Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ماذا خسر العالم بهجرنا للقرآن

د. طه جابر العلواني

وصف الله تبارك وتعالى كتابه الكريم الكوني الخالد بأنه: كتاب كريم، وكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ووصفه بأنه الحق والنور والهدى، كما وصفه بأنه مجيد مكنون، شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة، وفي الوقت نفسه وصفه بأنه: التذكرة، والموعظة، والبشرى، والهادي المنير .. إلى غير ذلك لأنه كتاب الله الأخير، صدّق على كل ما كان بين يديه من كتب الله، فأعادها إلى حالة الصدق، وهيمن عليها كلها، ووضعها تحت جناحيه، فصارت جزءا منه، لا ينالها تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا يستطيع الباطل – أيّا كان، من أيِّ مصدر جاء – أن ينال منه أو منها.

والقرآن كتاب كوني معادل للكون وحركته، مستوعب لهما، لا يقرأ الكون قراءة دقيقة إلا به، ولا يفهم الإنسان من غيره، ولا تنتظم العلاقة بين: الله، والكون، والإنسان، والحياة بأي مصدر سواه.

وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأوكل أمر الشهادة على الناس إلى أمته، واستبدل تتابع النبوات فيمن سلف من الأمم بنبي واحد مقيم هو القرآن المجيد، وبذلك صار مرجع البشرية الوحيد به تعرف الحق وبه تهتدي إلى الخير، وبه تبلغ التوحيد، وبآياته تتزكى، وبها تتعلم الحكمة، وبها تفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والعمران والخراب، والتزكية والتدسية، فهو مرجع البشرية ومصدر هدايتها.

وقد خسرت البشرية كلها بعدم اكتشافها القرآن إلى يومنا هذا خسائر فادحة شملت: أرواحها، وعلاقاتها، وتطهرها، وعمرانها، وأمنها، واستقرارها، وضلت بضلالها عنه، ولم تستطع رغم كل الجهود أن تنتفع بكل ما ابتكرته وتوصلت إليه من نظريات وعلوم ومعارف ونظم وعلاقات – مع أهمية ما توصلت إليه وخطورته – لكن ذلك كله لم يغن عنها من الله شيئا، فاستمرت تتأرجح بين الدركات، وتتقلب في جوانب الضلالات، فكادت أن تشرف على الانتحار بما صنعت، والفناء بما ابتكرت واخترعت، وما زادها ذلك على الأيام إلا خبالا وفسادا وضلالا فرقة واحترابا.

وذلك كله حمل المسلمون إثمه لأنهم – وقد حملوا القرآن – لم يحسنوا حمله، ولم يؤتوه حقه ولم يقدروه حق قدره، ولم يتلوه حق تلاوته، فلم يتذكروا ولم يعتبروا، ولم يعقلوا ولم يتفكروا، تعطلت منهم الحواس، وزاغت منهم الأبصار، وانحرفت بهم السبل، وحملوا القرآن حمل أولئك الذين سبقوهم فحملوا التوراة ولم يحملوها، إلا مثلما يحمل الحمار الأثقال دون أن يهمه ما إذا كانت الأثقال كتبا أو حجارة أو أي شيء آخر، فكانت علاقته بالكتاب كعلاقته بأي شيء آخر يحمله، ولا يعرف منه إلا ثقله على ظهره، وضغطه على حمله.

وكذلك المسلمون حملوا القرآن فلم يحملوه حملا إنسانيا واعيا مدركا لقدره ملما بمكانته، انشغلوا بزخرفته وبتبجيل خطه وبالعناية بألوانه وبأحجامه وبطباعته وبقراءته قراءة الغافلين صباح مساء. ولإدراك أعدائه كافة أنهم يحملونه بتلك الطريقة الحمارية لم يعودوا يبالون ما إذا سمعوه أو لم يسمعوه، ولا يحاولون أن يلغوا فيه، لأنهم مطمئنين أن المسلمين بعد جيل التلقي هجروا القرآن، وتركوه وتخلوا عنه، وقامت بينهم وبينه حالة فصام عجيب.

ولذلك بدأت بعض إذاعات الكفار وفضائياتهم لا تجد حرجا في إذاعة بعض آياته عليهم لأنهم أدركوا أنهم لم يعودوا يلتفتون إلى معانيه، ولا يعرفون كيف يتدبرونه أو يتلونه حق تلاوته، وصاروا مثل غيرهم في هجر القرآن، وزادوا على الآخرين بأنهم حملوه فلم يحملوه، وقصروا في توصيله إلى المفتقرين إليه، وبذلك تعرضوا لغضب الله، وأغريت بينهم العداوة والبغضاء، وهيمن التخلف والجهل والتراجع والأمراض الفتاكة على بلدانهم وأقطارهم، حتى لم ينح بلد من بلدانهم أو شعب من شعوبهم، من تلك الفتن الهوجاء الضالة المضلة، التي لا تهدأ في موقع إلا لتنبثق في آخر، وصاروا مثل أولئك الذين قال فيهم تبارك وتعالى: “ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *