د.طه جابر العلواني
«الصلح» من «الصلاح»، ضد الفساد، وفي غالب الاستعمالات القرآنيَّة يختص الاثنان -الصلاح والفساد- بالأفعال. والقرآن المجيد يقابل «الصلاح» أحيانًا «بالفساد»، وتارة يضع «السيِّئة» مقابلاً له: ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:102)، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف:56-85)، وقد مدح القرآن الكريم الذين يقفون بوجه «الفساد»، فقال: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (هود:116).
و«الصلح» يختصُّ بإزالة «النِّفار» و«المشاقَّة» و«النـزاع» بين الناس، قال جلَّ شأنه: ﴿أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء:128)، وذلك في الصلح بين الزوجين، والمسارعة إليه لإزالة أسباب وأعراض «النِّفار»، وعدم السماح بتعدِّي ذلك حدود العلاقة التي أراد القرآن توطيدها وتوثيقها وحمايتها، والصلح تحميه التقوى، ويُعزِّزه الإحسان.
وفي النـزاعات بين طوائف أهل القبلة جاء قوله تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات:9)، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات:10)، وقد يعتري بالَ الإنسانِ القلقُ فيُفسد عليه «حاله»، وما يكترث به ويهتم به أو يبالي به؛ من حاله وذهنه ونفسه، وما ينطوي عليه، وفي هذا يقول جلَّ شأنه: ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ (محمد:2)، أي: أصلح حالهم.
ومن سنن الله التي لا تبديل لها أنَّه جلَّ شأنه: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:81)، فحين يتلبَّس الإنسان بالفساد، ويصبح الفساد صفة له، فإنَّ أفعاله لا تصلح ولا يصلح بها، حتى لو أخذت بشكل صالح الأعمال، فإنَّها لا تُعَدُّ في الصالحات، ولا تصبُّ في قنوات الإصلاح؛ ولا تُحقِّق مثل الثمار التي يقوم بها أو يفعلها الصالحون؛ لافتقارها إلى النيَّة الصادقة الخالصة، والبركة الإلهيَّة التي لا يمنُّ الله -تعالى- بها على المفسدين، الذين جاء في أعمالهم: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان:23)، فهو غير صالح؛ أي: مؤثِّرمحدثٍ للخير والنماء والبركة، فهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، لا في الأرض ولا في الحياة الدنيا، ولا يُثاب عليه في الآخرة، لأنَّه سوف يكون هباء منثورًا لا قيمة له ولا وزن، ولا نتائج طيِّبة.
أمَّا أولئك الذين أخلصوا دينهم لله -تعالى- وُصفت نواياهم، فأرادوا بكل ما قدَّموا وجه الله -تعالى- والدار الآخرة وخدمة عباد الله، فإنَّ الله -تبارك وجهه- قال فيهم ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (الأحزاب:71)، فإذا فات ذلك الصالح المصلح شيء من الاحتياطات والإجراءات -لقصور البشر- فإنَّه -سبحانه- يسدُّ ذلك النقص، ويجعل من بركته وسيلة لجعل ذلك العمل مثمرًا منتجًا، محققًا لمقاصد الخلق ورضى الخالق سبحانه.
تُرى هل لنا أن نتساءل في هذا المجال عن خطط التنمية في عالمنا الإسلاميِّ الخمسيَّة منها والعشريَّة، وما يشوبها من شوائب، وتحت أيِّ صنف من أصناف هذه الأعمال يمكن وضعها؟!
هناك جامع من جوامع مدينة استانبول زرته مرة فلفت نظري اسمه، كان اسم الجامع: «كأنِّي أَكَلْتُ»، فسألت عن تلك التسمية الغريبة، فقالوا: إنَّ مَنْ بنى هذا الجامع كان حمَّالاً فقيرًا يكسب قوته وقوت عياله من حمل البضائع على ظهره ونقلها من مكان إلى آخر، ورجل مثل هذا يحتاج إلى طعام جيِّد يجعله قادرًا على ممارسة هذه المهنة الشاقة، فكان إذا انتهى من عمله ذهب إلى مطعم يُقدِّم اللحوم المشويَّة، فأكل وحمل لأهله ما استطاع، وانصرف هانئًا، فدخل ذات يوم مسجدًا كان فيه واعظ يعظ الناس، فروى لهم حديثًا يقول: «من بنى لله مسجدًا، ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتًا في الجنَّة»، فاستمع الحمَّال الصالح إلى ذلك الحديث، وفي تلك اللحظة صمَّم -وهو من لا يملك أكثر من قوت يومه- على أن يبني مسجدًا جامعًا لله -تعالى- فقرَّر أن يستغني عن وجبته المفضلة «اللحوم المشويَّة» ويدخر ثمنها لبناء الجامع، فكان يذهب إلى ذلك المطعم ويأخذ كميَّة من الخبز والخضار الرخيص، ويجلس قريبًا من «الشوَّاية» ويضع رغيف الخبز ويشم دخان الشواء، ويأكل وهو يردِّد: «كأنِّي أكلت»، ويضع مثل الثمن الذي كان ينفقه في أكل اللحم المشويِّ في حصَّالة أعدَّها لهذا الغرض، حتى جمع المال اللازم لبناء المسجد فبناه، وأطلق عليه تلك التسمية الجميلة اللافته للنظر!! إنَّ الله -تعالى- قد أصلح عمل هذا الرجل وبارك فيه حتى تحوَّل إلى حقيقة ثابتة، أصلها وأساسها ثابت وفرعها في السماء.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة أمرت «بالصلح»، وأثنت عليه، ودعت إلى القيام به، والمبادرة إليه، وإحاطته بما يكفل بقاءه واستمراره؛ ليدخل الناس في السِّلم كافَّة، ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قد قام بتأويل وتفعيل ما أنزل الله إليه في الواقع، وكان لا يسمح للنـزاع أن ينشأ، فإذا بدت بوادر لذلك سارع -عليه الصلاة والسلام- إلى احتوائه وردِّ الأمور إلى نصابها قبل أن تتعقَّد؛ ولذلك استطاع -عليه الصلاة والسلام- أن يُقيم الأمَّة المسلمة في المدينة، ويبني المجتمع الأول وجيل التلقي، رغم مساكنة المشركين واليهود، ومؤامراتهم، ومحاولاتهم المستمرة لإفساد العلاقات بين المسلمين، وقد كان منهجه -صلوات الله وسلامه عليه- نبراسًا لو اتبعه المسلمون وتمسَّكوا بالكتاب وبه، وأقاموا الصلاة واستعانوا بالصبر والصلاة لما حدثت كل تلك الفتن والحروب التي ما تزال تفتك في جسم هذه الأمة، وتفرِّق كلمتها، وتضعها تحت تأثير أعدائها؛ ليتحكَّموا في مُقَدَّراتها.
إنَّنا أحوج ما نكون إلى تحويل «الصلح» إلى ثقافة لا تنمحي من ذاكرة أجيالنا، ولا تضعف ولا تسمح للعنف والشقاق والنـزاع أن يستولي على «عقل الأمة»، ويدمر حاضرها ومستقبلها، إنَّنا في حاجة إلى أن نجعل من «الصلح وآليَّاته» عِلمًا وفنًّا وبرامج دراسيَّة تدخل في جميع مراحل التعليم، وتعرَّف بها بتركيز يُناسب كل المستويات الشعبيَّة وكل وسائل الإعلام، وفي الوقت نفسه، لا بد من تجفيف منابع النـزاع والنِّفار والشقاق في كل جانب من جوانب الحياة، لعلَّ ذلك يؤدِّي بالتالي إلى سيادة ثقافة: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (البقرة:208).
إنَّ الدراسات المتعمِّقة لرصد منابع الشقاق -في الخطاب السياسيِّ والثقافيِّ والتعليميِّ والمذهبيِّ والدينيِّ، وإبدالها بمنابع لثقافة «التصالح والتسامح» تتغلغل في كل تلك المجالات، وتشكِّل بدائل صالحة- أمر لا بد منه، وبدون ذلك فإنَّ التمزُّق لن يُبقي من مقوِّمات الأمَّة شيئًا.