د.طه جابر العلواني
﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل:74-76).
إنَّ أهمَّ سبب ظاهر وكامن في أزمات أمَّتنا الراهنة، وقد يُشاركنا العالم -كلّه- فيها «أزمة مركَّبة»، جمعت بين أزمة الفكر والتصورات وطرائق التفكير، وبناء النظم الحياتيَّة التي بُنيت على طرائق تفكير مأزومة، لا يمكن أن تأتي بحلٍّ، وأخطر ما في هذه الأزمة أنَّها ضربت بجذورها، وبسطت أذرعها على سائر جوانب الحياة، بحيث لم يعد المصابون بها يشعرون بوجودها وهم يتخبطون في دركاتها ويتدحرجون إلى حضيضها.
تجتاح العالم موجات عنف صارت محيَّرة إلى حدٍّ كبير؛ جيوش تمارس العنف ضد مدنيِّين فتقضي على المئات منهم دون جريمة ارتكبوها، أو ذنب قارفوه، ومدنيُّون يمارسون العنف ضد أمثالهم، طائرات بدون طيَّارين تقذف بحممها هنا وهناك، سيارات مفخَّخة، دراجات ناريَّة وهوائيَّة ملغَّمة، وانتحاريون يُفجِّرون أنفسهم هنا وهناك، طلاب مدارس في سن المراهقة يقتلون طلابًا مثلهم ومدرسين، قتلة يقتلون وينتحرون، وقتلة يسلِّمون أنفسهم، وآخرون يهربون… والناس يقفون عاجزين مكتوفي الأيدي أمام ذلك -كلّه- ولا يملكون إلا أن يتساءلوا بحيرة عن الأسباب، وتختلف الأجوبة: فهناك من يعزو تلك الجرائم البشعة إلى ضعف الدين، وآخرون يعزونها إلى ضعف الأخلاق، وفرق أخرى تعزوها إلى ضعف التربية، ومشاهد العنف وأخبار الجرائم، أو للأزمات الاقتصادية والفقر… وكل تلك الأمور لها تأثير في ذلك ولا شك، لكنَّ سببًا هامًّا هناك، لا يلتفت الكثيرون إليه، إلا المعنيُّون بالقضايا النفسيَّة، وهو «الجراحات النفسيَّة» في نفسيَّة الإنسان المعاصر، ولعلَّ من أبرز تلك الجراحات ما يعرف «بنفسيَّة الإنسان المقهور»، ونفسيَّة الإنسان المقهور نفسيَّة مريضة مدمَّرة ومدمِّرة.
والإنسان المعاصر إنسان مغترب عن نفسه من ناحية، ومقهور يعيش حالة «انسحاق وقهر جبريَّة»، تجعله يشعر بالعجز أمام مئات أو آلاف الأمور، فهو مقهور أمام نظم الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيّة والدينيَّة المحرَّفة والمشوَّشة والأخلاقيَّة المضطربة، وسائر النظم والقوانين والأعراف والتقاليد، ومنها نظم المرور.
وحين لا يجد الإنسان لديه قدرة على مواجهة عوامل الجبر والقهر بحريَّة -يصحبها إحساس منه بالقدرة والانطلاق المنضبط- ينهزم وينجرح نفسيًّا، وينسحق، وتبدأ قواه اللامرئيَّة تبحث عن ميدان أو ميادين خفيَّة ينفِّس فيها عن قواه المكبوتة المقهورة؛ ليسترد الإحساس بالقدرة، فقد يقتل أطفالاً أو أقارب أو أباعد، وبالأشكال البشعة المستنكرة والمستغربة، وقد يخرِّب ويهدم، قد يتساءل الناس كيف تجرأ على قتل أطفال أو أبرياء؟ حين يفعل ذلك مجرم في إنسان صغير السن ويتصف بالبراءة، أو إنسان كبير نال منه ضعف الشيخوخة أو غيرها، فإنَّه لا يفعل ذلك بدافع السرقة أو الحصول على المال فقط، لأنَّه في أكثر الأحيان قد يحصل عليه دون مقاومة ودون حاجة إلى القتل؛ لكنَّ جُلَّ هدفه أن يمنح نفسه شعورًا هو بحاجة ماسَّة إلى التمتُّع به والإحساس به، شعور الإنسان القادر على التغلُّب على حالة الجبر والقهر والانسحاق وتجاوزها، ولو بمثل تلك الجرائم البشعة.
ولذلك كان الإيمان بالله وتوحيده في ألوهيَّته وربوبيَّته وصفاته العلاج الذي لا علاج سواه لهذه الجراحات النفسيَّة؛ لأنَّ الإيمان بالله إذا أُحسن فهمه حرَّر الوجدان وطهَّر النفس، وملأ الإنسان إحساسًا بالمعيَّة الإلهيَّة التي تهوِّن عليه مصائب الدنيا.
وقد ندرك الخطورة التي تعرَّضت مجتمعاتنا إليها بتهميش التربية الإيمانيَّة والتزكية والتطهُّر النفسيِّ، لا بد من إعادة بناء برامج التربية والتزكية والإعلام والتعليم بناءً سليمًا، يُزكِّي العقل ويُطهِّر النفس ويُحيي الضمير والوجدان.