د.طه جابرالعلواني
حاجة الناس إلى معرفة الأحكام الفقهيَّة لتصرُّفاتهم وأفعالهم وسائر شؤون حياتهم حاجة ملحَّة، تتراوح بين مستويات الضرورة والحاجة، وقد تنـزل إلى مستوى دون ذلك، لكنَّها تبقى في دائرة ما هو مطلوب، كالأمور التي يحتاجها الإنسان في أحوال دائمة أو طارئة، فكلٌّ من الجنسين إذا ناهز البلوغ لا بد له من معرفة أحكام الغُسل وموجباته وكيفيَّاته، وهي الأمور التي يبحثها الفقهاء عادة في «أبواب الطهارة من كتب الفقه»، وتترتب عليها أحكام أخرى؛ مثل الطلاق وحِلِّ المعاشرة بين الزوجين وحرمتها، فهذا النوع من الفقهاء لا يستغني المجتمع عنه، ولا بد من وجود القادرين على تعليم تلك الأحكام إذا لم تهتم نظم التعليم بإدخالها في البرامج التعليميَّة العامَّة؛ كي يعيش أبناء المجتمع حياة إسلاميَّة في ممارساتهم اليوميَّة.
إنَّ كثيرًا من الكاتبين في المجالات الفكريَّة لا يرون الفقيه فقيهًا إلا إذا اهتم بقضايا السياسة، وتصدَّر أروقة المعارضة الحزبيَّة، ولا شك أنَّ الفقيه واحد من متعلمي الأُمَّة، لا بد أن تكون له رؤية واهتمام في مختلف «قضايا الأمَّة»، ولكن ينبغي للفقيه أن يتذكر على الدوام أن «المسجد» مؤسَّسة عامَّة ينبغي أن يكون مثابةً وأمنًا لكل فصائله.
والإمام أو الفقيه مُطَالب بأن يذكِّر نفسه -باستمرار- برسالة المسجد، ومسؤوليَّته عن المحافظة على حياد المسجد وجعله لله وحده، ولنفع الأمة كلّها، وأن ينأى بنفسه وبالمسجد أن يكون لفئة أو طائفة أو مذهب؛ لأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا.
ولقد برزت ظواهر كثيرة في العقود الأخيرة لم تُراعَ فيها أحكام المساجد، ولم يُلتفت فيها إلى رسالة المسجد، منها أنَّ بعضًا من أولئك الذين تبنُّوا رؤى سياسيَّة -خاصة تلك التي تستند إلى مرجعيَّة «الدين»- حِيل بينهم وبين الوسائل الإعلاميَّة وأدوات التعبير العامَّة، فوجدوا في «المسجد» ميدانًا للتعبير الجزئيِّ المحدود عن برامجهم ومواقفهم السياسيَّة والاجتماعيَّة، فأخذوا يشرحون فيه أهدافهم السياسيَّة، وبرامجهم الفئويَّة، ولمَّا أحسَّت الفئات الأخرى وبعض السلطات بذلك أخذت تضع قيودًا على المساجد لم تكن تضعها من قبل، وربَّما انتهك بعضهم حرمات المسجد، وتجاوز أحكامه، مما أحدث آثارًا سلبيَّة أثَّرت كثيرًا على رسالة المسجد، وبالمقابل لوحظ أنَّ بعض الفئات في بعض ديار المسلمين بدأت تعمل على جعل المسجد ميدانًا لاستغلال الحاكمين، ونيل المدح والثناء على أفعالهم وما إلى ذلك… يا قومنا، اتفقوا على ميثاق يجعل المساجد لله، وتعاونوا على المحافظة على رسالتها في خدمة الأمَّة -كلّها- والمجتمع بكل فصائله.
أمَّا الخطبتان اللَّتان لا أنساهما، فقد كانت إحداهما في أحد الجوامع الكبرى بالجزائر العاصمة، قبل ما يزيد عن عقد من السنين، وكانت «الجبهة الإسلاميَّة للإنقاذ» تسعى للفوز بأغلبيَّة برلمانيَّة توصلها إلى السلطة، ارتقى الخطيب المنبر، وبدأ الخطبة، وبعد المقدمة شرع في الحديث عن «جبهة الإنقاذ» وبرامجها السياسيَّة، انقضت الساعة الأولى والخطيب لم يتوقف، وبدأ الناس يتململون، ولكنَّهم يعرفون «أنَّ من لغا فلا جمعة له»، والخطيب مستفيد من هذا الحديث لمنع المصلِّين من الإنكار عليه، ثم بدأت بعض الأصوات ترتفع بعد مرور ما يزيد على ساعة ونصف، والخطيب ماضٍٍ حتى قام بعضهم للخروج من المسجد، وهنا قال الخطيب منفعلا: ماذا نفعل؟ الحكومة لم تعطنا أيَّة مساحة إعلاميَّة لعرض برامجنا على الناخبين، وليس بين أيدينا سوى المساجد، فعليكم أن تصبروا علينا، ثم قال: لكنَّني أعدكم أنَّنا بعد أن نفوز في الانتخابات ونستلم السلطة سوف نجعل خطبة الجمعة «زوز دقيقة»؛ يعني دقيقتين!! فهل أُلام إذا لم أنسَ هذه الخطبة؟!.
أمَّا الخطبة الثانية فكانت في مركز إسلاميٍّ كبير قريب من واشنطن، يرتاده عدد كبير من المسلمين، صعد أحد الخطباء المنبر، وكانت هناك واقعة اعتداء إسرائيلي في ذلك الأسبوع، فتحدَّث الخطيب عن إسرائيل واليهود كما لو كان في بلد إسلامي معادٍ لإسرائيل، ونسي أنَّه يتحدث في أمريكا، أو جرَّأه على قول ما قال تصوُّره أنَّ «الحريَّة» في البلاد مطلقة؛ فكانت خطبته مليئة بالحماس، والدعوة للثأر تحت شعار: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (البقرة:191) مقطوعة عن سياقها، كان ذلك قبل 11/،9 وبعد 11/9 إذا بهذا المركز يتعرَّض لعدوان عرَّض أرواح مرتاديه للخطر لولا لطف الله.
وأمثال هذه الخطب ما تزال تُستغَل للتنديد بالوجود الإسلامي في أمريكا والغرب بصفة عامة، ودعوة شرائح المجتمعات الغربية وحكوماتها إلى إدراك خطر الوجود الإسلامي بينهم.
إنَّ الذي يحفظ لمساجدنا حرمتها ومكانتها في الداخل والخارج هو الوعي «برسالة المسجد»، وتدعيمها، والمحافظة عليها، وعدم تعريض حرمتها ومكانتها في قلوب المسلمين -حكامًا ومحكومين- للاهتزاز والخطر.