د.طه جابر العلواني
حجة الوداع كانت بيانًا لمناسك الحج كلها، وفوائده، وإعلانًا عن تشكُّل أمة الأنبياء التي أرسى دعائمها إبراهيم -عليه السلام- واختار لها اسمها وصبغتها، والملة التي انتهى إليها، ثم استمر الأنبياء من ذريَّة من حمل الله مع نوح وذرية إبراهيم في تعلية ذلك البناء وترسيخ دعائمه، جاء ذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة:136-138).
وحين قالت اليهود: «كونوا هودًا» وقالت النصارى: «كونوا نصارى»، ردَّ الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (البقرة:135)، ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:67-68).
فالإسلام هو دين الأنبياء كافة بدون استثناء ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:85). وبهذا كانت أمة الأنبياء واحدة: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:92).
ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- شبه نفسه وموقعه بين الأنبياء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتًا فأجمله وأحسنه إلا موضع لبنة، فكان الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون لولا هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين».
فلا غرابة أن يتم بناء الأمة عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظم حياة، ويكتمل بناؤها على يد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خاتم النبيين لتكون أمة الأمم والأمة القطب التي تستقطب البشرية كلها حول قيم الأنبياء كافة وما أنزل إليهم من ربهم.
ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قدَّم للبشرية وصيته وبيانه الخير في حجة الوداع التي لم يقضِ بعدها في هذه الحياة الدنيا أكثر من واحد وثمانين يومًا ثم التحق بالرفيق الأعلى.
ولم تكن وصية رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- سوى خطبته في حجة الوداع يوم النحر، هذه الخطبة التي استمع إليها الآلاف من الصحابة كانوا ملتفين حوله –صلى الله عليه وآله وسلم- فنقل كل منهم ما سمعه ووعاه؛ ولذلك جاءت متفرقة في مختلف المصادر من كتب الحديث والسيرة والتاريخ.
ولعلَّ أجمع نص لها هو النص الذي ورد في «العقد الفريد»، حيث نجد فيه ما أورده البخاري وابن إسحاق وغيرهما. وهذا النص لخطبة حجة الوداع يستحق أن يوصف بأنَّه وصية رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما يستحق أن يوصف بأنَّه بيان عالمي شامل جامع لخَّص رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم – فيه أهم الأمور التي قد تكون عرضة للتهاون فيها بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- وسنناقش في هذه الحلقة أهم بنود هذه الخطبة وما جاء فيها، وقبل أن ننتقل إلى مناقشة بنود أهم بيان عالمي للحقوق والواجبات في حرم الله -تبارك وتعالى- جاء على لسان نبيِّه، نود أن نورد نصَّ هذه الخطبة ليستمع إليها الكافة ومن حُرم من قراءتها أو الاستماع إليها من قبل يستمع إليها في لقائنا هذا.
أولاً: خطبة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في حجة الوداع:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
أما بعد، أيها الناس، اسمعوا مني أُبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس، إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام -إلى أن تلقوا ربكم- كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت اللهم اشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإنَّ ربا الجاهليَّة موضوع، وإنَّ أول ربا أبدأ ربا عمِّي العبَّاس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود[1]، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، ففيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس، إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا، ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله (يوم خلق) السموات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة ذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس إنَّ لنسائكم عليكم حقًّا، وإنَّ لكم عليهن حقًّا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنَّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنَّما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئًا، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا. أيها الناس إنَّما المؤمنون إخوة فلا يحل لمرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم أعناق بعض، فإنِّي قد تركت ما إن أخذتم به لم تضلوا: كتاب الله[2]، ألا هل بلغت، اللهم اشهد. أيها الناس: إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كُلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجميٍّ فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية «ولا تجوز وصية» في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[3].
ثانيًا الأسئلة:
- ما الدلالات التي يمكن استفادتها من إلقاء رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خطبة جامعة مانعة قبيل توديعه لهذا العالم؟ وذلك في مثل أيامنا هذه بالضبط في يوم النحر.
- ما دلالة الشكل الذي أخذته هذه الخطبة كبيان عالمي للبشرية كافة، وللأمة المسلمة خاصة؟ وما دلالة افتتاحه لهذا البيان بأسئلة الزمان والمكان: أي يوم؟ أي بلد؟ ليبين أهمية الزمان والمكان، وحرمة الأمة التي ولدت في هذا المكان والتي ارتبطت بالحرمة، ولهذا الارتباط تم استثناء هذه الأمة من الانقطاع أو الفناء… قد تتداولها الأيام ولكنَّها تبقى ما بقي الزمان والمكان.
- لم يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خطبته بتذكير الناس أنَّ دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، كحرمة يومهم وشهرهم وبلدهم في مقامهم هذا؟ هل كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ينفذ بقراءة مستقبلية ليُشير إلى الفتن التي أعقبت وفاته ولا تزال يقظة بين أظهرنا؟
- يوصي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بردِّ الأمانات؟ فأي الأمانات يقصد؟ هل هي مجرد الودائع المالية كما يفهم البعض؟ أم أنها عامة شاملة؟
- تحت قدمي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الموقف وضع ربا الجاهلية ودماء الجاهلية ومآثرها؟ بدأ بربا الأقربين ودمائهم، ولم يستثن من مآثر الجاهلية إلا السدانة والسقاية، كل ذلك لحكمة ولا بد، فما الحكمة الممكنة وراء ذلك؟
- ويستمر التأكيد والتشديد على الدماء والأنفس وحفظها: فالعمد قصاص، والخطأ دية… ولا زيادة ولا إهدار. فأي ذلك من دماء المسلمين النازفة اليوم… ولا دية ولا قصاص؟!
- في واسطة عقد البيان العالمي تخدير عام كبير من ركن البلايا: الشيطان، يئس أن يُعبد بجزيرة العرب، لكنَّه رضي بما يحقره الناس؟ فما هي المحقَّرات والمحقِّرات، وماذا جلب التحقير على مسيرة أمتنا؟
- الزمان، ما الزمان؟ وكيف استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض؟ ما دلالة التنبيه على استدارة الزمان؟ وما دلالة التنبيه على عدة الشهور، وعلى الأشهر الحرم منها؟ أيذكرنا ذلك بالمواقيت التي تميز الأمم ومشكلة الاتصال بالآخرين: اندماج أم انفصال أم اتصال متميز؟ ما دلالة كل ذلك في زمننا الراهن؟
- أين مواقيت الأمة؟ وأهلتها التي يذكِّرنا بها هذا الموسم العظيم، موسم الحج: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (البقرة:189).
- وما دلالة إدراج «المرأة» وحقوق النساء في هذا البيان العالمي… كيف عالجت خطبة الوداع مشكلات المرأة التي يعجُّ بها عصرنا، مماشية مع أسلوب القرآن المجيد: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء:19)، «فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا»؟!
- يعلم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا المقام أنه مودِّع، وأنَّها خطبة الوداع، فما أهم ما يوصي به من بعده: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض».
- ما علاقة ذلك بالتكفير والمكفرين والضاربين أعناق إخوانهم استخفافًا وتجرؤًا؟؟
- وكيف يكون الملاذ والمعاذ بعده -صلى الله عليه وآله وسلم- ما يتركه في أمته إن تمسكت به لا تضل أبدًا: كتاب الله؟ ذلك النبي الدائم المقيم؟ وأين منه نحن الآن؟
- كيف يستحضر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا المقام -الذي هو ختام الختام- عالمية دعوته، وإنسانية رسالته، فيقول: «أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب»؟
ما دلالة ذلك التوافق مع آية التعارف الإنساني في القرآن المجيد؟ وما دلالته في هذا الموقف العظيم؟
- ثم الوصية الخاتمة بالتقوى في الوصية، فلا وصية الوارث، ولا وصية فوق الثلث، ولا انتساب إلى غير النسب؟ ولا نسبة للأدعياء ولا تبني بعد اليوم…
ما دلالة هذا التثبيت لما ثبته الإسلام في ختام البيان، بعد أن بدأه بنفي ربا الجاهلية ودمائها ومآثرها.
هكذا يتماشى مع منهجه الدائم، تخليه ثم تحليه، نفي ثم إثبات، ذلك المنهج الذي أشربه الإسلام عقيدة وشريعة منذ أن انبنى على لا إله إلا الله.
[1] القود: القصاص، أي من قتل عمدًا يقتل.
[2] زيد في بعض الأصول “بعد قوله “الله” وأهل بيتي.
[3] انظر السيرة لابن هشام (ج4 ص 250) طبعة الحلبي. والبيان والتبيين 2/15 ونثر الدرر للآبي فبين الخطبة هنا وهناك بعض الخلاف.