Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الخصوصيّة

د.طه جابر العلواني

«الخصوصيَّة» من «خصَّ»، وقد ورد في الكتاب الكريم قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال:25)، أي: بل تعمُّكم. وقال تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة:105)، ويقال: «خصَّه بكذا، واختصَّه يختصُّه، وخصاص البيت: فرجة فيه، كأنَّها تكشف عمَّا يفترض أن يكون خاصًّا، و«الخواصُّ» تُقال: مقابل «العوام»، فالخاص يقابل العامَّ والشامل؛ والمراد «بالخصوصيَّة» هنا ما يختصُّ الإنسان به، بحيث لا يرغب أن تمتد إليه يد سواه أو عينه، ولا يرغب أن يطَّلع عليه غيره؛ وهذه الشؤون التي يود الإنسان إبقاءها في دائرة «خويصة نفسه» لا تتعدَّاها، منها عورته وعيوب جسده وحسِّه، وبعض الأمراض التي يخشى لو عُرفت إصابته بها أن يعتزله الناس أو يُحَقِّرونه.

وهناك نوع من الأمراض الأخلاقيَّة أو الخلقيَّة التي لا يرغب الإنسان بإطلاع الآخرين عليها، وهناك ما يضنُّ الإنسان أن يطَّلع أحد عليه غير أسرته، وهناك رسائله وكتاباته وما يأكل وما يتصرف به داخل بيته وفي غرفة نومه، وما لا يرى الإنسان لغيره حق الاطلاع عليه مطلقًا، وللناس أوضاع في بيوتهم، وأوضاع بين الناس، وهناك من يرى أنَّ اجتهاده في الذكر والعبادة شأن خاص به لا يريد أن يطَّلع عليه سواه، خشية الوقوع في الرياء.

وأعراف الناس وتقاليدهم تحدِّد أحيانًا ما يندرج تحت «الخصوصيَّة»، وقد تُسن قوانين تحدِّد ما يعدُّ مندرجًا تحت «الخصوصيَّة»، وقد تترك ذلك للعرف العام والتقاليد. ومن لطف الله ورحمته أنَّه قد حدَّد في كتابه العزيز ما يندرج تحت الخصوصيَّة، وحدَّد لنا آدابًا تُشكِّل -عند الالتزام بها- ثقافة سليمة وأعرافًا مستقيمة تحمي تلك الخصوصيَّات وتُحدِّدها بدقة، وحفلت سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وسيرته بما يُحذِّر من النيل من «حق الخصوصيَّة».

ولقد نظَّم القرآن الكريم وتأويله في السنَّة النبويَّة هذا الحق تنظيمًا بلغ حدَّ الإعجاز عن الإتيان بمثله في عصورنا هذه؛ فنهى القرآن المجيد عن اقتفاء آثار الناس للكشف عن عوراتهم: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا﴾ (الإسراء:36) «وعِرض الإنسان من خصوصيَّاته» و«العِرض» كما يُعرِّفه ابن الأثير: «هو موضع المدح أو الذم من الإنسان، سواء أكان في نفسه أو سلوكه أو سلفه أو أسرته»، فهو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويُدافع عنه لئلا يُنتقص أو يُعاب.

لقد بيَّن القرآن المجيد أهم الدوافع التي قد تدفع بعض الناس إلى تتبُّع عورات الآخرين للكشف عن خصوصيَّاتهم بأسلوبه المعجز، فقال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ (الحجرات:12)، فالبعض يرى -بحسِّه المريض- أنَّ إساءة الظن بالآخرين، وتتبُّع عوراتهم، والتجسُّس عليهم واغتيابهم، وانتهاك حرماتهم، والتدخُّل في خصوصيَّاتهم قد يمنحه شعورًا بالرضا عن نفسه، وشعاره أنَّه خير من سواه، متجاهلاً وخامة العاقبة وسوء المنقلب.

فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد منح دم المؤمن وعِرضه وماله الحصانة والحماية الإلهيَّة، وقد رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قوله: «… يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه، لا تتَّبعوا عورات المؤمنين؛ فإنَّ من تتبَّع عورة أخيه المؤمن تتبَّع الله عورته، ومَنْ تتبَّع الله عورته يوشك أن يفضحه ولو في جوف رحله؛ أو داره».

والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *