أ.د/ طه جابر العلواني.
فجرت قضيَّة الفتيات البريطانيَّات الثلاثة اللواتي زعم البوليس البريطاني أنَّه اكتشف سفرهن إلى تركيا في الطريق إلى سوريا والعراق للالتحاق بالصيع الضائعين من شباب القرامطة الجدد أو بقايا داعش والغبراء. وظاهرة تمرد الشباب الغربي في أمريكا وأوروبا وكندا واستراليا وسواها ظاهرة تبرز ثم تختفي منذ فترات طويلة، وبرزت في خمسينيَّات القرن الماضي مع مرور أوروبا والعالم بحربين عالميتين، وأطلقت على الحركات الشبابيَّة في أوروبا وأمريكا عناوين كثيرة منها: تمرد الشباب والحركات العنيفة، وقد برزت في زمن شارل ديجول في فرنسا بشكل قوي، وتعالت الأصوات في تحليل الظاهرة ومحاولة تفسيرها وفهم أسبابها، وعقدت الندوات ومُوّلت بحوث ودراسات، وربما تم تأسيس كثير من مراكز البحوث في تلك الفترة لدراسة الشباب.
وظاهرة تمردهم، والظواهر الأخرى التي تنشأ في تلك الفئات العمريَّة التي تنسب إلى الشباب، تعد من الظواهر التي تشغل أذهان المفكرين في الغرب، وبرزت فكرة الاحتقانات في المجتمعات الأوروبيَّة وأمريكا في تلك المرحلة على أنَّها تفسير له شيء من الوجاهة، ويحظى بمسحة منطقيَّة، وقيل: في حينها إنَّ معظم ما يصيب هذه الفئة ناجم عن احتقانات وكبت واغتراب حدث نتيجة فلسفات تغلغلت في الثقافة الغربيَّة والوجدان الغربي، وأنَّها في حاجة إلى التنفيس والتفريغ، وإلا فإنَّ تلك الطاقات التى يتمتع بها الشباب قد تفجر الأوضاع داخل الغرب.
إنَّ أمريكا وأوروبا قد قررا بعد نهاية الحرب العالميَّة الثانية في أوروبا والحرب العالميَّة في الولايات المتحدة أن تُصدِّر الاحتقانات الشعبيَّة في مجتمعاتها إلى الخارج، وتفجرها بعيدًا عن الداخل الأمريكي والأوروبي، فذلك أدعى للتقليل من خطرها ودرء أضرارها بمختلف الوسائل، بالإضافة إلى التصدير إلى الخارج، وشيطنة الخارج العربي الإسلامي، وتحويل شحنات العداء باتجاهه؛ ابتكرت رياضات العنف من مصارعة وملاكمة وغيرها، ورياضات العنف يمكن أن يكون فيها شيء من علاج وتفريغ، وكذلك إشاعة الانتماء إلى النوادي الرياضيَّة، وظهور فكرة اللاعب والمشجع، فالقادرون على اللعب يلعبون، والعاجزون عنه يشجعون؛ لتكون تلك الوسائل لتفريغ الطاقات الشبابيَّة لدى الجنسين، ومع ذلك بقيت مشكلات الشباب أقوى من تلك المحاولات كلها، فالشباب بطاقاته الكبيرة المتشعبة في حاجة ماسَّة إلى الاستيعاب، وكان العالم القديم يستوعب تلك الطاقات بالحروب والفروسيَّة وما إليها، وهذه كلها لم تعد في هذا العصر كافية لذلك، خاصَّة وأنَّ هنالك اختلالًا كبيرًا في نسب الشباب في كل بلد من البلدان، فهنالك بلدان دخلت حروبًا وقتالًا فقدت فيه مئات الألوف من أبنائها، فزادت فيها نسبة الشباب في مرحلة من المراحل وفقدت التوازن السكاني، وفيها من قلت عنده تلك النسبة، ولكل ذلك آثاره الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتربويَّة والتعليميَّة وسواها، والشباب أهم عناصر التغيير في المجتمعات، والقرآن المجيد لفت الأنظار إلى هذه المرحلة العمريَّة في أكثر من آية، ونجد ذلك في قصة أهل الكهف: ﴿..إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (الكهف:13)، وفي قصة سيدنا إبراهيم قال تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ (الأنبياء:60)، فنجد هذا الفتى يقف بمواجهة أمَّته كلها، ويعمل على تغيير وجهتها ويحطم أصنامها ولا يوقفه شيء بما في ذلك والده الذي أعيته الحيل في إقناعه بالكف عن ذلك أو التخفيف منه على الأقل، وأهل الكهف أولئك الفتية المعدودون وقفوا ضد مجتمعهم بكل فصائله، وحين يئسوا من هداية مجتمعهم آووا إلى الكهف وقرروا اعتزاله بانتظار فرصة قد تسنح في المستقبل للعودة إليه بمنهج إصلاح وتغيير بعد أن يكون ذلك المجتمع قد دخلته بعض التطورات، وغيرت من صلابة موقفه ضد الإيمان والمؤمنين. وأعمار الأنبياء حينما تبدأ رسالاتهم تمثل مرحلة وسطا بين نهاية الشباب وبداية الكهولة، فيكون الأنبياء قادرين على مواجهة شعوبهم وأممهم بدعواتهم بصلابة الشباب وعزيمتهم، وقدراتهم الجسديَّة، وحكمة الكهول، وطاقاتهم النفسيَّة والعقليَّة.
وقد تنبه كندي أثناء رئاسته إلى هذه الظاهرة فقرر تكوين ما سماه بجيوش السلام لاستيعاب الشباب الأمريكي، وتفريغ طاقاته بشكل موجه فيما هو مفيد، وصار يرسل شباب جيوش السلام إلى بعض البلدان النامية لتكوين علاقات وصداقات مع شبابها، ومساعدتها في مشاريع يفخر بها أولئك الشباب أن تركوا لأنفسهم ذكرى خارج ديارهم، واكتسبوا صداقات وأقاموا علاقات مع شباب تلك البلدان.
واليوم يتخذ الشباب الأمريكي والأوروبي من بلاد العرب والمسلمين ومن أفغانستان ميادين لتفريغ شحنات العنف والحماس لديهم خارج بلدانهم؛ فهناك سبعون في المائة من الداعشيين في سوريا ينتمون إلى جنسيَّات أوروبيَّة وأمريكيَّة، وأربعون في المائة من الداعشيين في العراق ينتمون إلى جنسيَّات أمريكيَّة وأوروبيَّة يفرغون كل عنفهم وشعورهم بالاستغراب في بلادنا. ترى هل نستطيع أن نعزو بعض أسباب التردد لدى الأمريكان والأوروبيين في مقاتلة الداعشيين إلى عدم رغبتهم في مقاتلة أبنائهم؟ أو إلى أنَّهم شجعوا إلى الخروج خارج أمريكا وأوروبا ليفرغوا شحنات حماسهم وطاقتهم وشعورهم بالاغتراب في هذه البلدان المسكينة مستفيدين مما أفرزته ظروف هذه البلدان من منعطفات أدت إلى أن (يقع المتعوس على خايب الرجا)؟.
ذلك وارد وممكن، خاصَّة وأنَّ أجهزة الإعلام تحمل لنا في كل أسبوع حوادث تجري في الغرب على أيدي مراهقين، أو شباب يقومون بقتل أسرهم، أو جيرانهم، أو زملائهم في المدارس، إضافة إلى ظاهرة الانتحار المنتشرة في تلك البلدان، فهل خرب الضمير الإنساني لدى هؤلاء فلم يكفهم أن جعلوا من صحارينا مدافن للنفايات النوويَّة فقذفونا بالمرضى النفسيين، والمحبطين؛ لينفسوا عن أنفسهم في بلداننا المنكوبة بدلًا من أن ينفسوا عنها في بلدانهم الأصليَّة؟ ولم ندفع نحن الثمن لذلك كله؟ وكلمة الإرهاب نفسها كلمة أفرزتها المفردات التي شاعت بعد الثورة الفرنسيَّة.
فهل من مدكر؟