Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

العالميَّة والأطوار التاريخيَّة لرسالات الأنبياء

د.طه جابر العلواني

 اهتم القرآن المجيد برسم معالم «الحركة التاريخيَّة»، ونبَّه إلى أنَّ «تاريخ البشريَّة» قد بدأ بالنفس الواحدة، ثم بالعائلة الواحدة، ثم بالشعوب والأقوام، لتنتهي «بالعالميَّة»: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء:1)، ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13)، فالمرحلة التاريخيَّة الأولى تبدأ بآدم «النفس الواحدة» ثم «العائلة الأولى» آدم وحواء ومَن رُزقا به، ثم الأقوام: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ (الإسراء:3)، ثم يبرز قومان متناقضان: «قوم فرعون وبنو إسرائيل»، ثم يبرز أقوام كثيرون، يُصنَّف بعضهم بأنَّهم كتابيُّون، مثل بني إسرائيل، وآخرون بأنَّهم أميُّون بأحد معنيي «الأميِّين»، وهم الذين: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (يس:6)، ولكل مرحلة من تلك المراحل خصائصها ووعيها الحضاريِّ.

و«سورة البقرة» عند دراستها وتدبُّرها بعناية نجد فيها عرضًا في غاية الإعجاز والروعة لهذه المراحل التاريخيَّة -كلِّها- واعتبار القرآن الكريم يقدِّم خلاصة نهائيَّة لسائر المراحل التاريخيَّة، ثم يُبيِّن أنَّ ما يعقب هذه المراحل عالميَّة يكون رائدها وقائدها -في نهاية المطاف- هذا القرآن المجيد؛ ولسورة البقرة مقدِّمة تبدأ من أولها لتنتهي بالآية (29)، وهي مقدمة شديدة الأهميَّة، توضح أصناف البشر الثلاثة التي تستطيع أن تراها في كل زمان ومكان، وتوضح من خلال عرضها لصفات كل صنف من الأصناف الإنسانيَّة المتكررة الثلاثة: أنَّ الصنف الذي يُعوَّل عليه في بناء الحضارة وإقامة العمران هم «المؤمنون»، لأنَّ الفلاح منحصر بهم؛ ولأنَّهم موحِّدون، ولأنَّهم يُمارسون ما يُزكي نفوسهم، ويجعلهم أهلاً لحمل الأمانة وتحقيق الاستخلاف، وبعد هذه المقدِّمة الهامَّة؛ نتيجة الآيات من (29 إلى 39) لبيان المرحلة التاريخيَّة الآدميَّة تبدأ الآيات من (39 إلى 141) في عرض المرحلة التاريخيَّة الإسرائيليَّة، بما فيها مرحلة الصراع مع فراعنة مصر، التي انتهت بخروجهم بمعجزة حسيَّة (شق البحر) وهلاك فرعون -موسى- وجنده، وغرقهم في اليمِّ.

ومن الآية (141) إلى نهاية السورة بالآية (286) تناولت الآيات المرحلة التاريخيَّة العالميَّة؛ أي: المرحلة التي افتُتحت بمَنْ أُمر بمخاطبة البشريَّة -كلّها- وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: ﴿قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:158). إنَّ لكل مرحلة من المراحل -التي ذكرنا- خصوصيَّاتها الحضاريَّة ووعيها، وسنن تطوُّرها وسيرتها في التاريخ. والتاريخ زاخر بعدد هائل من الرسل والانبياء الذين أُرسلوا إلى الحضارات القوميَّة؛ ولذلك نبَّه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (النساء:164). أمّا «العالميَّة» فلم يكن لها إلا رسول واحد مضى -صلوات الله وسلامه عليه- دون أن يخطَّ يمينه شيئًا، وترك الكتاب الذي أنزل عليه في العالم رسولا دائمًا ونبيًّا مقيمًا يقود هذه العالميَّة في مراحلها العديدة، وهي أهم وأدق مراحل تكوين الإنسان علميًّا وحضاريًّا، وهو على ذلك قدير لو عرف أهله كيف يحملونه ويهدون أنفسهم ثم البشريَّة به!!

إنَّ حشد طاقات الإنسان، وتفعيل النـزعة العمليَّة فيه ليحقِّق الحضارة العالميَّة التي يقودها «المنهج الإلهيُّ»، ويجعل منها بديلاً عن حضارة الدمار والتدمير -التي يقودها إبليس وجنده- هي المهمة المنوطة بورثة هذا الكتاب: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32) وورثة الأنبياء، وأمام هؤلاء الورثة مهام أوليَّة وشروط مسبقة لا بدَّ لهم من استيفائها لتحرير الإرادة والوجدان من المفاهيم المنحرفة التي دُسَّت على معاني كتاب الله، وأشاعت مفاهيم تواكليَّة غريبة عن القرآن الكريم، فعطَّلت إرادة الإنسان، وشلَّت فاعليَّته، وقهرت طاقات الإبداع فيه، وما لم يتحرر من آثارها ويتخلص من سلبيَّاتها فإنَّه لن يكون جديرًا بحمل لواء القرآن المجيد… والله تعالى أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *