Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مناسك الحج: حكم وأسرار

د.طه جابر العلواني

في هذه المقالة سأتناول بعض حكم مناسك الحج، تبدأ المناسك ببداية السفر التي تُذكر بسفرة الإنسان الكبرى من هذه الحياة إلى الدار الآخرة عبر بوابة الموت، فيتذكر الحاج -وهو يُهيء نفسه ويعد حقائبه للتوجه إلى البيت الحرام- أنَّه مهما عاش فإنَّ هناك رحلة أخيرة هو بانتظارها، لابدّ أن يكون مهيئًا ومستعدًّا للقيام بها عندما يُلبي نداء الله للرحيل من هذه الحياة الفانية إلى الدار الباقية، فيستصحب في ذهنه ذلك لينصرف بحواسه كلها وقوى وعيه جميعها إلى ذكر الله والدار الآخرة، فإذا وصل تلك الديار بدأ بالإحرام من الميقات الذي أقته الله لحجاج بيته.

والإحرام أبرز ما فيه تخلي الإنسان عن جميع ملابسه المعهودة, واستبدالها بلباس الإحرام، وملابس الإحرام تُذكر بالأكفان، فهي غير مخيطة ولا مزخرفة ولا تدل على غنى الغني أو فقر الفقير، وفي ذلك إعداد لنفسيَّة الحاج وعقليَّته لقبول أعباء التزكية والتطهر والتخلي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود.

والتزكية مقصد من المقاصد القرآنيَّة العليا, ولكن المعنى لا يقتصر على ذلك –وحده- فإن «نسك الإحرام» يذكرنا بقصَّة «خروج أبوينا من الجنّة»: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى*فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه:120-121)، وفيه تذكير بالعداء الدائم بين الإنسان والشيطان، وتذكير بأبشع النتائج التي تؤدي الاستجابة إلى وسوسته إليها.

كما أن من حكم الإحرام إحساس الحاج بأنه يتعرض لنفحات الله –تبارك وتعالى- التي تعرَّض لها أنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عبر تاريخ البشرية، فيطمع في رضوان الله تعالى، ويسأله رحمته ومغفرته، لقد ارتبط الحج ومناسكه بـ«الأرض المحرَّمة» لا بالأرض المقدَّسة، كما اختصت الأرض المحرَّمة بخصائص لا تشاركها فيها أية بقعة من الأرض، فلا يختلىٰ خَلاها, ولا ينفَّر صيدها, ولا يُسمح بإدخال الخوف والإرهاب إليها.

إن المحرم يستدعي ذكر سائر النبيِّين الذين نُودوا ولبُّوا النداء لكي يكون مهيئًا -بكل قلبه ونفسه وعقله وجوارحه- لتذكر تلك المواقف والإصغاء إلى نداء رب العزَّة لآدم بالتوبة: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:37)، وكيف نادىٰ نوح: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ (الصافات:75)، وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود وغيرهم.

فهؤلاء -جميعًا- كانوا يُصيخون السمع حتى لتكاد أجسادهم كلُّها تصبح سمعًا، فإذا جاء النداء الإلهيُّ صدرت التلبية بذلك الشكل المعبِّر عن الإسلام التام, والاستسلام الكامل, والطاعة المطلقة.

والنداء الإلهيُّ للمسلم المحرم القرآن المجيد، فكيف نعدَّ أنفسنا للإنصات إليه, والاستماع له، وتلبية كل نداء من نداءاته، وتجاوز كل ما يمكن أن يؤدي لهجره -لفظًا أو معنى، قولا أو فعلا- حتى لا نجد في أنفسنا حرجًا في أي أمر أو نداء يوجَّه إلينا، ونُسلِّم إليه تسليمًا تامًّا.

عند الإهلال بالتلبية نتذكر القرآن وسيدنا محمدًا -خاتم النبيِّين- وتلقيه «الأمر بالقراءتين» لأول مرّة، ثم ما تلا ذلك من نداء الله له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدثر:1-4)، ثم تتابعت النداءات الإلهيَّة له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ (المزمل:1), ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، فما تردّد مرة ولا لحظة في المسارعة إلى تلبية نداء ربه عبر «اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا». فإذا أهلَّ الحاج بالتلبية, وقال: «لبَّيك اللّهم لبَّيك…» فعليه أن يستحضر في ذهنه كل تلك الأمَّة «أمَّة الأنبياء الواحدة»، ويتَّخذ مكانه بين أبنائها, ويواصل التلبية, وهو يسمع أصوات النبيّين والمرسلين كافَّة وهم يصدعون بالتلبية، وما أجمله من شعور أن يشعر الإنسان بالانتماء إلى أمَّة الأنبياء ومشاركتهم التلبية, وضم صوته إلى تلك الأصوات الصادقة الطاهرة، والإعلان الصريح لله –سبحانه وتعالى- بأنه لن يعصي له أمرًا، ولن يرتكب ذنبًا أو مخالفة أبدًا، فإذا دخل حدود الحرم فليعط المحرم لنفسه فرصة التنفُّس بملأ رئتيه -شهيقًا وزفيرًا- كأنّه يريد أن يستشفي ليطهّر الصدر وما حوى, والقلب وما وعى، من سائر ما علق به, وإعادة تنظيم دورة دم جديدة في عروقه وشرايينه، فيها عبق النبوة, وأريج الوحي والرسالة, وحداثة العهد بالله, وليقل:

هذه دارُهُم وأنتَ محبٌّ   ما بقاءُ الدموع في الآماق؟

وليغتسل بدموعه إن استطاع, فدموع اللِّقاء بعد الاغتراب تغسل القلوب, وتُطهِّر النفوس, وتطفئ لهيب الشوق, وتبدله بقطر ندى اللُّقيا, وسعادة الوصال والاتصال بعد الهجر والانقطاع؛ وبذلك يتهيَّأ المحرم لتكحيل عيني بصيرته برؤية بطن مكة والحرم.

فإذا صار على مقربة من البيت -ذاته- أنطق لسانه وجوارحه بتلك الكلمات النبويَّة, ليُهيء القلب والعقل والوجدان وسائر الجوارح لاستقبال النفحات الإلهيَّة، ثم ليُشر إلى الحجر الأسود, أو ليستلمه، دون مضايقة لأحد.

ليبدأ «سباعيَّة الطواف» واستيعاب حكمها وأسرارها، ومنها: ارتباط قلب الإنسان دائمًا بالله وطوافه حول اسمه –جل شأنه- فالطواف تعبير عن ذلك وعهد مع الله –تعالى- وأنّه لن ينسى ذكر الله بعد انتهاء طوافه وحجه. ومنها: أن الطائف بقلبه سوف يتحرر إذا أحسن الطواف وتمثَّل معانيه، من قيود التدين الجغرافيِّ والقوميِّ إلى العروج إلى «المدار الكونيِّ»، بإذن من أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام, فيعرج بصحبة خاتم النبيّين إلى تلك الآفاق الكونيَّة التي ارتادها أبوه إبراهيم بعيني بصيرته، وارتادها هو من بعد. وبعد جولته تلك أعلن: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام:79).

إنَّ العروج من المطاف يسمو بالإنسان إلى مستوى إنسانيّته, ويتجاوز به الحدود الإقليميَّة، والانتماءآت العرقيَّة والعنصريَّة، ويربطه بالأسرة الآدميَّة الممتدّة المستخلفة، وهو الذي يؤدي إلى التحرّر من «الإخلاد إلى الأرض» واتّباع هواه؛ إن وجوده في الأرض لا يُنسيه سباعيَّة أخرى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ (الطلاق:12)، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ (الإسراء:44).

وإذا كنَّا لا نفقه تسبيح السماوات السبع والأرضين السبع, فالطواف حول البيت يرتقي بنا للعروج إلى مستوى الكونيَّة، وبذلك نرتبط ببقيّة الكون المسبِّح لخالقه, بل نقوم بقيادة قافلة التسبيح, فنحن أبناء آدم المستخلفون في الكون, المسؤولون عن إعماره الذي لن نتمكن منه بدون التوحيد والتزكية.

والله قد آتى محمدًا سبعًا من المثاني والقرآن العظيم, بل أعطاه «الاستخلاف الكونيَّ» والرسالة الخاتمة لتحقيق «كونيَّة الدين», لتتخذ البشريَّة مدارها الموحّد حول اسم الله تبارك وتعالى، وهكذا «جمع الله لسيدنا رسول الله محمد بين القراءتين»: وجعل القرآن معادلا موضوعيًّا للكون وحركته: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *  إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل:89-90).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *