Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

وحدة الأمة

د.طه جابر العلواني

إنَّ الواقع التاريخيَّ الإسلاميَّ والمعاصر، قد حفلا بكثير من محاولات الإصلاح والتجديد التي كانت تقطع أشواطًا هامَّة نحو أهدافها، ثم تبدأ بالتراجع لأسباب عديدة: منها أسباب فكريَّة، وأسباب سياسيَّة، وثالثة أخلاقيَّة، ومنها تعارض وتضارب اتجاهات الإصلاح في تحديد الأولويَّات، فلعلَّ الأولويَّة الأولى بعد التوحيد هي وحدة الأمَّة، وما تقتضيه هذه الوحدة من فكر سليم، واعتقاد قويم، وسلوك مستقيم، فقد ثبت أنَّ أخطر ما عانته الأمَّة من أمراض وآفات نجم عن انفراط عقدها وتفكُّك روابطها وانفصام وحدتها.

لقد وردت كلمة أمَّة في القرآن الكريم في مواضع عديدة، وأُريدَ بها الجماعة من الناس الذين تجمعهم طريقة واحدة ورؤية واحدة، وتسود بينهم معرفة وثقافة واحدة، كما يُراد بها الأصل والمرجع والقصد وما إلى ذلك، فهي اسم لمن يجتمعون على أمر هام، ويشتركون في رؤية ومنهج وغاية وما إلى ذلك من أمور هامة، وأُطلقت مرة على إبراهيم -عليه السلام- للإشارة إلى فضله وأهميته، وأنَّه أصل يُتَجَمَّع حوله، فقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (النحل:120).

وأمَّتنا المسلمة شكَّلها القرآن الكريم؛ فهو الَّذِي أسَّس رابطتها، وبنى دعائمها، وأوضح منهاجها، لتكون الأمَّة التي تنظر البشريَّة إليها على أنَّها نموذج ومثال وقطب، لتلتفَّ حوله، لا لتلتفَّ عليه، ولذلك فقد ضمَّن الإسلام مفهوم الأمَّة أبعادًا كثيرة لا يمكن لها أن تقوم بها إلا إذا كانت أمَّة موحَّدة لا تطرأ عليها الفرقة، ومن تلك المفاهيم والأبعاد التي تضمَّنها مفهوم الأمَّة في لسان القرآن واللسان العربيِّ: الأمانة، والاستخلاف، والشهود الحضاريِّ، والخيريَّة، والوسطيَّة، والابتلاء، والعمران، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وتكريم الإنسان وعدم استعباده، وتوحيد الله بالإلهيَّة والربوبيَّة والصفات، والإيمان بالأنبياء كافَّة، وحماية الضعفاء فيها من الأقوياء المعتدين، والإحسان إلى الناس كافة، وهذه كلها لا يمكن القيام بها والأمَّة مفرَّقة إلى طوائف ومذاهب وفئات وأحزاب؛ ولذلك كانت «وحدة الأمَّة» ركنًا أساسًا من أركان إيمانها، ودعامة هامَّة من دعائم وجودها، فإذا تفرَّقت كلمتها فإنَّها تتحول عن كل تلك المعاني لتصبح غثاء كغثاء السيل، لا تنفع ولا تدفع عن أجزائها شرًّا؛ ولا تجلب لها نفعًا وتصبح قابلة لإذلال غيرها لها؛ ولذلك فإنَّ عصمتها تكمن في وحدتها وتضامنها وتكافلها، وإذا فرَّطت بوحدتها فكأنَّها تُفَرِّط في وجودها وحياتها وحاضرها ومستقبلها، إضافة إلى تفريطها في دورها وموقعها بين البشريَّة.

وهذه الأمَّة في حاجة دائمة إلى المحافظة على وحدتها، وعلى قوتها، ومعرفتها وعلمها، وقابليَّة التجدُّد والحيويَّة فيها وتجاوز العجز، ويأبى مفهوم الأمَّة الظلمَ والطغيانَ والخيانةَ ومجافاةَ الأمانةِ والتطرفَ والتعصبَ وممارسةَ أيِّ شيء يُفرِّق كلمة الأمَّة ويُفسد ذات بينها.

ومن المؤسف أنَّ مفهوم الأمَّة في عصرنا هذا قد جهله الكثيرون، فأدَّى إلى ضعفه في قلوب الناس، وأوجد لديهم استعدادًا للتفرُّق والتمزُّق ومجافاة الأخ لأخيه لأتفه الأسباب، فصارت الأمراض المختلفة والاختلاف والفرقة هِيَ السمة الغالبة، فتراجع دور الأمة وصارت كما في الحديث الشريف -الَّذِي أخرجه أَحْمَد عن ثوبان- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»، فقد صارت بمثابة قصعة تداعى الأمم إلى أكلها، كما أصبحت هيِّنة على خصومها وأعدائها، يجترئ عليها وعلى النيل منها مَنْ لا يدفع عن نفسه؛ فلم يعد لها في قلوب الدول والبشر ذلك الاحترام أو التقدير الَّذِي حظيت به حين كانت أمَّة موحَّدة، فضاعت فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، وحدث لما بقي ومن بقي الشيء الكثير، والتهديد والخطر دائم مستمر حتى تستيقظ الأمَّة وتوحِّد كلمتها.

ولقد كتب السيد جمال الدين الأفغاني مقالة «عام 1300هـ» وصف فيها حالة الأمَّة قبل «130» عامًا، جاء فيها: “إنَّ الشرق بعد أن كان له من الجاه الرفيع سقط عن مكانته، واستولى الفقر والفاقة على ساكنيه، وغلب الذلُّ والاستكانة على عامريه وتسلَّطت عليه الأجانب، واستبدت بأهله الأباعد، لإعراض الشرقيِّين عن الاستنارة بعقولهم، وتطرَّق الفساد إلى أخلاقهم، لا يتدبَّرون أمرًا ولا يتَّقون في أعمالهم شرًّا، طرأ على عقولهم السبات، ووقفت أفكارهم عن إصلاح شؤونهم وعميت أبصارهم عن إدراك النوازل التي أحاطت بهم، لا يحسون المصائب قبل أن تقضم أجسادهم، وينسونها بعد زوال آلامها، لا تحملهم نفوسهم على طلب المجد والعزة وبقاء الذكر؛ لا يدرون عواقبهم، ولا يدركون مآل أمرهم، ولا يحذرون مَا يتربَّص بهم ولا يفقهون مَا يضمره الدهر لهم من الشدائد، ألفوا الصغار وانقادوا للعبوديَّة، ونسوا مَا كان لهم من المجد المؤثَّل والمقام الأمثل. لقد انهمكوا في الشهوات الدنيويَّة وغاصوا في اللذات البدنيَّة، وتخلَّقوا بالأخلاق البهيميَّة؛ يفترس قويهم ضعيفهم، ويستعبد عزيزهم ذليلهم، يخونون أوطانهم، ويستلبون أموال ضعفائهم، ويحنثون بعهودهم، ويسعون في خراب بلادهم، ويمكنون الأجانب من ديارهم، لا يحمون عمارًا ولا يخشون عارًا”، ثم حاول الأفغاني أن يصف أهم ما يخرجهم من المشكلات التي يعانونها، فأكد على ضرورة توحيد كلمتهم، وإعادة بناء الأمَّة من جديد، ثم قال كلامًا كثيرًا عن انقسامات حكومات المسلمين، واستعانة بعضهم بأعدائهم على إخوانهم وغير ذلك من مآسٍ، لو رفعنا الأسماء السالفة في عصره وأبدلناها بأسماء المعاصرين لما تغير شيء. وها نحن بعد مائة وثلاثين عامًا لا نجد لمآسينا ومصائبنا المعاصرة، وهواننا على الناس، إلا وحدة أمتنا علاجًا ودواءً… اللهم ألف بين قلوبنا ووحد على سبيلك أمتنا، فإنَّك المرجَّى لذلك، إنك سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *