د.طه جابر العلواني
«التبنِّي» أن يتخذ رجل أو امرأة أو أسرة ابنًا لم يولد له أو لها، ابنًا يحمل اسم من تبنَّاه لا اسم من ولده أو ولدته. وفي العصور الأخيرة -بعد أن ضعف الوازع الدينيُّ والمسؤوليَّات الأخلاقيَّة، واستصغر الناس الكبائر؛ مثل «الزنا» وتساهلوا فيها- كثر «اللقطاء»، أو مَنْ يُطلقون عليهم اليوم «أبناء الشوارع»؛ وهنا بدأت في أوروبا وأمريكا وغيرهما تجارة رابحة أُضيفت إلى الأنواع الكثيرة من التجارات التي شهدها عصرنا هذا، وصار لها سماسرة وباعة ومشترون ووسطاء ومصدرون، وما فضيحة «المجموعة الفرنسيَّة» -التي ضُبطت قبل شهور في تشاد بالجرم المشهود- عنا ببعيد.
ولقد سألني كثيرون عن حكمة تشدُّد القرآن المجيد في رفض التبنِّي والمنع منه، وهذه المرة وجدتني مسوقًا إلى التدبُّر في قوله تعالى لسيدنا نوح -عليه السلام- وهو يناشد ربه ويناديه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (هود:45-46)، قال نوح بتسليم تام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (هود:47)، إنَّ عاطفة الأب في سيدنا نوح دفعته إلى سؤال الله في ذلك الموقف الحرج أن يهدي ابنه للانضمام إلى من معه في السفينة؛ ولكن ذلك الابن الموهوم الضالُّ رفض عرض أبيه ودخول الفلك، وآثر الانحياز إلى الكافرين: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ (هود:42-43)، والذي يستوقف المتدبِّر للقرآن المجيد -هنا- أمور كثيرة، فيمكن عقد نوع من المقارنة المتدبِّرة بين موقف إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- وموقف نوح وابنه. وأمر آخر… إنَّ الله -تبارك وتعالى- ذكر ذريَّة مَنْ حمل مع نوح في السفينة ولم يذكر ذريَّة لنوح نفسه، هذه -كلُّها- وكثير غيرها يستحقُّ التدبُّر؛ لكن ما يتَّصل بموضوعنا الأساسي «التبنِّي» أن الله -جلَّ شأنه- لم يُجب نوحًا حين دعاه لإنقاذ ولده بأنَّه ابن غير صالح، أو أنَّ عمله غير صالح؛ بل قال عن الولد ذاته: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ (هود: 46)، فهل لذلك علاقة «بالخيانة» التي وصمت بها امرأة نوح وامرأة لوط: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ (التحريم:10)، فهل كان ذلك الولد ليس من صلب نوح؛ بل جاء نتيجة خيانة زوجيَّة؟ فاستحق أن يُوصف بأنَّه «عمل غير صالح»؛ أي: هو نتيجة «عمل غير صالح»؟ الله أعلم!!
إنَّ رابطة الأبوَّة والبنوَّة رابطة متينة، وفيها تعاطف وانجذاب من كل منهما نحو الآخر، والعلم الحديث قد كشف عن «المكوِّنات الوراثيَّة»، فالعلاقة بين الأب والابن لا تقوم على الجوانب البيولوجيَّة والفسيولوجيَّة، ولكنَّّها تمتدُّ إلى الجوانب العقليَّة والنفسيَّة أيضًا، فقد يرث الابن من أبيه أو آبائه عبقريَّة، فلكل أبوين خصائص وصفات قد يرثها الأبناء، أمَّا المتبنَّي فيحمل خصائص وصفات ومواريث أبوين آخرين، فلا يمكن أن يتطابق وينسجم مع صفات وخصائص الأسرة التي تتبنَّاه بحكم تكوينه، ودوافع الشفقة والرحمة لا تستطيع أن تُزيل أو تحتوي الخصائص الوراثيَّة.
كما أنَّ التبنِّي -بشكله الجاهليِّ القديم والمعاصر- قد يُحدث مشكلات، ويؤدي إلى تجاوز حدود في المحرمات التي حدَّدها الله -تعالى- في مجال الأسرة، ومنح أسماءها -من أب وأم وابن وابنة وأخ وأخت وما إليها- سلطانًا لا بد من رعايته وملاحظته.