Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

مفهوم الأمَّة وواقعها

د.طه جابر العلواني

وردت كلمة أمَّة في القرآن الكريم في مواضع عديدة، وأُريدَ بها الجماعة من الناس الذين تجمعهم طريقة واحدة ورؤية واحدة، وتسود بينهم معرفة وثقافة واحدة، كما يُراد بها الأصل والمرجع والقصد وما إلى ذلك، فهي اسم لمن يجتمعون على أمر هام ويشتركون في رؤية ومنهج وغاية… وما إلى ذلك من أمور هامة، وأُطلقت مرة على إبراهيم -عليه السلام- للإشارة إلى فضله وأهميته، وأنَّه أصل يُتَجَمَّع حوله، فقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ (النحل:120).

وأمَّتنا المسلمة شكَّلها القرآن الكريم، فهو الَّذِي أسَّس رابطتها وبنى دعائمها، وأوضح منهاجها؛ لتكون الأمَّةَ التي تنظر البشريَّةُ إليها على أنَّها نموذج ومثال وقطب تلتفُّ حوله؛ ولذلك فقد ضمَّن الإسلام مفهوم الأمَّة أبعادًا كثيرة لا يمكن لها أن تقوم بها إلا إذا كانت أمَّة موحدة لا تطرأ عليها الفرقة، ومن تلك المفاهيم والأبعاد التي تضمَّنها مفهوم الأمَّة في لسان القرآن واللسان العربيِّ: الأمانة، والاستخلاف، والشهود الحضاريّ، والخيريَّة، والوسطيَّة، والابتلاء، والعمران، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وتكريم الإنسان وعدم استعباده، وتوحيد الله بالإلهيَّة والربوبيَّة والصفات، والإيمان بالأنبياء كافَّة، وحماية الضعفاء فيها من الأقوياء المعتدين، والإحسان إلى الناس كافة، وهذه كلها لا يمكن القيام بها والأمَّة مفرَّقة إلى طوائف ومذاهب وفئات وأحزاب وما إلى ذلك.

ولذلك كانت وحدة الأمَّة ركنًا أساسًا من أركان إيمانها، ودعامة هامَّة من دعائم وجودها، فإذا تفرَّقت كلمتها فإنَّها تتحول عن كل تلك المعاني لتصبح غثاءً كغثاء السيل، لا تنفع ولا تدفع عن أجزائها شرًّا، ولا تجلب لها نفعًا، وتصبح قابلة لإذلال غيرها لها؛ ولذلك فإنَّ عصمتها تكمن في وحدتها وتضامنها وتكافلها، وإذا فرَّطت بوحدتها فكأنها تُفَرِّط في وجودها وحياتها وحاضرها ومستقبلها، إضافة إلى تفريطها في دورها وموقعها بين البشريَّة.

وهذه الأمَّة في حاجة دائمة إلى المحافظة على وحدتها وعلى قوتها ومعرفتها وعلمها، وقابليَّة التجدُّد والحيوية فيها، وتجاوز العجز، ويأبى مفهوم الأمَّة الظلم والطغيان والخيانة ومجافاة الأمانة والتطرف والتعصب وممارسة أي شيء يُفرق كلمة الأمَّة ويُفسد ذات بينها.

ومن المؤسف أنَّ مفهوم الأمَّة في عصرنا هذا قد جهله الكثيرون، مما أدَّى إلى ضعفه في قلوب الناس، وأوجد لديهم استعدادًا للتفرق والتمزق ومجافاة الأخ لأخيه، فصارت الأمراض المختلفة، والاختلاف والفرقة، هِيَ السمة الغالبة، فتراجع دورها وصارت كما في الحديث الشريف الَّذِي أخرجه أَحْمَد عن ثوبان، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ السَّلامِ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلَّم: « يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»، بمثابة قصعة، تداعى الأمم إلى أكلها، كما أصبحت هيِّنة على خصومها وأعدائها، يجترؤ عليها وعلى النيل منها من لا يدفع عن نفسه، فلم يعد لها في قلوب الدول والبشر ذلك الاحترام أو التقدير الَّذِي حظيت به حين كانت أمَّة موحدة.

وقد كتب السيد جمال الدين الأفغاني مقالة هامَّة في صحيفة باريسيَّة (عام 1300هـ)، صدَّرها بمقدِّمة طويلة وصف فيها الحالة قبل (130) عامًا، جاء فيها -بعد مقدِّمة طويلة عن الإنسان وكرامته، وأهميَّة استخدام الإنسان لعقله وشرف الإنسان؛ قوله رحمه الله: “إنَّ الشرق بعد ما كان له من الجاه الرفيع سقط عن مكانته، واستولى الفقر والفاقة على ساكنيه، وما غلب الذلُّ والاستكانة على عامريه ولا تسلَّطت عليه الأجانب، ولا استبدت بأهله الأباعد، إلا لإعراض الشرقيِّين عن الاستنارة بعقولهم، وتَطَرُّق الفساد إلى أخلاقهم. فإنَّك تراهم في سيرهم كالبهائم، لا يتدبَّرون أمرًا ولا يتَّقون في أعمالهم شرًّا، يكدُّون لجلب النافع ولا يتجنبون عن المضار، طرأ على عقولهم السبات ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم، وعميت أبصارهم عن إدراك النوازل التي أطاحت بهم، يقتحمون المهالك ويمشون المداحض، ويسرعون في ظلمات هوتها نفوسهم، ونشأت عن أوهامهم المضلَّة، ويتبعون في مسالكهم ظنونًا قادهم إليها فساد طبائعهم، لا يُحسون المصائب قبل أن تقصم أجسادهم، وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها واندمال جراحها، ولا يشعرون -لاستيلاء الغباوة على عقولهم وسيطرة ظلمات غشاوة الجهل على بصائرهم- بالزائد التي خُصَّ الإنسان بها من حب الفخار ومن طلب المجد والعزة وابتغاء حسن الصيت وبقاء الذكر؛ بل لاستيلاء الغفلة على عقولهم، يحسبون أن يومهم الَّذِي هم فيه هُوَ كالسارحة، هكذا شأنهم، لا يدرون عواقبهم، ولا يدركون مآل أمرهم، ولا يحذرون مَا يتربص بهم عن أمامهم ومن خلفهم، ولا يفقهون مَا يُضمره الدهر لهم من الشدائد؛ لذلك تراهم قد رأوا الذل وألفوا الصغار، وأنسوا الهوان وانقادوا للعبوديَّة، ونسوا مَا كان لهم من المجد المؤتل والمقام الأمثل، لقد انهمكوا في الشهوات الدنيويَّة وغاصوا في اللذات البدنيَّة وتخلَّقوا بالأخلاق البهيميَّة وتوسَّدوا الكسل والفشل واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية، يفترس قويُّهم ضعيفهم، ويتعبَّد عزيزُهم ذليلَهم، يخونون أوطانهم، ويظلمون جيرانهم، ويستلبون أموال ضعفائهم، ويحنثون بعهودهم، ويسعون في خراب بلادهم، ويمكِّنون الأجانب من ديارهم، لا يحمون غمارًا ولا يخشون عارًا، عالِمهم جاهل، وأميرهم ظالم، وقاضيهم خائن، ليس فيهم هاد يرشدهم إلى سبيل النجاة…”، ثم تعرَّض في صفحات عديدة إلى الخيانات بين الدول والحكومات التي كانت قائمة تلك الفترة، فيقول: “إنَّ العثمانيِّين اتفقوا مع الروس على اقتسام بلاد إيران!! حين تغلب الأفغانيون على أصفهان أيام الشاة سلطان حسين، ولو نظروا بمنظار التدبُّر إلى الأمَّة الروسيَّة، وما لها من العلاقات مع اليونان والرومان وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانيَّة، وما يمكن أن تحوز في مستقبل أمرها من القوة والبسطة، مَا اختلج في بالهم محالفتها ولا خطر في أذهانهم مؤامرتها”، ويستمر السيد الأفغاني موضحًا كيف كان حكام تلك الفترة وما قبلها يتحالفون مع قوى عظمى وهم في غفلة من نتائج هذه التحالفات، فيقول: “ذهل العثمانيُّون تهاونًا منهم عن العلاقات التامَّة التي كانت بينهم وبين الهنود، وأنَّ سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا معارضة تحت لوائهم، وقدروا حينئذ على قلع الحكومة الإنجليزيَّة في الهند، وسدُّوا عليها طريق فتوحاتها في الشرق، وشاه إيران فتح بلاده إلى الإنجليز إرضاءً للإنجليز، وهدد الأفغان بالحرب” أ.هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *