّة التصويت؛ سواء بالإشارة بالرأس أو برفع اليد. وتتولى الجمعيّة الوطنيّة النّظر فى معظم الشؤون العامّة التى تتصل بالحرب أو السلم، والتشريعات واختيار السفراء ومراقبة الشؤون الماليّة، كما تنظر فى بعض المسائل الدينيّة والماليّة، وكثير من الشؤون الأخرى.

أمَّا في واقعنا التاريخيّ فإنّنا لا نجد تنظيمًا دقيقًا ومفصَّلاً، يفصل ويحدِّد كل ما يتعلّق بالـ«شورى» وكيفيَّة ممارستها؛ لأنَّ الأمَّة كلَّها قد اعتبرت مسؤولة عن القيام بالشهادة والحضور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحماية الأمَّة وحياتها من الانحراف. وكان للعرف -الذي اعتبره بعض الفقهاء أصلاً من الأصول- تأثير فى هذا المجال،  لكنَّ قضيَّة الشورى ظلّت حاضرة في الذَّاكرة المسلمة – ولو على سبيل الإجمال – التي لا يمكن أن تنفصل انفصالاً تامًّا عن القرآن المجيد. ، وبقيت الأمَّة تُثني الثَّناء الكثير على السُّلطة التنفيذيَّة أو الخليفة أو السلطان إذ يُعنى بالشورى ويضعها فى المجال المناسب، وكانت المقاصد القرآنيَّة العليا ومقاصد الشريعة في كل مستوياتها الأساس الملهم لقوى الأمَّة بما ينبغي أن تكون عليه نُظمها، وبرزت فكرة الدَّولة الشرعيَّة وشكلها والقواعد التى تقوم عليها في الذِّهن المسلم، وبقيت حاضرة فيه. ولعلَّ وجود صورة الدَّولة الشرعيَّة في العقل والوجدان المسلم هو الذى يجعل المسلم فى كثير من الأحيان يشعر بالأزمة تجاه ما يقوم على أرضه من نظم، لأنّه من كان ينظر إلى النُّظم التى تقوم فى بلاده ويحدد موقفه منها وجدانيًّا بالقياس إلى تلك الصورة.

ملامح الدولة الشرعيَّة في  كتب الإمامة والسياسة والفقه

أولاً: الدَّولة الشرعيَّة هى دولة دعامتها الأولى «الشريعة» المنبثقة عن العقيدة، وجوهرها هو التَّوحيد. ولذا ينبغي  ملاحظة التوحيد بكل تجليّاته وانعكاساته على السلطة عند تحديد دورها. أمَّا ممارسة السّلطة نفسها فهي تخضع للقواعد التي تصدر عن الشريعة. وهنا تجتمع العقيدة والشريعة لتحديد ورسم قواعد النظام السياسي.

ثانيًا: تتقرّر شرعيّة الدولة في إطار ممارسة تجمع بين الحكم والهداية والقوة. فالقوة مقيّدة في استخداماتها في حدود الحقّ المنـزَّل، وليس الحق كما يراه كل فرد من النَّاس حسب هواه -حاكمًا كان أم محكومًا- والحق هو الذى يحدّد الوجهة التي على الدولة الشرعيّة أن تتجه إليها.

إنَّ الحق هو ما يحدّده الكتاب والميزان؛ أي الشَّرع، فنحن أمام معادلة بين الكتاب والميزان والحديد، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (سورة الحديد: 25) وهذه الأصول الثلاثة ترتبط بالشرع والشريعة، فلا تكون الدولة شرعيّة إذا لم تضع -جنبًا إلى جنب- الكتاب والميزان والحديد؛ ليقوم النَّاس بالقسط، ولتتحقق منافعهم.

ثالثًا: إنَّ الأمَّة هي قاعدة الدولة الشرعيّة، فرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- جاء   للنَّاس بالتوحيد وبناء الأمّة وإقامة الدَّعوة بها. فالأمَّة هي قاعدة الدَّولة الشرعيَّة، وهي الجماعة السياسيَّة المنوط بها -بحكم العقيدة والشريعة والدَّعوة والرسالة- أمانة الخلافة، وبذلك يكون الخليفة أو الرئيس أو صاحب الولاية العامَّة في الأمَّة هو القائم على حراسة الدِّين، وسياسة الأمَّة به فى إطار الشريعة، فهو موكل من الأمَّة بهذه الأمانة بموجب عقد البيعة؛ ولذلك كانت البيعة للتعبير عن الأصل فى القيادة الشرعيَّة القائمة على الاختيار والرضا لا على الفرض والإرغام، فهي علاقة تعاقديَّة تُشكِّل جوهر الرِّضا؛ ولذلك قال الماوردي: “هي عقد مراضاة واختيار”. أمَّا الهيئة أو المؤسَّسة التي تقوم بهذا العقد، وتسهر على احترام شروطه وتوفير فرص الوفاء من جميع الأطراف له ، فإنَّما هي التي عُرِفت في تاريخنا بـ«أهل الحلِّ والعقد»، فإذا اقتضى العقد أن تكون الطاعة والالتزام حقًّا على المحكومين بموجب عقد البيعة أو الإمامة، فثمَّة حدود لتلك الطاعة وشروط لا بد من استيفائها؛ ومنها أن يكون الإمام المختار أهلاً للإمامة. ولا تنتهي واجبات الأمَّة عند التأكُّد من أهليَّته، بل لا بد أن تستمر الأمَّة فى عمليَّة الرِّقابة على الحاكم، ولها حقُّ المحاسبة والمساءلة والتأكُّد التَّام من التزام ذلك المنتخَب بالشرع، والتزامه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما دامت الأمَّة هي القاعدة فهي مسؤولة دائمًا عن مراقبة القيادة والاطمئنان إلى سلامة أدائها، وحالة الرضا -رضا الأمَّة- يجب أن تكون مستمرَّة ما دام الحاكم يمارس مسؤوليَّة الحكم، وحالة الرضا هي معيار موضوعي، لا ينبغي أن تتحكم فيه أو في التعبير عنه أو في إظهاره أو إخفائه ظروف أو مصالح، ولا يمسّه تضليل للمحكومين أو استحواذ على رضائهم بأيِّ شكل من الأشكال.

رابعًا: إنّ النِّظام فى الدولة الشرعيَّة يقوم على وحدة اندماجيَّة بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم ينبغي أن يكون منكم لا عليكم: “أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم”، وحين يصبح الحاكم حاكمًا عليك -أي متسلِّطًا- فذلك يعني وقوع انحراف لا بد من المسارعة إلى تقويمه.

فروق بين الدولة الشرعيَّة والدولة الدينيَّة

قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنَّ الدولة الشرعيَّة التي نتحدث عنها هي الدولة الدينيَّة، على اعتبار أنَّ كلاًّ منهما يقوم على الدين بوجه من الوجوه. ولإزالة هذا الوهم نستطيع القول أنَّ «الدولة الشرعيَّة» نتجت عن الخبرة الإسلاميَّة، ورسم معالمها القرآن المجيد وسنة الرسول صلَّى الله عليه وسلم. أمَّا «الدولة الدينيَّة» فهي دولة عرفتها الدول الأوروبيَّة في العصور الوسطى، حيث قامت مؤسَّسة الكنيسة -وهي المؤسسة الدينيَّة الأم- لتعلن نفسها مصدرًا وحيدًا لقيادة القواعد التي تسير الدولة عليها، ومنحت تلك القواعد صفات القداسة، فلم تترك مجالاً لأحد سوى رجال الكنسية وقادتها ليقوموا على تطويرها أو تفسير فحواها، مما أدى إلى أن تصبح الكنيسة قمّة هرم لطبقة اجتماعيَّة ذات مصالح اقتصاديَّة واجتماعيَّة متميزة، تحتكر تفسير الشؤون الدينيّة بما يخدم صالحها وصالح الطبقة التي تمثّلها، مما أدّى إلى تلك المشكلات الكثيرة التي امتلأ بها التاريخ الأوروبي.

إنَّ الدولة الشرعيَّة في الإسلام لم تعتمد على أيّ مؤسّسة، ولم تكرّس وجود طبقة أو فئة على سواها، فهي مختلفة اختلافًا بيِّنًا عن الدولة الدينيّة، كما أنها تختلف عن دولة القانون والدولة المدنيّة والدولة العقائديّة وسائر تلك الأشكال إذا ما تمّ إمعان النَّظر فيها.

إذا تبيَّن ما ذكرنا فإنّ مَنْ  أنتخبه هو من يتصف بالصفات الآتية

أولاً: إنسان فاهم للدولة الشرعيّة ولسائر الفروق الدقيقة بينها وبين أنواع الدول الأخرى، وهو يشاركني الاعتقاد بضرورة إقامة تلك «الدولة الشرعيّة» التي تستند إلى المعادلة التى ذكرنا، ويكون إعطاء صوتي له عقدًا بيني وبينه على الالتزام بذلك.

ثانيًا: إنَّ لهذه الأمَّة هوية، فهي أمَّة تم اصطفاؤها وتحميلها أمانة الكتاب: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (سورة فاطر:32)، والالتزام بهويّة الأمّة  هو جزء من التزام بيني وبين النَّائب الذي سأرشِّحه، فلا بد له من فهم تام لعناصر الأمَّة، ومقوماتها ودعائمها، ووحدتها.

ثالثًا: أن يكون ذا فقه في وظائف الشورى والمجالس النيابيَّة وطريقة عملها وما أنيط بها من مسؤوليَّات، ويكون له قدرة على إيقاف ما يتعارض مع العقيدة والشريعة إذا ما عُرض على المجلس ما يوصف بذلك.

رابعًا: أن تكون لديه خبرة بالمشكلات الاقتصاديَّة والاجتماعيّة على مستوى الأمّة وعلى مستوى القطر المحلي، وله عقليَّة معرفيَّة وعمليَّة لتقديم مشاريع حلول لتلك المشكلات؛ ومنها الفقر والمرض والتخلّف والبطالة والعنوسة والفساد الإداري وفشل خطط التنمية والتربية والتعليم، وتكون لديه فكرة عن كيفيَّة إصلاح كل منها إصلاحًا علميًّا، يضع الأمَّة على طريق الصلاح والتنمية والعمل على تحقيق العدالة والمساواة  وحراسة الحريات وحمايتها من أيَّة محاولات للاعتداء عليها.

خامسًا: أن يضع المرشَّح كل تاريخه وتاريخ أسرته وأملاكه،وتوجّهاته السياسيّة وعلاقاته المتنوعة بين أيدي الناخبين، ليعرف الناخبون كل شيء عن ماضيه وتاريخه وعمله وممارساته؛ لأنّ الناخبين هم مَنْ سيقرِّر ما إذا كان يصلح لتولِّي هذا الأمر أم لا، وإذا كان سيحمل هذا الأمر أم لا؟

سادسًا: أن يتصف المرشح بالعدالة، وهي صفة تقوم بالنفس بحيث تمنع الإنسان من خيانة ربه، أو أمته أو نفسه، وتمنعه من الوقوع في الكبائر أو الإصرار على الصغائر. كما يجب أن يتصف بتقوى الله في السر والعلن، فضلا عن الأمانة والقوة.

 

هذا وبالله الموفق إلى سواء السبيل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *