د.طه جابر العلواني
شهر رمضان المبارك لعام 1431هـ على الأبواب، وخير ما يُوصف به هذا الشهر الكريم أنَّه «شهر القرآن»، فهو يذكِّرنا، بل يحملنا على تلاوة القرآن وترتيل القرآن وتدبُّر القرآن ومُدَارسة القرآن، وفهم معاني القرآن ومقاصده ورسالته العالميّة وخطابه الكونيِّ، والتحلِّي بأخلاق القرآن؛ فحين سُئلتْ أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- قالت: «كان خلقه القرآن»، والصيام موسم الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل، فالصبر الجميل تعبير عن تحمُّل سائر ما يصادف الإنسان من مصاعب ومصائب دون شكوى إلا للقادر على رفع الضُّرِّ ودرء الشر؛ ولذلك قال سيدنا يعقوب: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:86)، مقترنًا ذلك بالصبر الجميل، حيث قال -عليه السلام- كما ورد في القرآن: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف:18)، فالشكوى إلى الله لا إلى سواه؛ لأنَّنا في «الصبر الجميل»؛ لأنَّ شكوى الإنسان لربه دليل إقراره لعبوديَّته له، ولجوئه إليه، وافتقاره له سبحانه بالاستعانة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة:5)، وقد ذكر القرآن المجيد كثيرًا من شكاوى الأنبياء إليه -سبحانه وتعالى- وثناء الله -سبحانه- عليهم؛ لأنَّهم لم يشتكوا لغيره -تبارك وتعالى- وقد أُثِر عن موسى -عليه السلام- أنَّه كان يُكثر من ترديد قوله: «اللهم لك الحمد وإليك الشكر وأنت المستعان، وبك المستغاث وعليك التكلان»، وعندما ردَّ أهل الطائف رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- ورجموه بالحجارة رفع رأسه الشريف بالشكوى إليه سبحانه قائلا: «اللهم إليك أشكو ضعف قوَّتي وقلَّة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى مِنْ تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، غير أنَّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينـزل بي سخطك، أو يحلَّ عليَّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»، ذلك هو الصبر الجميل الذي نواجه به مصائب الدنيا ومتاعبها.
أمَّا «الصفح الجميل» فهو أن تعفو عمَّن ظلمك، وتصل من قطعك دون عتاب أو جزاء بالمثل، إنَّما تصفح لوجه ربِّك: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ (الشرح:8) طمعًا في صفحه -سبحانه- عنك يوم الدين.
وأمَّا «الهجر الجميل» فهو هجر من يستحق أن يُهجر بلا أذى، والثلاثة قد جاء القرآن الكريم بها: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ (يوسف:86)، ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر:85)، وجمع الصبر والهجر في قوله سبحانه تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا﴾ (المزمل:10)، فنسأله -سبحانه وتعالى- أن يوفِّق الصائمين جميعًا إلى الاستفادة من هذا الشهر المبارك؛ لتعلُّم «الصبر الجميل» و«الصفح الجميل»، و«الهجر الجميل»… إنَّه قريب سميع مجيب.
ولقد شهد الشهر الكريم أيضًا وشهدت أمتنا فيه أزهى أيام انتصاراتها؛ ولذلك فإنّه لابد من تذكّر هذه الانتصارات وإحاطتها بالشكر الجميل لله -سبحانه وتعالى- أن وَفّق إليها، وفي مقدمة هذه الانتصارات الانتصار الأعظم في غزوة بدر في 17رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وفتح مكة في 20رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، وفي صبيحة يوم الجمعة الموافق (25رمضان 479هـ) وقعت معركة الزلاقة “سهل يقع على مقربة من البرتغال الحالية”، انتصر فيها جيش المرابطين المسلمين في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين على جيش الفرنجة البالغ ثمانين ألف مقاتل. كما كان انتصار المسلمين في معركة عين جالوت “قرية بين بيسان ونابلس” في ( 25رمضان سنة 658هـ) بقيادة السلطان قُطُز سلطان المماليك في مصر، بعد أن صاح بأعلى صوته: “واإسلاماه”، وقد انتصر فيها على المغول. وكذلك في (الثامن والعشرين من رمضان سنة 92هـ/ 19يوليو711م) وقعت معركة طريف تمهيدًا لفتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد، بعد أن هزم “روذريق” قائد القوط في معركة حاسمة تُعرف بـ”معركة البحيرة”، وذلك بعد أن استولى على مضيق جبل طارق وأحرق سفنه، وقال كلمته المشهورة: “البحر من ورائكم والعدو من أمامكم”، ثم تم بعدها فتح قرطبة وغرناطة وطليطلة العاصمة السياسيّة للأندلس.
إذن، فلم يكن الشهر الكريم في حياة هذه الأمّة -منذ تشريع الصيام- إلا شهر صبرٍ وإيمانٍ وجهادٍ وتربيةٍ وإعدادٍ للمسلم ليعيش عامه كله إنسانًا ربّانيًا صابرًا مرابطًا مجاهدًا شاكرًا لأَنْعُم الله، ذاكرًا تاليًا قانتًا له سبحانه وتعالى، لا تدركه الغفلة، ولا يُدلف إليه الانحراف… والله أعلم.