من مقاصد الشريعة
أ.د. طه جابر العلوني.
قسم علماؤنا قديما متطلبات الإنسان إلى أقسام ثلاثة وهي “الضروريات” و”الحاجيات” و”التحسينات” ووضعوا تحت الضروريات أمورا خمسة “النفس والدين والعقل والمال والنسل” وأهم ما تقوم النفس به طعامها وشرابها وهواؤها. فالطعام أول الضروريات التي لابد من أن توفر للإنسان في سائر الظروف ومع الطعام “الماء النقي” الصالح لشرب الإنسان والحيوان وزراعة النبات ومثله اللباس وما تتوقف صناعة الألبسة عليه من أقطان وأصواف وأشعار وجلود وما إليها وكذلك الدواء لمختلف الأمراض الفتاكة التي يمكن أن تؤدي إلى تلف الإنسان أو عضو من أعضائه. ثم تأتي مراتب الحاجيات والتحسينات الأخرى.
وقد قال علماء أصول الفقه: “ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب” وبناء على ذلك نستطيع القول: “ما لم تتحقق الضروريات إلا به فهو ضروري والأمة كلها مسؤولة مسؤولية تضامنية تكافلية عن توفيره”. فكل ما هو ضروري لتوفير الغذاء من زراعة وصناعة ووسائل، منها كريّ الأنهار وشق الترع ومقاومة التصحر وحفر المبازل لإزالة الملوحة عن الأرض وتهيئة الأسمدة اللازمة غير الضارة كل ذلك يصبح من الأمور الضرورية التي يجب على الأمةبمجموعها وجوبا تكافليا تضامنيا أن توفرها وإذا لم تجد في إمكاناتها الخاصة ما يسمح بالتوفير فلها حق فرض الضرائب على القادرين، فإن لم يف بالغرض فلها حق الاستدانةلتوفير هذه المتطلبات.
وكذلك الحال بالنسبة لمياه الشرب والزراعة وحمايتها وتوفيرها وتنقيتها والقيام بكل ما هو ضروري لجعلها صالحة كافية للاستعمال الآدمي والحيواني والزراعي، وينبغي أن توجه الجهود كلها لتوفير تلك الضروريات.
ومثل ذلك ما يتعلق بالدواء من وسائل تصنيع الدواء ومصادر الأدوية ووسائلها والمستشفيات والأطباء والممرضين ووسائل التمريض وما إلى ذلك. وبعد توفير هذه الضروريات وحماية النفس البشرية من الهلاك بتوفيرها يأتي مستوى الضروريات كمستوى الدفاع عن الناس من الأعداء الخارجين وحماية المجتمع من عناصر الجريمة والانحراف وتوفير الأمن الضروري لكل مواطن ولكل إنسان وحماية ما هو ضروري أو يتوقف الضروري عليه.
ولذلك كان فقهاؤنا المتقدمون على حق حين ذكر بعضهم عدم جواز السكنى في بلد ليس فيه طبيب أو لا يتوفر فيه الدواء فما بالك بما لا يتوفر فيه الغذاء.. ؟!
وحين يراد من المواطن أن يحب أرضه، ويحب مجتمعه، ويخلص لقادته فإن أهم ما يتوقعه منهم أن يوفروا له تلك الضروريات.
إن موجة الغلاء العالمية تقتضي فيما تقتضيه تكافل الأمة العربية وتعاونها وتضامنها. إن هناك بلدانا عربية مثل السودان ما تزال لديها أراض كثيرة لم تزرع ولم تستحي لعدم وجود الطاقة البشرية، والطاقة البشرية في مصر تستطيع أن تعمل في تلك الأراضي وتقوم بزراعتها وتوفر الغذاء لمصر وللسودان وليبيا ولبلدان أخرى.
إن زراعة كيلو من البطيخ في بعض البلدان العربية قد تكلف مبالغ تكفي لزراعة طن من البطيخ في أض عربية أخرى، وأنه قد آن الأوان لأن يدرك العرب في سائر ديارهم أن ضرورياتهم لن تتوافر إلا بتضامنهم وتكامل بلدانهم وشعوبهم، والحرص على ذلك والعمل له وحسن التخطيط له. إن الجامعة العربية مدعوة مع منظمة المؤتمر الإسلامي وسائر المنظمات الإقليمية الأخرى للعمل على تحقيق هذا التكامل وتوعية الشعوب العربية بضرورته وبأنه بالفعل مما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وأن حياة العرب المعاصرة قد أخرج قضية التكافل والتضامن من دائرة ما هو واجب على التراخي إلى دائرة الواجب على الفور وعلى الأعيان.
إن مصر الولاّدة والتي كانت على الدوام مصدر إشعاع لهذه الأمة، وإلهام لقادتها تستطيع أن تلعب دورا هاما في هذا المجال. وتعيد بناء التضامن العربي للاستجابة لتحديات الضروريات الحياتية أكثر من الاستجابة للحاجيّات أو الكماليات الأخرى.
نرجو الله تبارك وتعالى أن يلهمنا قادة وشعوبا وقادة رأي ومفكرين الصواب ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويعين المخلصين لهذه الأمة على الخروج بها من هذه الأزمة إنه سميع مجيب.