د.طه جابر العلواني
الصبر نصف الإيمان، ونصفه الثاني الشكر؛ لأنَّ هذه الحياة أيامها دُول بين مكاره تتطلب من الإنسان الصبر عليها وبين أمور محبوبة مرغوبة تقتضي من الإنسان الشكر لله تعالى عليها. والصبر في معناه القرآني حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، وإذا كان حبس النفس عن الجزع لمصيبة وقعت سُمِّي صبرًا، وأجمل أنواع الصبر عند الصدمة الأولى، عند وقوع المصيبة، ويستعمل الصبر عند حبس الشجاع نفسه على مقاومة عدوه، ولو فقد صبره وترك الميدان هاربًا سُمِّي جبانًا، والله -تبارك وتعالى- امتدح الصابرين في البأساء والضراء، وامتدح الصابرين والصابرات على ما أصابهم، وأمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بالصبر على عبادة ربه وتحمل مشاق الدعوة إليه، وجعل الصبر والشكر من مصادر الحكمة: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم:5)، وفي سورة لقمان (31)، وسبأ (19) والشورى (33)، كما أمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بصبر شديد قائلاً له: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ (القلم:48) والإنسان (24)، ومن أسماء الله -تعالى- الصبور، ووعد الصابرين بالثواب العظيم فقال :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر:10)، وتفضَّل عليهم بمعيَّته فقال جل شأنه: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:46)، ووعدهم بحبه فقال:﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران:146)، وأمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بتبشير الصابرين، فقال له: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ (البقرة:155)، أي: برضا الله والجنة: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156)، وقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة:157).
ومَنْ فقد الصبر أضاع عمره وفرَّط في نفائس وقته دون أن يَرُدَّ ما فات أو يستعيد مَنْ مات، أمَّا مَنْ صبر واعتصم بالله -سبحانه وتعالى- فإنَّه يأنس بربه الذي يُلقي في قلبه الطمأنينة ويغمره بالسكينة ويُحيطة بالرحمة ويُبدله خيرًا مما فقد، ولم تُصب الإنسانية بمصيبة أقصى وأشد من إصابتها بفقد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ومع ذلك فإنَّ اصحابه وأهل بيته الذين كادت نفوس بعضهم أن تُفارقهم لفراق رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- سرعان ما ذكروا الله وأدركوا أنَّ الصبر هو زاد المؤمن وسلامته في المهمات والكروب.
إنَّ الله لا يُصيب الإنسان بالأمر يكرهه وإنَّه ليُحبه؛ لينظر كيف يستغني بالله عما عاداه، وكيف يتضرع إليه في نجواه وشكواه، والمؤمن يُبتلى ببلايا كثيرة؛ منها الأوجاع والأسقام والأمراض وفقد مَنْ يُحب ليعلم حقيقة الدنيا وسرعة زوالها وزوال نعيمها، ويتذكَّر أنَّ الدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، وأنَّ الدنيا ما هي إلا دار غرور، نعيمها زائل وسعادتها محاطة بالشقاء محفوفة بالمكاره، إنَّ المؤمن إذا أصابته السرَّاء شكر وذكر المنعم -جلَّ شأنه- فكان خيرًا له، وإذا أصابته الضرَّاء صبر فكان خيرًا له، ومنذ أن فقد المسلمون رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كان كل مَنْ يفقد عزيزًا أو حبيبًا في قلبه فإنَّه يُعزى بفقد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويُقال له: لو أن أحدًا دامت له هذه الحياة لصلاحه وتقواه وحاجة البشرية كلها إليه لما مات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أما وقد قضى الله -جلَّ شأنه- أنَّ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران:185)، خاطب نبيَّه الكريم قائلاً: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ (الزمر:30)، فإنَّ كل مصاب جلل وكل صاحب مصيبة إذا ذكر مفارقة حبيب الله وصفوته من خلقه لهذه الحياة الدنيا أدرك أنَّها ليست بدار قرار، وإنَّما هي دار عبور، إذا أضحكت في يومها أبكت غدًا، وإذا أسعدت في يوم أشقت في يوم آخر، فنسأله -سبحانه وتعالى- أن يُعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما يعلمنا، ويجعل لنا في رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أسوة، وفي صبر آل البيت وأصحابه قدوة، وقد خاطبهم الصديق -رضي الله عنه- بقوله: «مَنْ كان يعبد محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومَنْ كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت».