Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نحو إخراج الاجتهاد من مضيق الفقه إلى رحابة القرآن

د.طه جابر العلواني

 كثيرون هم الذين تحدثوا عن الاجتهاد والتجديد، وكثيرون بدأوا وأعادوا في كل منهما، وقلَّ أن تجد كاتبًا ليس له في الاجتهاد أو التجديد كلمة دعوة إليه أو مناداة به، أو الاعتماد عليه في تفسير أسباب تراجعنا أو وضعًا له بين شروط تقدمنا، ولكن القليل من هؤلاء التفتوا إلى الأسباب الحقيقية لتوقف حاسَّة الاجتهاد في أمَّتنا؛ ولذلك فقد وجدنا أنَّ هذه الناحية هِيَ من أجدر النواحي بالتناول والمعالجة، إذ إنّ من المستحيل على الأمَّة أن تمارس مَا لا تعرف؛ ولذلك فقد أعددنا هذه الدراسة محاولين بيان أهم الأسباب التي أدَّت إلى احتواء حالة الاجتهاد في العقل المسلم، وصرفها عن وجهتها، والانحراف بها عن الطريق الَّذِي رسمه القرآن لها؟ مما أدى إلى تحول أمَّتنا -بعد عقود قليلة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أمَّة صدق عليها قول من قال: “إنها أمَّة صارت تحمل بجملتها عقليَّة عوام، ونفسيَّة عبيد، وطبيعة قطيع”.

منذ بدايات القرن الثاني والأمَّة تتردَّى في تلك المهاوي؛ فالعوام والعبيد لا يمكن أن يمارسوا اجتهادًا، اللهم إلا في البحث عن الكلأ وملأ البطون، وهذه أمور بينها وبين الاجتهاد مسافات شاسعة؛ ولذلك وجدنا الأمَّة -بعد ذلك التألق- تفقد الدوافع لمعاناة الاجتهاد إلا في مجالات محدَّدة، ذلك لأنَّ المسلم لم يعد يجد ما يدفعه للتدبُّر أو التفكر، وقد أسلم قياده إلى قيادات قبائليَّة كل مؤهلاتها انتماؤُها إلى بيت من بيوت الشرف الأمويِّ أو العباسيِّ أو العثمانيِّ فيما بعد؛ مما ساعد على تجهيل جماهير الناس ودفعهم إلى تجنب المكابدة، إلا أفرادًا قلائل حاولوا تجاوز ذلك وفي مجالات لم تتجاوز كثيرًا مجالات التدين، وأمَّا سواد الأمَّة فقد أصاب قواها العقليَّة الخمول، وضمرت طاقتها، واستسلمت للجهل والتهويل بعبقريَّاتٍ وُجُودُها يغلبُ عليه الصنعةُ، فاستسلمت جمهرة الأمَّة لتلك الحالة الشاذة، ومارست استقالة عقليَّة يُعبِّر عنها بعض الشعراء بقوله:

وَالعَيْشُ خَيْرٌ فِي ظِلالِ   النُّوكِ مِمَّنْ عَاشَ كَدَّا

فآثروا العيش في ظلال الاستقالة، واستبدلوا الاجتهاد إلى المجالات الفقهيَّة خاصَّة، وصار العالم هُوَ الفقيه، وحُصر الاجتهاد في الأطر الفرديَّة؛ فشكَّل ذلك كارثة عقليَّة ونفسيَّة شلَّت قوى التفكير وأصابتها بالتوقف.

تمت مصادرة الاجتهاد الَّذِي أراد الله أن يجعل منه حالة عقليَّة ونفسيَّة لأمَّة الشهادة لتلك القضايا الفرديَّة، وحين برز الشافعيُّ -رحمه الله- كرَّس ذلك في رسالته الأصوليَّة، بعد أن أكد حصر الاجتهاد في الجانب الفقهيِّ، وأخرجه من الجانب الاستخلافيِّ كلِّه، عاد ليحصره مرة أخرى بالقياس الأصوليِّ وحده، فصار الاجتهاد عنده مرادفًا للقياس؛ فقال مَا لفظه: «والاجتهاد: القياس»، فإذا علمنا أنَّ رسالة الشافعيِّ -وما طُرح فيها من أفكار- بقيت مسيطرة على الاتجاهات الأصوليَّة لمقلديه ومخالفيه، ندرك كيف تمت مصادرة هذه الآلية المنهجيَّة: «الاجتهاد» وحصرها في أضيق الدوائر طيلة قرون عديدة، هِيَ القرون التي سيطرت فيها تلك الأفكار على العقليَّة الإسلاميَّة.

إنَّ دراستنا للاجتهاد -كما عرض في كتب الأصوليِّين- تساعد على بيان كيف جرت عمليَّة مصادرة المفهوم، والاتجاه به نحو وجهة مغايرة لبناء عقليَّة الأمَّة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، الوسط الشاهدة على الناس، التي لا تغيب عن قضاياهم، والتي لا يمكن أن تتصف بكل هذه الصفات على سبيل الحقيقة بدون أن تكون أمَّة يُشكِّل الاجتهاد فيها ظاهرة عامَّة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. إنَّ القرآن قدَّم للبشريَّة بصائر لا تُحصى، ولعلَّ من أهمها أن جعل المعرفة التي اشتمل عليها معرفة شائعة، ينالها الناس على اختلاف مستوياتهم ودون تقيد بمكان أو زمان، فالناس يصلُّون بالقرآن أوقاتًا خمسة، ويذكرون الله به قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ويتعلَّمون من آياته مَا يُتيحه الله لهم، ويتدبَّرون فيه، فيوجد بينهم علمًا ومعرفة وعواطف وثقافات بمستويات عديدة، لا يستطيع أيُّ مصدر آخر أن يُتيحها غير القرآن، والتقليد يذهب بهذه الفائدة ويصادر ذلك النور؛ إذ إنَّ المقلِّدة لا يستطيعون أن يمارسوا تدبُّرًا ولا تعقُّلا ولا تبصُّرًا، وبالتالي فلن يستطيعوا أن يكونوا بصائر تجعلهم مؤهلين للشهادة كما أراد القرآن أن يؤسس لها، ويُوجد أمَّة يُتأسَّى بها كما يُتَأَسَّى بالنبيِّين، فمجرد تحويل دفة الاجتهاد إلى يد قلَّة من الفقهاء، لا يمارسونه إلا لاستنباط الفتاوى وبيان الرأي في مسائل فقهيَّة، انتهى دوره في بناء الأمة، وجعل المجتمع الإسلاميَّ يتحول من مجتمع شهادة -لا تمايز فيه- إلى أن يكون مجتمع نخبة ومجتمع عامَّة، فأُولُو الأمرِ السياسيِّ نخبة وهم الحكام، وأولو الأمر الفقهيِّ نخبة، وفيهم ينحصر الفقه، وبقيَّة الأمَّة ليس لها إلا التقليد؛ وهو: «قبول قول الغير بلا حجة»، وتبعيَّة للحكام، وقبول مَا يقومون به أو السكوت خوفًا من الفتنة، أو عدم الاعتراض عليهم وترك حسابهم لله، وكل ذلك انحراف لم يعد يسمح لهذه الأمَّة بممارسة عمليَّة الشهادة والوسطية والخيرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *